من المفروض أن تكون الدول العربية بصفتها دولاً إسلامية من أكثر البلاد نقاء وخلواً من الفساد، ذلك أن الإسلام يطهّر النفوس من الشح والأنانية، ومن الميل للظلم والجور وهضم حقوق الآخرين، ولكن الواقع يقول إن الدول العربية ليست خيراً من غيرها من بلاد أهل الكتاب بل ليست خيراً حتى من بلاد لا يسود فيها دين سماوي، فالفساد في الدول العربية عمّ وانتشر حتى أزكمت رائحته النتنة الأنوف. إننا لا نقول إن دول العالم العربي هي وحدها التي ينتشر فيها الفساد، فالفساد أصبح سلعة عالمية على مستوى الأفراد كما على مستوى الدول، بل على مستوى القيادات الإدارية والمالية، التي تصدق عليهم مقولة (حاميها حراميها)، فلا توجد دولة تخلو تماماً من الفساد، في عصر العولمة، فالفساد متغلغل في الدول الغنية مثلما هو منتشر في الدول الفقيرة، ففي تلك الدول الغنية المسماة متقدمة يبدأ فساد الساسة حتى قبل الجلوس على كرسي الحكم، فالشركات الكبرى لا تتورّع عن شراء ذمم السياسيين وذلك بالتبرع لتمويل الانتخابات وشراء الأصوات، وذلك لجني الثمار لاحقاً. وكثير من المناقصات الخاصة بالمشاريع الضخمة ترسو على شركات تزيد مناقصاتها كثيراً عن الشركات الأخرى، وذلك عن طريق الرشوة أو لأن أحد مالكيها مسؤول كبير في الحكومة، وهو ما يزيد ما بين 15 في المئة و30 في المئة من كلفة المشاريع العامة، ولم تخلُ حتى الاستثمارات الأجنبية التي تقيمها الدول في دول أخرى من الفساد. وما يؤكد فساد الشركات الغربية الكبرى أن 500 شركة فقط من شركات العالم الصناعي تسيطر على النسبة الأكبر من التجارة العالمية، وهي في مجال عملها تنشر الفساد وتبث سمومه في الدول النامية التي تتعامل معها، وبتلك الطريقة تحصل على بلايين الدولارات، وتكون تلك المناقصات دائماً مجحفة بحق الدول النامية، ويتقاضى بعض المسؤولين في تلك الدول النامية عن ذلك الإجحاف مبالغ كبيرة من المال، غير آبهين بالأضرار التي تلحق باقتصاد بلادهم، والثمن الباهظ الذي ستدفعه شعوبهم. وإذا كان الفساد منتشراً في الدول المتقدمة فإن ما يميز تلك الدول عن دول العالم العربي ان أي شخص تكشف ممارسته للفساد يقع تحت طائلة القانون وينال عقابه مهما كانت مكانته السياسية والاجتماعية، بينما في العالم العربي يمارس كبار المفسدين فسادهم وهم في مأمن من كل حساب أو عقاب، ولا ينال العقاب إلا من لا ظهر له من صغار الموظفين. وفرق آخر بين الدول المتقدمة والدول العربية في ما يخص الفساد هو ان الدول المتقدمة تبذل جهداً مقدراً في محاربة الفساد، كما أنها لا تخفي مدى انتشار الفساد وتنشر الحالات التي يتم اكتشافها بشفافية تامة، وبنسب مئوية صادقة. وقد جاءت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية عام 2000 لمكافحة جرائم عدة منها جرائم الفساد، الذي جرمته المادة الثامنة من تلك الاتفاقية ومن ضمن الايجابيات في نص تلك المادة ان نطاق التجريم يشمل وعد موظف عمومي بمزية غير مستحقة او عرضها عليه او منحها إياه، او قيام موظف حكومي بطلب او قبول مزية ليست مستحقة له، كما أن التجريم يمتد الى الموظف العمومي الذي يمتنع عن القيام بعمل او فعل يقع ضمن نطاق ممارسة مسؤولياته الملقاة على عاتقه، هذا لأن من اهم واجبات الموظف ان يؤدي عمله على أكمل وجه من دون ان يتلقى أي مقابل او حافز او مزية مهما كان نوعها من أي طرف خارجي لحمله على أداء أحد واجباته الوظيفية. واذا أقدم الموظف على قبول أي من تلك الأمور فإن التجريم يقع في حقه ويعتبر الإقدام على فعل من هذا النوع فساداً، بل انه يعتبر رشوة لإخلاله بالقوانين والأنظمة واللوائح وإهمال واجبات وظيفته وسرقة المال العام والاختلاس. وعلى الرغم من وضوح نص المادة الثامنة من تلك الاتفاقية إلا أن الاتفاقية نفسها لم تنجُ من النقد البناء فقد وجهت لها بعض الانتقادات حول عدم دقة ووضوح نطاق التجريم في نصها، لذا لم يتوانَ المجتمع الدولي فقام بعقد الاتفاقية الدولية لمكافحة جرائم الفساد عام 2003، ودخلت حيز التنفيذ عام 2005، وجاءت نصوص موادها موضحة بجلاء تجريم الفساد بأنواعه كافة، من رشوة واستيلاء على المال العام وقبول الهدايا والإكراميات والمحسوبية... الخ، وصدقت الدول الموقعة عليها من خلال قوانينها وأنظمتها ولوائحها الداخلية ووضع السياسات الفعالة وتنفيذها بدقة لمكافحة جرائم الفساد. إذاً، الفساد يحارب في تلك الدول المتقدمة، ولا نزعم أن إجراءات تلك الحرب استطاعت القضاء على الفساد هناك، لأن الفساد له قدرة عالية على تطوير أساليبه والالتفاف حول كل القوانين التي تسن لمحاربته، وتجاوز كل الإجراءات التي توضع للحد منه، لكن المهم أن هناك جدية في محاربته، وان المحاسبة تطول أي إنسان مهما كانت مكانته إذا اكتشفت ممارسته للفساد. أما في الدول العربية فقد أصبحت للفساد إمبراطوريات داخل الدول، وأصبحت للمفسدين دروع لا يستطيع القانون اختراقها بل لا يحاول الانطلاق نحوها أصلاً. إن مشكلتنا في الدول العربية أننا إذا سرق فينا الشريف تركناه، وإذا سرق الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فالفقير الذي يسرق رغيف العيش ويسرق دراهم معدودة ليشتري بها دواء لابنه او أمه او والده المريض يقبض عليه ويسجن (ويبهدل)، اما بعض أصحاب المراكز الرفيعة والمراتب العالية فهم يسرقون (الجمل بما حمل) وهم في أمان من المساءلة والعقاب، بل انهم بهذه الأموال المسروقة يزدادون صعوداً في المناصب وسمواً في المراتب ويصبحون أكثر استعصاء على المساءلة ناهيك عن العقاب. أما في الدول الغربية، فإن القانون لا يفرق بين شريف ووضيع ولا بين غني وفقير، ولا بين سائق أجرة ووزير، فمن يطاله القانون سيحاكم، وعليه أولاً أن يترك منصبه الرسمي فوراً، وإذا لم يستقل فإنه سيقال، ومن بعد استقالته سيقدم للمحاكمة العادلة وسوف ينتزع منه ما أخذه من المال العام، ثم يواجه ما يحدده القضاء من أحكام. ومصدقاً لما قلناه فقد أوردت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي أن وزير العدل في الحكومة البريطانية شاهد مالك قدم استقالته قبل أيام في انتظار انتهاء تحقيق في مزاعم بأنه انتهك الأعراف الوزارية حيث طلب تغطية نفقات منزله الثاني من الأموال العامة عبر إساءة استخدام نظام العلاوة المخصصة للنواب لتغطية نفقاتهم. إن الفساد في الدول العربية بلغ مبلغاً خطيراً حتى أصبح واقعاً يعايشه الناس، ويخضعون لسلطانه، فلا تستطيع أن تقضي أمراً أو تتم مصلحة إلا برشوة أو محسوبية، والمال العام يؤكل جهاراً نهاراً، وتتضخم طبقة من الفاسدين والمفسدين يعيشون حياة بذخ ويغرقون في الترف بينما تزيد أعداد الطبقة المسحوقة التي تتضور جوعاً وتسكن بيوت الصفيح على أطراف المدن وهامش الحياة. ان ديننا وتقاليدنا وأعرافنا العربية تدعو للطهر والنقاء ومحاربة الفساد، ولكن للأسف بينما نجد ان وزير العدل في بريطانيا يستقيل لأنه قام بصيانة في منزله من المال العام فتجاوز المسموح به طالته العدالة لتطيح به، نجد أن في بعض الدول العربية أن من هو اقل من وزير يشيد ناطحات سحاب من المال العام، ولم يسأله أحد. نحن أولى بأن يكون القوم وكبار الموظفين عندنا طاهري الأيدي أتقياء الذمة، ونحن أصحاب العقيدة السمحة، أولى أن نكون أنظف البلاد من الفساد وأنقاها من الثراء الحرام، ولن يحدث ذلك إلا إذا طبقنا (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]