طوال حياتي في المناصب العامة راودتني حقيقة واحدة بقوة متنامية: ألا وهي أن عدم فهم قوة تأثير المعتقد الديني يعني الفشل في فهم عالمنا الحديث. لنستعرض الحقائق باختصار: هنالك ما يربو على بليوني مسيحي في جميع أنحاء العالم، وحوالي بليون و500 الف مسلم، وما يفوق 900 مليون هندوسي، و400 مليون بوذي، و24 مليونا من السيخ، و16 مليون يهودي. وهذه الأرقام لا تشمل أتباع المعتقدات الدينية الأخرى، وهي أرقام متزايدة باطّراد في أغلب المناطق. وما برح أتباع الديانات المختلفة يتقربون من بعضهم البعض أكثر فأكثر. وقد عاش المسيحيون والمسلمون واليهود في مناطق عديدة في الشرق الأوسط إلى جانب بعضهم البعض طوال عقود من الزمن. لكن هذا الاختلاط بين أتباع الأديان بات الآن يمثل جزءا من الواقع الديموغرافي في مناطق أخرى عديدة من عالمنا اليوم. ففي بريطانيا يمكن للمرء أن يشاهد في أي شارع من مئات شوارعها صورة مصغرة عن أديان العالم لا تفصلها عن بعضها البعض سوى أمتار قليلة. لقد أصبحنا في هذا العالم المتعولم بشكل متزايد أكثر ترابطا مع بعضنا البعض، لكننا كذلك في حالة أكبر من عدم اليقين. فما كانت تعتبر سابقا حدوداً واضحة المعالم للأصل العرقي والثقافة والهوية عادة ما تبدو الآن عائمة المعالم، حيث أن الاتصالات الإلكترونية والهجرة وتدفق التجارة العالمية جميعها تعرضنا لأفكار مختلفة عما توارثناه، وتكشف أمامنا تقاليد ربما لم نصادفها أبداً من قبل. وفي عالم كهذا يصبح دور المعتقد الديني أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث أنه إما يلعب دورا إيجابيا ويساعد في تعميق التفاهم لأجل الصالح العام، أو يمكن استغلاله ليصبح وسيلة تكرس الاختلاف والانشقاق وإغفال"الآخرين"وعدم الثقة بهم. وبالتالي فإن المعتقد الديني ستكون له في القرن الحادي والعشرين نفس الأهمية التي احتلها الفكر السياسي في القرن العشرين - بل أكثر من ذلك. ومن هذا المنطلق قمت بتأسيس جمعية الأديان في بريطانيا بهدف التعاون مع الآخرين من أتباع الأديان العظيمة لتسخير كامل طاقاتهم لتكريس قيمنا المشتركة وتحويل عالمنا ليصبح عالما أفضل للجميع. لهذا السبب كذلك تشرفت جدا بدعوتي للمشاركة في احتفال إهداء المركز المعمداني الجديد في الموقع المعمداني الرسمي في الأردن - وهو حدث مبارك يقام في موقع يمتد تاريخه عميقا في الزمن. إنه الموقع الذي يعتقد بأن يوحنا المعمدان قام بتعميد السيد المسيح فيه، وسيكون مفتوحا أمام جميع الطوائف المسيحية التي تتبع تقاليد العماد. إن هذا الموقع وهذا المركز يعكسان سخاء الملك عبدالله الثاني والعائلة المالكة في الاردن. وهما، بكل روعتهما، مجرد مثال على التزام العائلة الدائم ببناء علاقات أفضل بن أديان العالم. كما يبرهن المركز كيف يمكن لبلد غالبية ابنائه من المسلمين أن يحترم الأديان الأخرى ويسمح لها بحرية العبادة من دون أن ينتقص ذلك شيئاً من وحدته. بل على العكس أنا واثق أن ذلك يعزز وحدته، حيث أنه يمثل الانفتاح والتسامح والقبول بالآخرين، وهو تماما ما يدعو إليه القرآن الكريم. إن فكرة تحويل الموقع المعمداني إلى مقر عالمي يقصده الحجاج المسيحيون هي فكرة مهمة جدا وتنمّ عن أفق واسع: مهمة لأنها تقر بمكانة الدين المسيحي في تاريخ الشرق الأوسط، وهي مهمة كذلك لأن فيها إدراكاً بأن هذه المنطقة كانت موطن الأديان السماوية الثلاثة طوال قرون من الزمن. إنها منطقة كانت في القسم الأكبر من ذلك التاريخ موقعا للعلاقات بين الأديان، ليس بمجرد الحديث عنها، بل كذلك معايشتها يوما بعد يوم: على الأرض وفي الشوارع وفي الأسواق وفي العلاقات اليومية بين الجيران. بالطبع كانت وما زالت هنالك أوقات يسودها التوتر والاضطرابات. ففي تلك الأوقات من الطبيعي أن يميل المرء إلى رؤية العالم عبر عيون دينه أو أصله العرقي أو ثقافته وتقاليده. قرأت مؤخرا كتاب الكاتب اللبناني أمين معلوف"الحروب الصليبية بعيون العرب"، وهو تصحيح رائع لبعض أحداث التاريخ التي بدت مغايرة تماما لما تعلمته في طفولتي. لكن يبيّن التاريخ أن أتباع الديانات الثلاث قد وجدوا سبلا في أغلب الأزمنة للتعايش مع بعضهم البعض محققين مصالحهم المتبادلة وازدهارهم المشترك. إننا بحاجة لأن نعود إلى تلك الأيام ونبني على ذلك التاريخ لأجل صالح منطقة الشرق الأوسط وكذلك، وبالنظر إلى قيمتها الرمزية، لأجل صالح العالم بأسره. وهذا هو أحد الأسباب التي دعتني أنا وجمعية الأديان التي أسستها للتعاون مع جمعية التعايش وجامعة كامبريدج من أجل تأسيس"دار إبراهيم"لتكون ملتقى لأتباع الأديان الثلاثة، ويمكن من خلالها استكشاف وإثراء الجذور والقيم المشتركة لهذه الأديان. إنني أكنّ احتراما كبيرا لمبادرة العالم الواحد التي أطلقتها مؤسسة"آل البيت"الملكية للفكر الإسلامي منذ عامين. وقد أصدر تحالف الكنائس الإنجيلية مؤخرا ردا يحمل الكثير من المراعاة لمشاعر المسلمين استجابة لتلك الدعوة للانخراط في حوار أوسع بين الإسلام والمسيحية. وتشير كل من الدعوة الأصلية والرد عليها إلى أمر الحب المزدوج،"أن نحب الله ونحب جيراننا"، الذي يعتبر أرضية مشتركة ممكنة للحوار بين هذين الدينين العظيمين. أعتقد بأننا إذا حملنا تلك الفكرة في بالنا، وإذا غرسنا عملنا وحوارنا في ذلك الاعتقاد، فإن محاولاتنا تجاه تحقيق احترام أعمق وتفاهم أكمل ما بين الأديان - وهي محاولات إنسانية ليست على درجة من الكمال - لا يمكن أن تواجه الفشل، بل إنها لن تفشل أبدا. إن أحد أهداف العولمة هي أنها تقرّب الناس من بعضهم البعض. وفي مثل هذه الظروف يمكن أن يكون المعتقد الديني إما قوة سلبية تباعد ما بين الناس - بمعنى أن الدين يصبح وسيلة لإغفال فهم الآخرين - أو أنه يلعب دورا بنّاء من خلال التفاهم والحوار ما بين الأديان، ويجمع الناس في تعايش سلمي. أعتقد أن الفهم الأفضل للأديان الأساسية يعتبر واحدا من أهم المساهمات الفردية التي يمكننا تقديمها لأجل السلام. والآن فقط بدأنا نفهم مدى أهمية فهم الأديان بالنسبة الى مستقبلنا. واجب علينا أن ننجح. إذ أن تعاون الأديان العظيمة مع بعضها البعض في سياق تفاهم مشترك لأجل تحسين الصالح العام يمكنه أن يساهم أكبر مساهمة في القرن الممتد أمامنا. ومن خلال تعاون هذه الأديان مع بعضها البعض يمكن جعل القرن الحادي والعشرين أكثر ثراء بالنفس والطموح، وأكثر تركيزا على العدل الاجتماعي، وأكثر حساسية للضمائر ولتحسين أحوال الجميع. * رئيس الوزراء البريطاني السابق. نشر في العدد: 16788 ت.م: 22-03-2009 ص: 15 ط: الرياض