لعل أبرز ما أسفر عنه تزامن ملتقيين للشعر عقدا أخيراً في القاهرة، هو فتح باب السجال على صراع أجيال عدة على صدارة المشهد الشعري المصري، إذ بدا الأمر كأن تجاور الأجيال بات مستحيلاً، مثلما استحال تجاور الأشكال المختلفة للقصيدة. ففعاليات"ملتقى القاهرة الدولي الثاني للشعر العربي"الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة، وأضفى عليه طابعاً رسمياً، خلت تقريباً من شعراء وباحثين تقل أعمارهم عن الخمسين عاماً، وذلك على عكس ما ساد فعاليات"الملتقى الأول لقصيدة النثر"الذي نظمته مجموعة من شعراء جيل الثمانينات وشارك في أمسياته التي أقيمت في مقر نقابة الصحافيين المصريين في القاهرة أكثر من خمسين شاعراً من مصر ودول عربية عدة. وإضافة إلى ثنائية"الشباب"، وپ"من ليسوا شباباً"حضرت ثنائية قصيدة التفعيلة التي هيمنت على ملتقى المجلس الأعلى للثقافة عبر أسماء معظمها ينتمي إلى جيل الستينات وأجوائه، وعبر منح"رائدها"الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي جائزة الملتقى، في مقابل قصيدة النثر التي لم يكن هناك سواها في ملتقى نقابة الصحافيين، وإن غاب عن أمسياته الشعرية الخمس عدد ممن لهم بصمة واضحة في منجز تلك القصيدة سواء ممن ينتمون إلى جيل السبعينات أو الأجيال التي تلته. وشهد الملتقيان ما يشبه حرب بيانات، لكن المحصلة صبت في مصلحة"ملتقى قصيدة النثر"الذي بدا خطابه أكثر منطقية لجهة التعبير عن الطموح إلى التغيير وتجاوز الماضي، وهو خطاب متسق مع الآمال المطروحة في مختلف المنتديات، خصوصاً على المستوى السياسي، فضلاً عن نجاح الملتقى نفسه تنظيمياً في شكل فاق توقعات حتى منظميه، فيما شهد ملتقى المجلس الأعلى للثقافة ارتباكاً ملحوظاً في جلساته البحثية وأمسياته الشعرية على رغم ما توافر له من إمكانات بشرية ومادية، وجاء ختامه ليعزز التشكيك في صدقية الحدث برمته إذ بدا الأمر كأن رئيس المؤتمر الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي قرر منح نفسه الجائزة على رغم اعتبارات عدة تمنع ذلك، أهمها كونه رئيس الملتقى الذي منح جائزة دورته الأولى إلى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. وتلقى منظمو"ملتقى قصيدة النثر"ما اعتبروه الإشارة الأولى على نجاحهم المبدئي من كلمة الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة علي أبو شادي في الجلسة الافتتاحية ل"ملتقى القاهرة"الذي عقد تحت شعار"المشهد الشعري الآن"، إذ قال:"إن ملتقى قصيدة النثر إثراء لملتقى القاهرة ومكسب للشعر وللشعراء عموماً". وأضاف:"نؤمن بالتنوع ولا نملك ترف استبعاد فصيل شعري"، مشيراً إلى ان المجلس الأعلى للثقافة يسعى لأن يكون ملكاً لكل المثقفين، وأن يكون للشعر بمختلف تياراته". وتوالت الإشارات، ومنها مشاركة الشاعر العراقي الكردي شيركو بيكه سه، في الأمسية الشعرية الختامية لملتقى قصيدة النثر، علماً أنه أساساً من ضيوف ملتقى المجلس الأعلى للثقافة، وقرأ قصائد له باللغتين الكردية والعربية وخاطب منظمي الملتقى قائلاً:"يا شباب التجديد نحن بالاختلاف نتجدد، والإبداع لا علاقة له بالزمن أو بالعمر". وأدارت هذه الأمسية الشاعرة السورية لينا الطيبي التي استهلتها بتوجيه التحية نيابة عن المشاركين إلى منظمي الملتقى"الذين نجحوا في تنظيم مؤتمر لأجل القصيدة وحدها من دون أن يحسبوا حسبة واحدة لأنفسهم". وشارك في الأمسية محمد الصالحي وإدريس علوش من المغرب وحسين جلعاد من الأردن ونديم الوزة من سورية ومحمود قرني وفتحي عبدالله وحسن خضر ونجاة علي وجيهان عمر وشرف يوسف ومحمد متولي من مصر. وعقب تلك الأمسية قرأ الشاعر المصري فارس خضر بصفته عضو اللجنة التحضيرية البيان الختامي الذي اتسم بلغة هادئة مطمئنة ومتسامحة في الوقت ذاته، على عكس ما تضمنه البيانان اللذان ألقيا في الجلسة الافتتاحية. وجاء في البيان الختامي:"لم يكن في حسباننا أبداً أن تتشكل بهذا الوضوح صورة الملتقى الأول لقصيدة النثر، وها هو بين أيدينا ثمرة غضة تحتاج أكثر إلى مزيد من الرعاية والاعتناء قبل الحديث عن أية استحقاقات"، وتضمن البيان توصيات عدة أو لنقل آمالاً ساهم نجاح الملتقى في التعلق بها، ومنها الاستعداد لعقد الملتقى دورياً على أن يمنح جائزتين، الأولى لعمل شعري أول والثانية لأفضل بحث نقدي حول قصيدة النثر، وإطلاق مؤسسة أهلية هدفها رعاية التيارات الشعرية الجديدة تحت اسم"بيت الشعر العربي"، وأن يتجاوز الملتقى فكرة الانغلاق على أجيال بعينها بحيث يستوعب شعراء قصيدة النثر من مختلف الأجيال. وتقرر توسيع تشكيل اللجنة التحضيرية ليضم الشعراء نديم الوزة سورية وحسين جلعاد الأردن وعلي المقري اليمن وعلي الرباعي السعودية وخضير ميري العراق ومحمد الصالحي المغرب، لتبدأ العمل في التجهيز للملتقى الثاني على أن تكون مدته أربعة أيام بدلاً من ثلاثة"وأن تتميز فعالياته بالنوعية ودقة الاختيار ووضع معايير أكثر دقة للمحور النقدي عبر تشكيل لجنة علمية مسؤولة". وكان حجازي 74 سنة قال في افتتاح ملتقى القاهرة إن جوهر الشعر واحد مهما تعددت الصور والأشكال والأساليب. وأضاف أن الشعر"موجود في كل زمان ومكان باعتباره حاجة إنسانية تطلب الارتواء"، ومع ذلك تساءل:"هل هو موجود الآن كإبداع جديد"؟ ووصف حجازي الشاعر خليل مطران الملقب بشاعر القطرين والذي أهديت إليه الدورة الثانية لملتقى القاهرة للشعر العربي بأنه"ثمرة الثقافتين ورسول الرومانتيكية وحارس مجد الفصحى الناسك الزاهد والفارس المحارب دفاعاً عن حرية الرأي". وقال الأكاديمي التونسي عبد السلام المسدي في كلمة ألقاها خلال الجلسة الافتتاحية نفسها نيابة عن المشاركين العرب:"إن الذين جاهروا بالقول إن العصر هو عصر الرواية ما لبثوا أن استدركوا وثاب إليهم رشدهم النقدي، فمجد الرواية ليس مرهوناً بنكبة الشعر". ويمكن القول إن قصيدة النثر حضرت بقوة في"ملتقى القاهرة للشعر العربي"، على الأقل نقدياً، على رغم اتهام منظميه وعلى رأسهم مقرر لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بتجاهل شعرائها مع أنها، كما قال الناقد عبد المنعم تليمة، في افتتاح الملتقى الذي استضافته نقابة الصحافيين، تتصدر المشهد الشعري الراهن بعدما نجحت في استيعاب البلاغة الموروثة وتجاوزها في غير نهاية. وأشار رئيس اللجنة الثقافية في نقابة الصحافيين علاء ثابت في افتتاح ملتقى قصيدة النثر إلى أن اللجنة استضافت هذا الملتقى إيماناً بدور الشعر وترحيباً بالإبداع حتى ولو كان طريد المؤسسات الرسمية. وكان الشاعر محمود قرني عضو اللجنة التحضيرية لملتقى قصيدة النثر تساءل في كلمته في افتتاح الملتقى:"لماذا تذهب الدعوة إلى التجاور والتنوع أدراج الرياح؟ هل لأن النقد العربي أسرف على نفسه كما يقول إحسان عباس في تقييد الشعر بالدعوة المسرفة إلى مراعاة المقام واللياقة ودعم روح الاعتدال وعدم الايغال في الاستعارة والخيال إجمالاً والإعلاء من مقام اللفظ على المعنى والشكل على المضمون؟ وخلال الجلسة نفسها قرأ الشاعر فتحي عبد الله بيان الملتقى الذي جاء تحت عنوان:"ضد عسكرة الشعر"، موضحاً أن هذه التظاهرة الشعرية وما يصاحبها من فنون أخرى هي نوع من الاحتجاج المدني السلمي على عسكرة الشعر والثقافة معاً إذ أن القائمين على مؤتمر الدولة لم يحتكموا إلى مفهوم القيمة في الاختيار وانما اعتمدوا على الولاء والمساندة وعلى الجماعات اليمينية التي تهدر كل تجديد حتى يحصلوا على المكاسب كاملة من دون منافسة أو توزيع عادل، والحقيقة أننا لم نهتم بكل ذلك ولأن ما نرجوه أكبر وهو تجديد المجتمع من خلال عقد اجتماعي جديد بين القوة الاجتماعية الفاعلة وهذا لا يتم إلا في وجود معرفة جديدة تعطي لكل الفئات والشرائح حقها في الوجود الإنساني المتميز وكذلك حقها في التعبير مهما كان الشكل أو النمط المختار. ومنذ الجلسة الأولى لملتقى القاهرة للشعر العربي تجلى حضور قصيدة النثر نقدياً حيث قدم الشاعر حلمي سالم مداخلة بعنوان"دفاعاً عن قصيدة النثر"، وقدم الناقد محمد بريري بحثاً بعنوان"قصيدة النثر: حتمية ثقافية أم اختيار جمالي"؟ وفي موازاة ذلك اعتذر شعراء بارزون في تيار قصيدة النثر ومن أجيال مختلفة عن المشاركة في أمسيات ملتقى المجلس الأعلى للثقافة والتي أقيمت في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وفضل بعضهم المشاركة في أمسيات ملتقى نقابة الصحافيين.