مزيد من الجرأة هو ما كان يحتاجه"رباعي طويس"للموسيقى العربية، في الحفلة الموسيقية الغنائية التي أحياها في"دار الأوبرا"في دمشق قبل يومين. الحديث عن جرأة"ناقصة"يأتي من الهدف الذي جاء هذا الرباعي ليحققه، منذ أسسه عازف العود عصام رافع عام 2004، ووضع نصب عينيه مشروعاً موسيقياً يتحلى بروح"الابتكار والتجديد والجرأة"، مستلهماً دلالة التسمية التي اختارها. ف"طويس"632-710 م يعتبر المغني الأول في الإسلام، وطرح نفسه وتجديده بجرأة أربكت المجتمع الذي صار يتندّر عليه بين وسمه نذير شؤم في المثل الشائع وقتها"أشأم من طويس"، والاعتراف بعذوبة وجمال صوته في مثل آخر"أهزج من طويس". وفي شكل ما، جاء برنامج حفلة"طويس"ليمزج بين"أشأم"و"أهزج"، معاً. وإذا كان تقديم الرباعي قطعتين موسيقيتين، ألفهما عصام رافع، جاء بمثابة الدخول الى عالم التأليف في الموسيقى العربية من غير باب التقليد والاستعادة، فإن بقية برنامج الحفلة جاء أقل من عاديّ. ثمة مشكلة لا يتردد عصام رافع في الحديث عنها، ولو بشيء من الديبلوماسية. إنها قضية التأليف في قوالب الموسيقى العربية التي هي غالباً قوالب غنائية في الأساس. كيف تقدم مؤلفات في قوالب غنائية، موسيقية، من دون ان يكون هناك غناء؟ خصوصاً إذا كان الهدف من ذلك"إبراز"قوالب تأليف آلاتية بحد ذاتها و"تطويرها". هذه أسئلة ومفارقات تواجه مشروع فرق الموسيقى العربية، خصوصاً"طويس"، أو حتى المشروع الأكبر المتمثل في الفرقة الوطنية للموسيقى العربية، التي يقودها عازف العود رافع، والذي يصل إلى ان هناك"معضلة"تواجه التأليف المعاصر الآلاتي في"تعارضه"مع الغنائية لجهة إيجاد سياق مستقل له، وتعويد المستمع العربي على تلقيه. لكن في برنامج حفلة"طويس"لم تكن الممارسة مفيدة لنزعة التأليف الآلاتي. استضافت الفرقة في الحفلة ستة مغنين، قدموا قطعاً تراثية مثل"منيتي عز اصطباري"لسيد درويش، و"حبيبي يسعد أوقاته"لزكريا أحمد... وغيرها. أداء المغنين لم يكن فيه ما يلفت، باسثناء بعض التفريدات التي أثارت إعجاب الحضور، كما فعل المغني أيهم أبو عمار. والغريب هو استضافة الرباعي عازف التشللو محمد نامق. لم تكن الاستضافة بحد ذاتها محط الاستغراب، بل مردودها في الحفلة حيث بالكاد استطاع نغم هذه الآلة ان يُسمع، ولم تتح لها المساحة لتشكّل"صوتاً آخر"في ضمن اللحن. كان نصيب الموسيقى الصرفة غالباً، لكنها جاءت استعادية لمؤلفات قديمة وتراثية أيضاً. ويا ليت هذه الاستعادة حملت تصوراً جديداً، أو ان التصور الجديد أبرز ما يمتع ويضيف. بل جاء أداؤها أقل من المتوقع، ولم تقترب مما يقدمه"التخت الشرقي"من جرعة موسيقية تملأ نفس سامعها باللحن. كان واضحاً ان هذه"الاستعادات"ليست ملعب الفرقة. فهي أجادت في المؤلفين المعاصرين اللذين قدمتهما، وبدا التجريب فيهما ناجحاً لجهة إجادة العازفين استثمار المساحة المعطاة لآلاتهم في خدمة اللحن، سواء في الأداء الإفرادي، أو في الحوار الذي جاء بسوية مدهشة قياساً بمستوى ما قدم. حوار أبدع فيه عازف الناي مسلم رحال، عندما شكل ثنائياً مع العود، وكذلك العود عندما حاور القانون فراس شارستان في تقاسيم رائعة، فتحت إمكانات أمام الآلتين لم تكن في التوقع. كما ان الإيقاع بادي رافع وراغب جبيل كان متقدماً في التجريب، خصوصاً في استحضاره روح الإيقاعات الأفريقية، على خلفية، تعارضاً أو نشاذاً، وهي ترافق رقة نغم الناي أو العود. هاتان المعزوفتان تؤكدان أن الأفق ليس مغلقاً أمام التجريب في الموسيقى العربية، على رغم الشكوى من صرامة القوالب الغنائية، وصعوبة الانطلاق منها لتشكيل قوالب تخص الموسيقى الآلاتية وحدها. السؤال لماذا تحاصر الفرق الموسيقية ذاتها بهذه الاعتبارات، في حين انها تجيد خارج محدداتها؟ ولذلك كانت الجرأة تنقص الرباعي الذي في متناوله مؤلفات معاصرة، كي يقدمها بعيداً من"الرهاب"من رد فعل الجمهور في ظل حديث لا يتوقف، ولا يكف عن المبالغة، عن أذن المستمع العربي التي لا تطرب إلا للغناء.