لا داعي لانتظار الدم حتى نظهر اللون الحقيقي لجلودنا، خالد مشعل يعلن أن الله أهداه انتصارا وبدوره يهديه إلى نظام سياسي دنيوي، ولأسباب دنيوية ضيقة. وعاد علينا ممثلي الأمة بنصوص من مفردات، لا تدخل بميزان الكفر والإيمان بل بميزان مقتضيات اللحظة الراهنة وما تفرضه على النص بغض النظر، هل النص كافر أم مؤمن. العبد ذليل، ولهذا، المذلة لله وحده. العبد لا يفكر ولا يستطيع أن يصالح أو يحارب، ما كان للحرب الإسرائيلية المطلقة في غزة وقبلها في لبنان وقبلها في الضفة، حتى لو كانت كاوية، أن تطلق الغيلان المقيدة وتدفع إلى استنفار مطلقاتنا، لولا أن ظهورنا في الأصل تكاد تكون ملتصقة بالجدار. إن مجتمعات مفقرة، محجورا عليها سياسيا، حظيت بتعليم متدن وحرمت من الثقافة والنقاش الحر، وفيها طبقات وسطى بالغة الهشاشة، مجتمعنا محروم بعدُ من التماسك الذاتي وتطوير بنية ذاتية، مجتمعنا مرشح للانفعال المادي المؤسس على ثقافة الخوف، والعبد لله وللسلطة، هذا يجعلها أسيرة رد الفعل، مجتمعنا لم يعد مؤهلا في ظل هذه السلطة الغاشمة على استيعاب اللحظة الإسرائيلية، كيف؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ وإلى أين؟ هل هذا قدرنا نحن السوريين؟ نفترض أن الأولوية لتشكّل مجتمعاتنا في صورة تمكن أكثرية سكانها من مستويات أفضل من الحياة المادية والتعليم والمبادرة السياسية والحيوية الاجتماعية. وهذه أولوية الأولويات وما بعدها، هو تعبير عن الانهيار ذاته وعن انسداد الأفق أمام الفرد، وتحوله إلى عضو متين في كتلة غوغائية. ما بعد هذه الأولوية هو بحث عن الذات في أمكنة خاطئة ماضوية أو لفظوية. تغيير الأوضاع السياسية والحقوقية والثقافية هذه لا يجعلنا أكثر حرية ودراية بمعنى الحرية، بل قد ينشط الطبقة الأحدث، الأكثر عقلانية وإنسانية من وعينا، فيجعلها اكثر قدرة على استيعاب ما حولها، ويجعلها تؤسس للمكن الدائم في الحياة اليومية، وفي تفاصيل الحدث والأمكنة. هذا ما يتعين على أية حال أن نعمل من أجله. على أن استرجاع مسارات التاريخ يدفع إلى التشاؤم. إن ألمانيا، وقد كانت أكثر استنارة منا وحداثة حين تعرضت لإذلال معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، قد سلمت روحها للنازية بعد عقد ونصف من نهاية الحرب. وسرعان ما اندفعت تحطم أوروبا بعد سنوات قلائل، شاوية في دربها ستة ملايين يهودي. هنا أيضا، لماذا نتوقع أن يكون أمر إذلال العرب مختلفا؟ هذا ما يستعيد ياسين الحاج صالح متكأه التاريخي، بمثال، لا يزال العالم يعيش ذيوله ونتائجه وسيبقى، بل يمكننا القول إن النتيجة الأهم هي المحرقة الفلسطينية. هل يمكن الحديث عن نهاية الفلسطيني هنا؟ يقول السيد زهير سالم نائب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، وفي معرض دفاعه عن موقف جماعته من تعليق أنشطتهم المعارضة ضد السلطة في دمشق التالي:"ورسالتنا تقول: من كان عنده فضل كلمة أو كلمة فضل فليذد بها عن أطفال غزة ونساء غزة وشباب غزة ورجالها. من كان عنده فضل كلمة أو كلمة فضل فليبذلها دفاعا عن كرامة أمة تستباح في غزة"فغزة اليوم هي كل المسلمين وكل العرب وهي النخوة والشرف وهي التاريخ والحاضر والمستقبل وهي الحضارة والمجد وهي أنا وأنت وأنتَ وأنتم وأنتن وهي هي وهو وهم وهن"غزة اليوم هي نحن في وجودنا الجمعي وضميرنا الجمعي وبقية روحنا الحي في جسد تفشت فيه الغرغرينا إلا قليل"، ونضيف أيضا غزة موقف سياسي تكتيكي لا مراء فيه. وغزة تصعيد لفظي من أجل أجندة لا تمت للواقع السوري بصلة. لماذا لم تتحول غزة إلى هذه الرمزية من القداسة واللغة المضمرة، بأن من لا يقف متصالحا مع نظام البعث هو في خندق عدم المدافعين عن شرف الأمة؟ لماذا تتحول اللغة الترميزية هذه الى ما يجعلها تقترب من الدنيويات الضيقة؟ وهل استشارت حماس الشعب السوري عندما قصفت إسرائيل بالصواريخ؟ ما هذه الهجمة اللفظية المقطوعة عن سياق الحدث على كل اللغات الممكنة؟ ثم يتابع السيد سالم:"في فقهنا السياسي واجب اسمه واجب الوقت لا يتقدم عليه سواه، ولا يشغل عنه شاغل، ولا يعتذر عنه إلا بعذر قاهر"، وهل هذا الواجب هو الذي اقتضى في هذه اللحظة بالذات التصالح مع النظام في دمشق؟ أم هو التكتيك السياسي؟ إذا كان التكتيك السياسي للجماعة يرى صحة هذا الموقف، فنحن نختلف معه ولكننا نقدره حق قدره، ونتفهم دوما اختلاف التكتيكات السياسية لأية قوى سياسية معارضة، وهم بالنهاية أحرار في تكتيكاتهم السياسية التي ليست على علاقة بلغة دينية بل هي لغة دنيوية بامتياز لا تصعد الموقف لعيون طفلة في غزة، هذا التصعيد يذكرنا به الآن خالد مشعل قائد حركة حماس عندما يهدي نصره في غزة إلى الرئيسين الأسد ونجاد. هل هذه الهدية تتناسب مع تغيير التكتيك أم مع التكتيك السياسي الديني أم الدنيوي ذاته؟ * كاتب سوري. نشر في العدد: 16745 ت.م: 07-02-2009 ص: 30 ط: الرياض