القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    آل الشيخ يرأس وفد المملكة في الاجتماع البرلماني الأممي    سعود بن نايف يدشن الخدمات الرقمية والكاميرات الذكية بالشرقية    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    «سعود الطبية» تستقبل 750 طفلاً خديجاً    لغز البيتكوين!    الوعد ملهم.. العام المقبل    وزير التجارة: الاهتمام بالجودة لم يعد خيارًا بل واجب وطني تجسد في رؤية 2030    وزير الدفاع يستقبل وزير القوات المسلحة الفرنسية    أعاصير تضرب المركب الألماني    الله عليه أخضر عنيد    «الأخضر» جاهز للقاء إندونيسيا.. ورينارد يكاشف الإعلام    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    ستة ملايين عملية عبر «أبشر» في أكتوبر    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    أعضاء حكومة ترمب.. الأهم الولاء والتوافق السياسي    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    سعودي يفوز بجائزة أفضل إخراج سينمائي في نيويورك    علاقات أمريكا والصين غموض مستمر وقلق يتصاعد    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    للمملكة فضل لا يُحدّ    للمرة الأولى دعوة لاعتبار هجمات إسرائيل على غزة إبادة جماعية    تكريم رجال أمن بالطائف    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    رابطة العالم الإسلامي تدين استهداف قوات الاحتلال لوكالة "أونروا"    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    وزير الدفاع والسفير الصيني لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    نائب وزير الخارجية يستقبل السفير الأمريكي لدى المملكة    إحباط 3 محاولات لتهريب أكثر من 645 ألف حبة محظورة وكمية من مادة «الشبو»    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    "التجارة": نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً    القمر الأحدب يقترن بكوكب المشتري اليوم    حملة ميدانية على الباعة الجائلين المخالفين في غرب الدمام تسفر عن مصادرة 168 طنًا من المتروكات    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    المتشدقون المتفيهقون    السخرية    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدارات - الشرق - ما هذا "الشرق"؟
نشر في الحياة يوم 18 - 12 - 2003


- 1 -
تقول: بدأنا نعترف. بأخطائنا. بهزائمنا. بتخلّفنا.
وتقول: مثل هذا الاعتراف مهمٌ في حدّ ذاته. وقد يكون بدايةً ومفترقاً.
تقول هذا بثقة.
أسألكَ، مع ذلك، هل نعترف حَقّاً؟
وأذكّرك: حين اعترف عبدالناصر بهزيمته في 5 حزيران يونيو 1967، "ثارَ" النَّاس عليه من المحيط الى الخليج، وكأنهم يصرخون في وجهه:
أنتَ لا تخطئ. أَلَم تكن ترجمة ذلك: من لا يُخطِئ، كيف يعترف؟
هل نعترف حَقّاً حتّى بهزائِمنا وكوارثنا في فلسطين، مثلاً؟ بأهوالِ الحروب العربية - العربيّة، وبالبشر الذين أبيدوا فيها؟ في السّودان، وحدها، قتل حتى الآن مليون ونصف المليون من أبنائه؟ ولن نذكر الجزائر، أو جارتها الصّحراء المغربيّة. ولن نذكر العراق، أو لبنان... إلخ.
هل نعترف، حَقّاً؟
وها هو أحدهم لا يعرف من الخطأ إلاّ أنّه "الآخر" العدو، الأجنبيّ، الكافر... إلخ. وها هو أحدهم ينكركَ قبل أن يعرفك، بل دون أن يعرفك. وها هو أحدهم يستنفِرُ في وجهكَ الظّلمات كلّها، منذ أن تشير الى الضّوء الذي يدلّ على الخطأ.
وها هي الحروب إِيّاها، هذه الحروب التي قضت على القانون ما القانون؟، والتي داست جميع القيم ما القيم؟، والتي شَرّعت لمختلف أنواع الفساد والانحطاط ما الأخلاق؟، والتي أَرْسَتْ لغةَ الخَلْطِ بين الجَلاّد والضحيّة ما اللّغة؟ والتي فَككت المجتمع، تدميراً ونَهْباً، ما الوحدة؟ ما البناء؟،
هذه الحروب كلّها ليست موضوع تفكيرٍ حتى عند الذين سبّبوها، أو قاموا بها أو تحمّلوا نتائجها. وليس البشر الذين ماتوا فيها موضعَ تفكيرٍ، هم كذلك - كأنّهم حَصىً أو هشيم. بل إن هذه الحروبَ كلّها تحوّلت الى صورة، مجرّد صورة.
وأين "الوجه" في هذه الصّورة؟ وأين "الدّم"؟
وأين "الأشلاء"؟ وأين "الآخرون"؟ وأين "البكاء"، و"الهجرة"، و"التّعْويقُ"؟ وأين "الماضي"؟ وأين "الأحداث" و"الوقائع"؟ وأين "الخراب"؟ وأين "الآثار" - جِراحاً لا تَشْفى، في الجسد والنّفس والفكر؟ وأين "الذّاكرة"؟ وأين الذين لا يُعرَف أين هم؟
هذا كلّه تحوّل هو كذلك الى صورة!
وكيف حدث أنّ الحياة نفسها، مجرّد الحياة التي أُعطيت للإنسان مرّةً واحدةً وإلى الأبد، الحياة التي هي "القدس" الأكبر، - كيف حدث أن تكونَ في حدّ ذاتِها، هَدفاً للقتل؟ وكيف حَدث أن تُقَطَّع بعض أعضاء الجسم الإنسانيّ، جسم أحمد أو بطرس، ليلى أو تيريز، وتُوضعَ في أَوانٍ شَفَّافةٍ، لكي يستمتعَ بها البصَرُ، وتطمئنَّ البصيرةُ؟ أو كيف حدث أن يُنحر طفلٌ في مهده الجزائر، بحجة انقاذه من هذه الدنيا الفاسدة؟
لكن هذا كلّه تحوّل هو كذلك الى صورة!
"الصُّورةُ هي نَظرةُ العدَم إلينا" موريس بلانشو.
-2-
هل بدأنا نعترف حَقّاً؟
ولماذا إذاً، لا نفكّر حَقّاً بما نعترف به؟ ولماذا لا يتخطّى اعترافُنا عتبةَ شكله اللّغويّ - اللّفظيّ؟ فيظلّ، بسببٍ من ذلك، دون معرفةٍ حقيقيةٍ تحيط بما اعترفنا به، كاشفة عن أصوله، تنقيباً، ودراسةً، وتحليلاً. بل إنّنا لا نكفّ، في اعترافاتِنا، عن إقامة العراقيل في وجه هذه المعرفة.
وهو، إذاً، يظلُّ نوعاً من "رفع العتَب". لا يدخلُ في "خُبْراتِنا". في رؤيتنا لحاضرنا ومستقبلنا إن كان لنا، أصلاً، مثل هذه الرؤية، ولا يشكّل نقطةَ انطلاقٍ في الخطط التي نرسمها إن كانت لدينا، أصلاً، مثل هذه الخطط.
كلّ اعترافٍ لا يولّد معرفةً جديدةً، لا يكون إلاّ شكلاً آخر للهرب من أنفسنا، ومن المواجهة والمجابهة، ومن العمل والتّخطيط.
وتظلّ رؤيتنا لتاريخنا مثاليّة تلغي معنى الاعتراف، لأنها لا ترى فيه غير الكمال، حائِلةً في ذلك بيننا وبين الدّخول إلى واقِعنا، وإلى معرفته حَقّاً، وإلى معرفة من نحن حَقّاً.
إنّها الرؤية - الحجاب. الحجاب الذي لا يزال يدفعنا إلى أن نسوّغ أمراضَنا كلَّها، وأشكال تخلّفنا جميعاً، مشوِّهاً علاقاتنا بأنفسنا، وبالآخر، وبالعالم. إنها الرؤية التي تفرض علينا أن نصرخَ دائماً، أو نهمسَ، وفقاً للحالة: إِيّاكَ أن "ترى"، وإياك أن "تقول". الأشياء كلّها لكي تُنقشَ في العقول والقلوب، إعجاباً وفخراً.
وفي كلّ حال، ليس الوقتُ وقتَ "الرّؤية" أو "القول".
وتُنبشُ الأقلام لكي تكفلَ الكذبَ، ولكي تَضمنَ كلَّ ما هو غيرُ إنسانيٍّ، وغير عقلانيٍّ. ولكي تمجّدَ تَسْليعَ الحياةِ، والاتّجار - بالمصائر -. وليس "المجتمع" هنا هو الذي "ينحر" فان غوغ، استئناساً بآرتو، بل إنّ "الفانغوغيّين" هم الذين "ينحرون" مجتمعهم".
هكذا، تَحدّثْ أمامهم عن "المجزرة" أمسِ، الآن، هنا، هناكَ - المجزرة التي لا تزال دماؤها تَصبغ الأيديَ والثياب، الشّوارعَ والطرق، البيوت والسّاحات، وسوف ترى أَنّهم بدلاً من أن يُصغوا، ويتعرّفوا، ويعرفوا، لكي يستعيدوا الإنسانَ فيهم، الإنسانَ الضّائع، يسنّون، على العكس، سكاكينهم وخناجرهم، وينقضّون عليك من جميع الجهات.
هل الحقيقة "وحشيّة" و"مؤذية" هي كذلك الى هذا الحدّ؟
هل "الخير"، إذاً، أن تعيش في الكذب - انسِلالاً وتسرّباً، أن تُلغِيَ "اللاّ"، أن توحِّد بين الصّوت والصّمت، وأَلاّ يرشحَ من شفتيكَ، في أسوأ الحالات، إلاّ كلمةٌ واحدةٌ بحروفها الثلاثة: "نعم"؟
والخير، إذاً، هو أن تُصغي إلى من يقولون لك، ناصِحين:
لا تمزّق الأقنعة. رتّب كلامكَ بحيث يحتمل أكثر من معنى: مَعنيين، على الأقلّ.
المماحكة، لا المناقشة. المواربة والمداورة، لا المصارحة والمجابهة.
التغطية، لا الكشف.
ونسوّغ انحطاطنا، بوصفه "صغيراً"، قياساً إلى انحطاط الآخر، "الكبير". وندافع عن جرائمنا بوصفها "قليلة"، قياساً إلى جرائم الآخر، الكثيرة. ونغض الطّرف عن جهلنا بحجة أنه "محدود"، قياساً إلى جهل الآخرين "غير المحدود". ونمجّد "قبرنا" قياساً إلى "المقابر" التي تحيط بنا!
ولماذا هذا النّزوعُ في الكتابة إلى الفَصْلِ بين "الحدَث" و"التّفكير في الحدَث"؟ كأنّما لا يجوز التّفكيرُ فيه هو بالذات، بل في "ما حوله"، و"ما وراءه": التقوّلات، الإشاعات، الأهواء، الميول، الخلافات، الغايات... إلخ، إلخ.
وكأنّما ينبغي على الكلمات أن تكون تغطيةً لا تَعريةً، أن تكونَ تمويهاً لا تعبيراً أو كشفاً، أن تُؤخذَ من المُعجَم السّائر بالتقاطٍ عَشْوائي، وأن يُنْطقَ بها أو تُكتبَ دونَ أيّ تأمّلٍ فيها - هي بذاتها.
هكذا صارت الكلمات نفسها نقيضاً للدِّقةِ والصّحة والدّلالة، تُفرَش "تَصوّراتُها" الخادعة، أمام البَصَر، فَتتطاول و"تتلألأ" كمثل سراب الصّحراء.
والكارثة، في شَكْلها الأكثرِ استهتاراً بعقل الإنسان، هي أنّ هذه "التصوّرات" مصادر أولى للآراء والنّظريات والمواقف السّياسيّة والثقافيّة والتّاريخيّة.
-3-
هل نعترف، حَقّاً؟
لكن، ما هذا "الشرق العربيّ"؟
لم يعد إلاّ "لفظةً"، بالنسبة إلى "مضمونه" أو إلى ما كانت هذه "التسمية"، تشتمل عليه من معانٍ ودلالات. لم يعد، بالأحرى، إلاّ دلالةً جغرافيّة.
وفي تحوّله أو تحويله إلى دلالة جغرافيّة، تَهدّم معناه "الحضاريّ" أو "الثقافي". وغُيّب المعنى "السياسيّ" للعلاقات بين شعوب هذا الشرق، والشعوب الأخرى، بعبارة ثانية: غُيّب معنى "السّيادة"، من جهة، ومعنى "الحوار" من جهة ثانية. ذلك أن الحوارَ لا يكون إلاّ بين أنداد، بين أطرافٍ كلٌّ منها سيّد نفسه، وسيّد حاضره، وسيّد مصيره. ذلك أَنّ التّبعيّة هي الآنَ الرّاية المرفوعةُ في رحاب هذا "الشرق العربي".
وهي تبعيّة تتجسّد على النّحو الأكمل في المرَض العُضال الذي يتملّك هذا الشرق: "مرض السّلطة".
إنه المرض الذي يجعل "أهل السّلطة" ينسون، بازدراءٍ واستهتارٍ، آلاف البشر الذين ماتوا في القرنين الماضيين، دفاعاً عن الاستقلال، والحريّات، وحقوق الإنسان، والعدالة، والكرامة البشريّة.
وهو نفسه الذي يجعلهم ينسون كذلك، بازدراء واستهتار، الآمال والأحلام التي دُمّرت، والآمال والأحلامَ التي لا تكادُ تنشأ حتّى تُدمَّر.
إنه المرَضُ الذي يكاد أن يمحو الفروقات بين الحرية والعبوديّة، بين الحجَرِ والكتاب، بين القلم والسيّف، وبين اللّغة والقَتْل.
- 4 -
هل نعترف، حَقّاً؟
لكن، بأيّة قوّةٍ تستمرّ ثقافَةٌ أو سلطةٌ لا تبرع إلاّ في صناعة السّلاسل؟
وكيف يريد بعضهم أن يتعرّفوا على "سماء" المعنى، إذا لم يتعرّفوا أوّلاً على "أرضه"؟ وهل ينهض "الطغاة" وحدهم؟ أليسوا في حاجةٍ إلى "عبيد" ينهضون على جثثهم، أو على "عقولهم"؟ من أين يجيء هؤلاء "العبيد" الذين يتواطأون لإقامة النّظُم الطّاغية؟ ولولا هذا "التواطؤ"، أكان هنالك "طغاة"؟ وكيف نحلّل هذا "التّواطؤ" الذي يكاد أن يُصبح "موضوعيّاً"؟
لا يمكن أن يكون "حاضر" أيّ شعبٍ، مختلفاً، جديداً، وإنسانيّاً، إلاّ إذا خرج من "ماضيه" ولا يمكن هذا "الخروج" إلاّ إذا كُشِفَ عن هذا الماضي - بقضاياه كلّها. إلاّ إذا "فُكِّكَ" تاريخه - بعقده كلّها، ومكبوتاتهِ كلّها.
- 5 -
نعترف؟
كلا، لا يعيش "الشرق العربيّ" مجرّدَ حالةٍ من "التأزُّم". إنه يعيش، بالأَحرى، حالةً من "الانحلال".
لا يتأزَّم إلا من يمتلك رؤيةً ومشروعاً، ويغامر دائماً في التقدّم نحو الأفضل.
الكوارث، الاجتياحات، الحروب المتواصلة، المذابح - هذه كلّها ليست في هذا الشرق العربي، علامة أزمة، بقدر ما هي علامة انهيار.
"الينبوع العربي" لم يعد يسقي أرضه ذاتَها. ولا بُدّ من أن نبحث في مسألة "جفافه": كيف، ولماذا؟
كان هذا الينبوع "يروي" وهو الآن لا يمنح غير "الظمأ". كان يجمع، وهو الآن ملكٌ على "الفرقة". وكان "يفجّر" وهو الآنَ "يطمس" و"يُعطّل".
الهويّة نفسها، هويّة هذا "الشرق العربي" تكاد أن تُصبحَ استيهاماً.
هل نعترف، حَقّاً؟ لكن هل يقدر "الغرب" أن يبسط أجنحته على هذا "الشرق" إلا بقدر ما يفتح هذا الشرق هو نفسه صدره، فسيحاً ورحباً لهذا الغرب؟ هل يقدر أن "يصهره" إلاّ بقدر ما هو مستعدّ لكي "يذوب"؟
وبفضل كبير من هذا "الشرق" لم يعد هذا "الغرب" مجرّد "جغرافيا"، تقابل "جغرافيا الشرق". أصبح الشرق العربي جزءاً عضويّاً من جغرافية الغرب. وأصبحت ثقافة الغرب الدنيوية - تقنيةً، ومعارفَ، وآداباً، جزءاً عضويّاً من ثقافة هذا الشرق. فلقد انتهى هذا الشرق بوصفه "حضارةً" أو "ثقافةً" متميّزة، وهو الآنَ آخِذٌ في "الذوبان" شيئاً فشيئاً في "المحيط الغربي".
ولا يزال هذا "الشرّق"، ينفر من كلمة "نهاية" ويرفضها. نهاية "تاريخه" ونهاية "فلسفته"، ونهاية "فنّه". لكن في هذا "النفي" أو هذا "الرّفض" يغامِرُ في أن ينكرَ نفسه ذاتَها. وفي هذا الإنكار لا يقيم إلاّ عرشاً واحداً هو عرش السَماء. غير أنه شبيهٌ بعرشٍ على الفراغ.
ولنتذكّر، إن كانت "الذكرى تنفع": إنشاء اسرائيل هو الذي أَنْهى، سياسيّاً، المشرق العربي، وهيمنة الغرب هي التي أنهته، ثقافيّاً وحضاريّاً.
ولنتذكّر، تبعاً لذلك: لم يعد الغرب مجرّد توسّع وانتشارٍ وهيمنة. إنه، قبل ذلك، "طاقة". طاقة خَلاّقة. إنّه "الفيروس" الكونيّ منبع للعدوى على جميع المستويات. وهو، في ذلك، "تغريبٌ" يكاد، أن يكون "موضوعيّاً". تغريب بالمعنيين: تذويبٌ للشرق في عالمية الغرب، وفَصلٌ لهذا الشرق عن ذاته "القديمة". و"الشعاع" الذي يخترق فضاء المشرق العربي، اليوم، و"يضيئه" و"يحرك" فضاءه العقليّ، وفضاءه العمليّ، إنما هو "الشعاع الغربي".
من زمن طويلٍ، انتهت حرب الحضارتين العربيّة والغربيّة.
الجزء الحيّ من الحضارة العربيّة، علماً وفلسفةً، تمثلته الحضارة الغربيّة، وأصبح جزءاً منها، وهو اليوم داخِلٌ في أسلحتها الهجوميّة على تخلّفِ هذا الشّرق.
نعترف؟
الخطوة الأولى للتميّز عن الغرب، إن كان يهمنا هذا التميّز هو نقده، حضاريّاً، لا سياسيّاً وحسب. والخطوة الأولى لهذا النقد هي نقد أنفسنا، حضاريّاً. والخطوة الأولى لنقد أنفسنا هي نقد ماضينا. والخطوة الأولى لهذا النّقد هي نقد فهمنا للدين، ولممارستنا الدينية. والمسألة، إذاً، هي كيف نبدأ؟
- 6 -
نعترف؟
لا تدافع. لا تتوقّف عن الهجوم.
ولئن كانت الذّاكرة في هذا الوقت "مثلومةً" فلا تزال تعمره أجسادٌ "مسنونة". وهي أجسادٌ لا تدفعها الى متابعة سيرها بخطواتٍ واثقة غير الآلام التي تزن الجبال. وتلك هي آلامنا اليوم.
-7-
نعترف؟ و"الهوامش"؟
كلّ ما نسمّيه ب"الهوامش"، ويزهو بها بعضهم، ليس إلاّ "أزهاراً" يُترَك لها أن تنتثرَ على الطّريق لكي يمرّ الموكب.
وأعرف أن النّسيانَ نوعٌ من الشفاء. والسبّب الأساس هو أنّ النّسيان نوعٌ من المرض كذلك.
وأعرف أنّ كثيرين لا يتجرأون على الجلوس حول مائدتي الكتابيّة. ذلك أنّهم يعرفون أنّ صحونهم ستكونُ مليئةً بنوعٍ من "السمّ" المعرفيّ الذي يستأصِلُ الظّلامَ والجهل.
هامش
1 - عمارة - صدّام.
فتاوى محمد عمارة "مجمع البحوث الإسلاميّة"، هذه الآونة الأخيرة، في تحريم التفكير والكتابة والشعر أحمد الشهاوي، نصر حامد أبو زيد، بحجة الطّعن في "ثوابت العقيدة الإسلاميّة"، تذكّر ب"فتاوى" "قيادة الثورة العراقية" المنقرضة، وسيّدها وملهمها الأكبر، صدام حسين، المنقرض بذلٍ "أكبر" يذِلّ جميع الذين تعاونوا معه - تلك "الفتاوى" التي كانت تحرّم الكلام والتفكير والكتابة بحجّة الطّعن في "ثوابت الثورة" كما أرساها "القائد الأكبر"، وهي:
تدمير العقل والإنسان والحياة، وبناء الموت.
برافو، محمد عمارة!
وأنتم، أيّها المتعاونون معه، نرجوكم أن تُصغُوا إلى "كفرنا" الذي ينبهكم، هو كذلك، الى أن هذا التعاونَ يضعُ الإسلام نفسه في زنزانة.
*
2 - تكفير "البهائية"، الحياة، ص 6، 14 كانون الأول ديسمبر 2003.
أقف، جذرياً وكليّاً، ضدّ مبدأ "التكفير" وضدّ من يمارسه، سواءٌ كان فرداً أو مؤسَّسةً. ذلك أنّ هذا المبدأ لا يلغي الفكر، وحده، أو الحريّة وحدها، وإنما هو إلغاءٌ للإنسان ذاته. وليس موقفي هذا دفاعاً عن "البهائية" التي "كُفِّرت" بقدر ما هو دفاعٌ عن الإسلام الذي كفّرت باسمه. والسؤال هو، إذاً: هل في الإسلام، حَقّاً، ما يلغي الإنسان، حَقّاً؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.