تخيم حالة من الجمود على العلاقات الأردنية - الإسرائيلية منذ شهور عدة، في حين تقتصر اللقاءات الرسمية على الحدود الدنيا، ولاعتبارات ضرورية ? في أحيان متعددة - تتمثل في تبادل الرسائل، ويأخذ أغلبها طابع القلق الأردني من الوضع الراهن في الأراضي المحتلة. التطور الجديد الذي انبثق مع العدوان الإسرائيلي على غزة يتمثل بأنّ مشهد العلاقات انتقل من حالة الجمود إلى التوتر، الذي لم يصل بعد إلى ما يمكن أن نطلق عليه"أزمة سياسية"، إنما مقدمات لها لولا حرص"مطبخ القرار"الأردني على عدم الوصول إلى تلك المرحلة، التي تمثل تحولاً غير مسبوق في العلاقات بين الطرفين، منذ توقيع معاهدة السلام عام 1994، سوى في لحظات عابرة خاطفة كما حدث عندما حاول"الموساد"الإسرائيلي اغتيال قيادي"حماس"، خالد مشعل، في عمان عام 1997. في التفاصيل، كان حرق العلم الإسرائيلي تحت قبة البرلمان، في الفترة الأولى من العدوان الإسرائيلي، باعتباره سابقة برلمانية أردنية، ورسالة رمزية وسياسية شديدة، لا تنسجم مع المقتضيات التقليدية للعلاقات الديبلوماسية بين الحكومات. تلا ذلك تصعيد من نوع آخر، على الجبهة البرلمانية السياسية أيضاً، تمثّل في إعداد البرلمان الأردني مذكرة للمحكمة الجنائية الدولية تطالب بمحاكمة قادة إسرائيل باعتبارهم"مجرمي حرب". إلاّ أنه وعشية الموعد المقرر لسفر رئيس اللجنة القانونية في البرلمان الأردني، مبارك أبو يامين، لتقديم الشكوى، تقرر تأجيل السفر، بناءً على طلب جهات رسمية أردنية. في المقابل، صدرت رسائل سياسية مقلقة عن بعض الصحف الإسرائيلية تكشف شيئاً عن الاستياء الإسرائيلي من التحركات السياسية الأردنية، وتشي ب"رسائل متبادلة"وأزمة تنضج على نار"غير هادئة"وراء الكواليس. الرسالة الإسرائيلية"الضمنية"من وراء تلك الأخبار تزعم أنّ المسؤولين الأردنيين حذّروا قادة إسرائيل من زيارة الأردن خلال الفترة الراهنة، لتجنب تداعيات الدعوة البرلمانية لمحاكمتهم على خلفية العدوان. وتثير تلك الرسالة تساؤلاً إسرائيلياً حول النشاط البرلماني المفاجئ"المناهض لإسرائيل"، وتجزم أنّ ذلك لا يخرج عن الموقف الرسمي الأردني، وذلك لقدرة الحكومة، تقليدياً، على ضبط الإيقاع البرلماني، بما لا يُحرج العلاقات الديبلوماسية الأردنية. "الاستياء الرسمي"الإسرائيلي يستشعر تحولاً في الموقف الحكومي الأردني، خصوصاً أنّ الحراك البرلماني والشعبي مصحوب بخطاب رسمي غير معهود سابقاً تجاه إسرائيل، كالذي ألقاه رئيس الوزراء الأردني أمام البرلمان، خلال العدوان، مهدداً بأنّ الأردن سيقوم بإعادة النظر في علاقاته مع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، لحماية مصالحه. وهو خطاب، وإن كان العديد يراه لتهدئة الجبهة الداخلية واحتوائها، يشكل"لغة استثنائية"في العلاقة مع إسرائيل. ربما يقر الجانب الإسرائيلي بالنزعة الشعبية المعادية له، والرافضة لاتفاقية السلام، وبوجود دواعٍ رسمية أردنية لاحتوائها، إلاّ أنّ القرار الرسمي بفتح الباب على مصراعيه لتحرك الشارع وفعاليات مناهضة بقوة لإسرائيل، يثير التفكير لاختلافه الكبير عن ديناميكيات المعادلة الداخلية الأردنية المجرّبة خلال الحروب الإسرائيلية المشابهة على"حزب الله"وعلى"حماس". بل ويمكن قراءة التحول الأردني في السجال السياسي الداخلي أيضاً، إذ لم يعد المسؤولون الرسميون والمقربون من دوائر القرار متحمسون، كما الحال سابقاً، تجاه العلاقة مع إسرائيل، ولا يدافعون عن معاهدة السلام. الملاحظة الإسرائيلية تُقرأ بامتياز ضمن اللحظة الزمنية الحالية التي لا يُخفي فيها مطبخ القرار الأردني في مواقفه وتصريحاته خيبة أمل كبيرة واستياءاً شديداً من السياسات الإسرائيلية، وتحديداً من التسوية السلمية، وهو ما يعزز هاجس"الخيار الأردني"المسكون فيه الطيف السياسي الأردني، والذي يرتفع منسوبه كلما تراجعت فرص التسوية. الملك الأردني نفسه وجه رسائل واضحة، تعكس حالة القلق هذه، أخرها قبل أيام قليلة أثناء لقائه حشداً من السياسيين، حينما رأى أنّ إسرائيل هي المهددة من غياب التسوية وليس الأردن، محيلاً إلى القنبلة الديموغرافية الفلسطينية التي تؤرق المعادلة الداخلية الإسرائيلية، ويرد بذلك على هواجس الشارع الأردني من ترحيل الأزمة الفلسطينية إلى الأردن. على رغم هذا التوتر الملحوظ واتساع الفجوة بين الطرفين، إلاّ أنّ الأردن يبدو حريصاً على عدم الانتقال لمسافة أبعد في هذا المضمار. فوفقاً لسياسيين أردنيين، مقربين من دوائر القرار، فإنّ الأردن ليس مستعداً اليوم، وفي هذه المرحلة الضبابية، أن يدفع وحيداً ثمن هذه الأزمة من ناحية، وأن يكون"كبش الفداء"لضعف الموقف الرسمي العربي من ناحية أخرى، خصوصاً أنه الدولة الوحيدة التي تحرك برلمانها لتقديم دعوى في المحكمة الجنائية الدولية. المفارقة أنّ هذا التوتر غير المسبوق بين الطرفين يتقاطع ويصطدم مع الدعاوى الإسرائيلية ب"وحدة موقف"مع"محور الاعتدال العربي"أصبح يطلق عليه اليوم"التضامن" ضد خط الممانعة الإيراني، وتتسرّب تصريحات إسرائيلية حول تفاهمات مع الدول العربية لضرب أدوات ذلك المحور وحول تأييد غير معلن للحربين الإسرائيليتين على"حزب الله"و"حماس". ف"مطبخ القرار"الأردني، يتوافق مع محور"التضامن العربي"في القلق من"النفوذ الإقليمي"الإيراني، إلاّ أنه، في المقابل، يدرك تماماً أنّ الجمود في مسار التسوية السلمية وعدم قيام دولة فلسطينية هو بمثابة"المفتاح الذهبي"للنفوذ الإيراني، ولتقوية الاتجاهات الإسلامية المتشددة ضد إسرائيل، سواء في الأردن أو الدول العربية المختلفة. إذاً، العلاقات الأردنية - الإسرائيلية غير مرشحة للتحسن في المدى القريب إلاّ بمقدار التحسن على مسار التسوية السلمية. وكلما تراجعت فرص التسوية، فإنّ ذلك سيلقي بظلاله على هذه العلاقات، وربما يلقي بها إلى مستوى الأزمة وما بعدها، وهو ما حرص"المطبع الأردني"على عدم الوصول إليه، على الأقل وحيداً خلال اللحظة الراهنة. * كاتب أردني نشر في العدد: 16762 ت.م: 24-02-2009 ص: 26 ط: الرياض