خصصت ذاكرة مصر التي أطلقتها مكتبة الإسكندرية على شبكة الإنترنت، قسماً يؤرخ لتاريخ الأوبرا المصرية، تعرض فيه بدايات هذا الفن في مصر ومراحل تطوره من عام 1841 وحتى سبعينات القرن العشرين. وتوضح صفاء خليفة التي شاركت في التوثيق، أن مصر عرفت فن الأوبرا في تشرين الأول أكتوبر عام 1841 عندما أتت فرقة متجولة إيطالية لعرض"أكسير الحب"في الإسكندرية، إلا أن قصة إنشاء الأوبرا القديمة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً في افتتاح قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل الذي كان شغوفاً بالفنون، ولذلك سميت بالأوبرا الخديوية واختير مكانها بين حيين من أهم أحياء القاهرة في ذلك الحين هما حي الأزبكية وحي الإسماعيلية. وفي عام 1869، قرر الخديوي إسماعيل باشا بناء دار الأوبرا في العاصمة وأرادها أن تكون تحفة معمارية لا تقل عن مثيلاتها في العالم، فكلف المهندسين الايطاليين افوسكاني وروسي بوضع تصميم لها تراعى فيه الدقة الفنية، والروعة المعمارية، فعملا على توفير الرؤية الجيدة من مختلف الزوايا ووضوح الصوت. واهتم الخديوي بالزخارف، فاستعان بعدد كبير من الرسامين والمثالين والمصورين لتزيين الأوبرا وتجميلها. واستغرق تشييد الأوبرا الخديوية ستة أشهر، وافتتحت في الأول من تشرين الثاني نوفمبر عام 1869 مع احتفالات قناة السويس. وحضر حفلة الافتتاح الإمبراطورة"اوجيني"زوجة الإمبراطور نابليون الثالث، والإمبراطور فرانسوا جوزيف عاهل النمسا، وولي عهد بروسيا، وفرديناند ديليسبس المهندس الفرنسي للقناة، وأقطاب السياسة والفكر والفن من أنحاء أوروبا. وباشرت الدار بعد ذلك في عرض الأوبرات مثل"لاترفياتا"و"التروفاتوري"و"فاوست"وغيرها. أما أوبرا عايدة، فقد عرضت في الموسم الثاني 1870- 1871 الى جانب"نورم ا"و"فاوست"و"عطيل"وغيرها، وكان يعاد عرض تلك الأعمال في فصل الصيف في مسرح زيزينيا في الإسكندرية. وترجع قصة عايدة الأصلية إلى أوغست مارييت الشخصية البارزة في عالم الآثار في القرن التاسع عشر، الذي طلب من الخديوي اختيار قصة من صفحات التاريخ المصري القديم تصلح نواة لمسرحية شعرية وقد نظم شعرها الشاعر الايطالي جيالا نزوك. اعتبرت دار الأوبرا المصرية الأولى في قارة أفريقيا، مسرحها واحد من أوسع مسارح العالم رقعة واستعداداً وفخامة، إذ كان يتسع ل850 شخصاً. واعدت في الدار العديد من الردهات المجهزة والمخصصة للراحة والتدخين، أما خلف المسرح، فقد بني من ثلاث طوابق. احتوى الطابق الأول على حجرات مخصصة لفرق الرقص والتدريبات، وغرف للممثلين، وفرق الإنشاد، والطابق الثاني كمخزن للديكورات، أما الثالث فاستخدم في حفظ الملابس والأثاث والأدوات. عرضت الدار الأعمال المألوفة، في موسم 1872- 1873، إضافة إلى"روبرت الشيطان"، و"روي بلاس"ولكن بعد عزل الخديوي إسماعيل، وتعيين ابنه توفيق، توقفت المواسم الرسمية لأوبرا القاهرة. بعد الحرب العالمية الأولى، توج الملك فؤاد ملكاً على مصر، وباتت المسارح تسمي ب"المسارح الملكية". ولاقت عروض الأوبرا في تلك الفترة نجاحاً على المستوى الفني، ولكن تكبدت خسارة مالية فادحة، مما دفع الحكومة الإيطالية الى تقديم إعانة مالية عاجلة. وتوالت الفرق الإيطالية على الأوبرا باستثناء فترة الحرب العالمية الثانية حتى عام 1971. وعلى رغم أن معظم الفنانين الذين عملوا في الأوبرا خلال مواسمها كانوا من الإيطاليين، بدأ في تلك الفترة ظهور أوائل الصوليست المحليين المتميزين، مثل السوبرانو الليريك رتيبة الحفني والسوبرانو الدراماتيك الراحلة أميرة كامل أول من أدت دور عايدة والمتزو سوبرانو فيوليت مقار أول من أدت دور امنيرس، اللواتي حققن نجاحاً عظيماً في ستينات القرن العشرين. وكان أبو الخير أفندي، أول مصري اعتلى خشبة مسرح أوبرا القاهرة، ومنصور غانم أول مصري يعمل كمشرف على المسارح الملكية عام 1937. بدأت الأوبرا تترجم إلى العربية منذ عام 1920، واحتلت مكاناً بارزاً في برامج"غاردن ثياتر"وأشهرها تلك التي لحنها سيد درويش الذي يعتبر الأب الروحي للموسيقي القومية الحديثة. ويعتبر محمد عبد الوهاب وحسن رشيد وأبو بكر خيرت وعزيز الشوان خلفاء لسيد درويش. أما أشهر المترجمين فهو سلامة حجازي الذي ترجم"نورما"،"لافريكان"الأفريقية و"كارمن". وأسست فرقة كورال أوبرا القاهرة عام 1956 وقللت الاستعانة بفرق الكورال الأجنبية، وهو ما حدث أيضاً بالنسبة الى الأوركسترا مع ميلاد أوركسترا القاهرة السيمفونية عام 1959. أما فرقة أوبرا القاهرة قد ولدت عام 1964 تحت رعاية وزير الثقافة آنذاك، وكان أول عرض لها في دار الأوبرا هو"لاترفياتا"باللغة العربية. وجسدت نبيلة عريان مديرة الدراسات الموسيقية في الكونسرفتوار دور فيولتا، وجسد حسن كامي التينور في أوبرا القاهرة دور ألفريدو. وسطع نجم حسن كامي عالمياً من خلال دور راداميس في العشرين من نيسان أبريل 1974 في فيلنيوس عاصمة لتوانيا، ليصبح أول مصري يلعب هذا الدور في تاريخ الموسيقي الغنائية. بعدها بدأ الفنانون المصريون تدريجاً في تصدر المواسم الدولية. عام 1968 عرضت أورفيو ويوريديتشي جلوك باللغة الإيطالية بفرقة مكتملة من المصريين. في فجر الثامن والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 1971، احترقت دار الأوبرا المصرية القديمة نتيجة لخلل في النظام الكهربائي، ولم يبق منها سوى تمثال الرخاء ونهضة الفنون وهما للفنان محمد حسن. وهكذا التهمت النيران مناظر الأوبرات والباليه التي تركتها الفرق الأجنبية هدية للدار اعترافاً منها بالدور الرائد لمصر في نشر الفنون الرفيعة، كما احترقت لوحات كبار المصورين التي كانت معلقة على جدار الأوبرا والآلات الموسيقية ونوتات مئات الأوبرات والسيمفونيات. نشر في العدد: 16758 ت.م: 20-02-2009 ص: 27 ط: الرياض