ترافقت الدورة السابعة والعشرون لمهرجان فجر السينمائي في طهران هذا العام مع الاحتفالات بالذكرى الثلاثين للثورة الإسلامية الإيرانية. لذلك كانت التظاهرات أكثر عدداً وكثافة مقارنة بالأعوام السابقة. إذ عدا مسابقة الأفلام الدولية، الآسيوية، السينما الإيرانية، الأفلام الروحية، ومسابقة العمل الأول والثاني، الوثائقية الطويلة والقصيرة، أضيفت مسابقة جديدة لأفلام الفيديو17 استجابة للعدد الكبير من الأفلام المنجزة بهذه التقنية في إيران في السنوات الأخيرة، ومنها أفلام التلفزيون. وأيضاً كان ثمة تظاهرات استعادة للغائبين من السينمائيين العام الماضي ومنهم يوسف شاهين وبول نيومان. بدأ المهرجان في الثلاثين من الشهر الفائت وانتهى في العاشر من الجاري. بيد أن عروض الضيوف الأجانب تدوم خمسة أيام فقط، وتجري في مجمع خاص من نوع قصر المؤتمرات، يحتوي قاعات عرض وجناحاً مخصصاً لسوق الفيلم. تعرض على الضيوف أفلام مسابقة السينما الإيرانية فقط لا سيما أن معظم هؤلاء، إن لم يكن كلهم، من مديري ومسؤولي المهرجانات العالمية الذين يجدون في هذه المناسبة فرصة لرؤية أكبر عدد ممكن من الأعمال الإيرانية. تسعة أعضاء يختارون الأفلام التي ستشارك في مسابقة الأفلام الإيرانية، ويعلن عن تلك مسبقاً ثم لا يجد بعضها مكانه على اللائحة النهائية لسبب أو لآخر، رقابي أو لعدم جاهزيتها في الوقت المحدد. هكذا، ستنتظر هذه الأعمال المهرجان المقبل لتقدم للجمهور كما يفضل العديد من المخرجين. حمل هذا العام 29 اسماً منها لمخضرمين مثل بهرام بيضائي"حين يستغرق الجميع في النوم"، وواعدين مثل أصغر فرهادي"عن إلي"، ولجدد نسبياً مثل حميد نعمة الله"بلا مورد"وفروز كريم مسيحي"تردد"وعبد الرضا كاهاني"عشرون"وبرويز شهبازي"عيار 14"، وأخرى باتت مكرسة كتهمينة ميلاني"النجم الساطع"وأبو الحسن داوودي"الوطن الأصلي"وحسن فتحي"ساعي البريد لا يدق ثلاث مرات". هذه الأسماء رشحت كلها لجائزة العنقاء البلورية السيمورغ. لقد أظهر عدد الأفلام المرشحة للمهرجان حيوية السينما الإيرانية ظاهرياً، لكن ماذا عن المضمون؟ في العدد الكبير من الأعمال التي عرضت في المهرجان، ثمة مستويات شديدة التفاوت. قسم منها لا يصلح إلا للعرض التلفزيوني وآخر للسينمائي التجاري، بيد أن بضعة منها بعض ما ذكر أعلاه، تحفظ للسينما الإيرانية سمعتها. في العقدين الأخيرين، نالت السينما الإيرانية جوائز عالمية وصلت على ما يبدو إلى الثلاثمئة، وعلى رغم الموانع الرقابية المتزايدة بدا أن الرقابة"تحرض صانعي الأفلام على اختيار مواضيعهم بعناية وعلى اللجوء إلى مهاراتهم العملية لمعالجة المواضيع الحساسة في شكل غير مباشر"كما يؤكد بعض النقاد. هروب الى الفانتازيا وربما كان اللجوء المتكرر إلى الفانتازيا، إحدى الوسائل للهروب من المباشرة. كانت هناك أيضاً محاولات للخروج من الشكل التقليدي للفيلم سواء على صعيد الحكاية ظهور ملاك ومنح قطعة من السماء لطفل فقير، بيع الأحلام، طفل لا يولد قبل غسل النفوس والبيوت...، أو في الأسلوب الإخراجي "أفلام داخل فيلم، سرد غير زمني..."، أو التقني"مؤثرات صوتية مضجة". وكان التجريب، بمعناه السلبي، على أشده. واعتمد بعض الأفلام على جمالية المنظر الطبيعي وكأن هذا يكفي لصنع فيلم لا سيما حين يعرض من دون إضافة فنية أو مبتكرة، كما اتكأ بعض المخرجين على أسماء نجوم ناسين أو متناسين أن الممثل لا يصنع فيلماً، وأنه مهما كانت مقدرته فهو لا يضيف شيئاً لسيناريو ضعيف ولإخراج هزيل. ثمة مواضيع تتكرر في السينما الإيرانية المحلية، كالإعاقة والشعور الديني والاستخارة، والوعظ والدعوة إلى السلوك القويم. وعلى رغم أن هذين الأخيرين لا يبدوان مقصودين مثلاً في فيلم تهمينة ميلاني"النجم الساطع"إلا أن الانطباع العام لا يمكن أن ينجو من تأثيرهما. يسرد"سوبر ستار"حياة ممثل كبير ونزواته وتعاليه على الجميع واستهتاره بكل القيم سواء في حياته الشخصية أو العملية ما يجعل منه شخصاً كريهاً إلى أن تدخل حياته فتاة صغيرة فتقلبها رأساً على عقب. أبدينا للمخرجة تعجبنا من ظهور زجاجة الخمرة في شكل واضح في الفيلم وكان هذا ممنوعاً في ما سبق في الأفلام الإيرانية. ردت ميلاني المخرجة العالية الشعبية هنا، أنها خرقت في فيلمها ثلاثة محرمات حين حكت عن"العلاقة غير الشرعية مع النساء، والخمرة والمخدرات". هنا قد يمكن التخمين أنه وبما أن"الهداية"قد تمت، فإن إبداء ما"قبل"كان ضرورياً ومسموحاً به لإظهار ما"بعد". الممثل شهاب حسيني نال جائزة التمثيل الأولى عن دوره في هذا الفيلم وكانت جائزة مستحقة. وحسيني ممثل جذاب وله حضور قوي على الشاشة ومن الأسماء التي تصعد بسرعة هنا وكان حاضراً في عدة أعمال في وقت واحد منها في"عن إلي". فيلم"ليلة وحدة طويلة"لرسول صدر عاملي يتمحور حول الشعور الديني ودوره في تقبل الإنسان للمشاكل المستعصية، كالأمراض مثلاً وهو يدور في مدينة مشهد. الفيلم تلفزيوني حول إلى سينمائي"لجودته". وساعد الإخراج السلس وأداء النجمة ليلى حاتمي في إنقاذ السيناريو الضعيف. ليلى حاتمي نالت جائزة التمثيل الأولى إنما عن فيلم آخر هو"بلا مال"، الشريط الثاني لحميد نعمة الله. وهو عن زوجين يعانيان مصاعب مالية بعد زواجهما. يتابع هذا المخرج هنا العمل على عكس مشاكل مجتمعه بإيقاع هزلي. فيلم"عشرون"لعبد الرضا كاهاني رشح لجائزة أفضل فيلم. كان هذا العمل مفاجأة سعيدة لتميزه بقصته البسيطة وواقعيته الشديدة وإخراجه المحكم والدراسة المعمقة لشخصياته، لقد ذكرنا بالسينما الإيرانية التي جذبتنا في البدايات بإنسانيته وأجوائه الآسرة وبأداء ممثليه وصدق تعبيرهم جائزتا الأدوار الثانية. إنه عن مهلة عشرين يوماً يعطيها صاحب مطعم شعبي للعاملين فيه ليتدبروا أمرهم لأنه باع المكان لتقام مكانه عمارة ضخمة. ثمة أعمال أخرى شاركت في مسابقات عدة، وما يذكر هو أن إيران شاركت بثلاثة أفلام في مسابقة الأفلام الدولية وهي"عيار 14"لبرويز شهبازي و"الوطن الأصلي"لأبو الحسن داوودي و"عندما يستغرق الجميع في النوم" لبهرام بيضائي الضاد تلفظ زاي بالفارسية. وفي مسابقة الأفلام الآسيوية شارك الفيلم الأردني"كابتن أبو رائد"لأمين مطالقة والفلسطيني"عيد ميلاد ليلى"لرشيد مشهراوي وفيلمان إيرانيان أحدهما عن حرب العراق"عبر النهر"لعباس مطلق. في هذا العمل نظرة على الحرب من وجهة نظر إنسانية تحاول أن تكون متوازنة: جنديان ناجيان من المعارك، إيراني وعراقي اللبناني حازم شاهين أحدهما أسير الآخر فهما يتبادلان السيطرة ويتوهان في صحراء ممتدة لا يعرفان لها نهاية. تضيع البندقية التي كانت تقف حائلاً بينهما ولا تبقى لهما إلا بداية علاقة إنسانية متسامحة أخذت تقوى بفعل الآلام المشتركة. فيلم اعتمد على جمال الصورة ووظفها المخرج بذكاء لتكون لاعباً أساسياً، ولولا تلكؤ ومرور لحظات من التيه طالت ولم يحدث فيها تطور للحدث أو للشخصيات ومواقفها لكان الفيلم أفضل. طبقات فقيرة بين كل هذه الأفلام ثمة اثنان كانا محط انتظار واهتمام الجميع. "عن إلي"تصغير لاسم إلهام، من إخراج أصغر فرهادي وهو مخرج توقع له الكثيرون مستقبلاً واعداً وقد فاز بجائزة أفضل مخرج في هذه الدورة بعد رفع المنع عن فيلمه فاز أيضاً بجائزة الإخراج في برلين. وإضافة إلى الإخراج، كتب فرهادي سيناريو العديد من الأفلام وعمل أفلاماً للتلفزيون في التسعينات ثم انتقل إلى السينما وتابع على نفس المنوال محققاً أعمالاً تتحدث عن الناس ومشاكلهم في مجتمع في طور الحراك والتغيير. وكان فيلمه الأول قد استقبل بحفاوة من قبل النقاد. لكن كما يقال هنا فبعد العمل الأول الذي يكون واعداً عادة في السينما الإيرانية، غالباً ما يختفي المخرج وبعضهم لا يجد الفرصة لتحقيق عمل ثان، لكن فرهادي حقق فيلماً ثانياً عن الحياة اليومية للطبقة الاجتماعية الفقيرة وحصد نجاحاً تفوق فيه على الأول، ثم جاء منذ عامين فيلمه الثالث الذي كتب له السيناريو."احتفالات يوم الأربعاء"نال جوائز دولية عدة ودعم سمعته، فيه ألقى نظرة فاحصة على الطبقة الوسطى وأبرز قدرته على العمل في قصص جديدة، ومهارته في القص وفي الحبكة ودراسة الشخصيات وإدارة الممثلين الذي قدم بعضهم معه أفضل أدوارهم كما حصل مع هدية طهراني. ويسرد في فيلمه الرابع"عن إلي"، من بطولة كلشيفته فراهاني وشهاب حسيني، حياة ثلاث عائلات تذهب سوية لقضاء الإجازة على شاطئ بحر قزوين في شمال إيران، ومع مرور الوقت نكتشف شخصيات أفرادها في خط عام يسير على منوال الفيلم الكلاسيكي كما بقية أفلامه. إضافة إلى هذا الفيلم"الحدث"بكافة المقاييس، كان ثمة سؤال آخر محور كل لقاء"هل رأيت الفيلم الأخير لبيضائي؟". فبعد عشر سنوات من الانقطاع والعمل في المسرح، عاد بيضائي في"عندما يستغرق الجميع في النوم". مع بيضائي هنا لا نرى حقاً فيلماً إيرانياً بل فيلماً غربياً في أسلوب إخراجه وإدارة ممثليه وحبكته، يذكر بسينما غودار. إيقاع سريع وموسيقى تضفي أجواء غريبة على المشهد. بيضائي أراد الحديث عن وضع السينما المتردي في بلاده؟. السينما تحكي عن السينما، عن الممثلة التي تمثل في الحياة أسوأ من تمثيلها على الشاشة، عن موت العمل السينمائي لسيطرة الجهلة وأصحاب الأموال على مقدرات الإنتاج. وكل ذلك، بالطبع، في أسلوب غير مباشر. راجع المقالة أدناه. بيضائي: العمق المخفي مخرج وكاتب مسرحي وسينمائي وباحث في الفنون البصرية وفنون الأداء. حقق عشرة أفلام في 38 عاماً لكن حضوره القوي في المشهد السينمائي الإيراني لا يرتبط بعدد أفلامه القليل، إذ يعد من أهم صانعي الأفلام وأحد الرواد في فترة الستينات. أعماله أثرت السينما الإيرانية وتركت بصمتها عليها. يهتم بالتاريخ الفارسي والشرقي، وللأسطورة موقع رئيس في أعماله وهو يبحث بعيداً في عالمها ويغوص فيها ويسقطها على الحياة المعاصرة. كما يهتم بكل التقاليد التي باتت منسية والإرث والطقوس وكل ما له علاقة بالهوية. ثمة خاصية لبيضائي تتجسد في الأسلوب المتميز الذي يحقق به أفلامه فهو لا يسلك طريقاً مباشرة في أعماله بل يمضي بعيداً في العمق المخفي بتعرجاته وتعقيداته، التباساته وغموضه، كما أن ثمة خلفية فلسفية وأدبية في أفلامه، وتطغى أسئلة الوجود على كتاباته. يواجه بيضائي بانتقادات في بلده لصعوبة إدراك أفلامه، كما يواجه بتهم تتعدى الجمالية والأسلوب الفني إلى الديني. يكتب أيضاً سيناريو لأفلام الآخرين، وبعض مما كتب لم يجد بعد طريقه إلى التنفيذ. في العقدين الأخيرين حقق بيضائي أفلاماً قليلة أحدها"المسعور القاتل"الذي حظي بنسبة إقبال كبيرة وكان من أنجح أفلامه. معروف بمهارته في إدارة الممثلين ومعظمهم حقق أفضل أدواره في أفلامه مثل سوزان تسليمي في"أغنية تارا"، وتلك الممثلة تعمل في السويد منذ عقدين. يعمل دوماً مع الفريق نفسه وقد شاركت زوجته الممثلة مجده شماسي في أفلامه الأخيرة، وعلى رغم أنها، في مهرجان فجر الأخير، كانت ضمن المرشحات لنيل جائزة أفضل ممثلة وأن الفيلم كان على قائمة الترشيحات مع أربعة أعمال أخرى كأفضل فيلم إلا أنه لم ينل سوى جائزة الديكور والأزياء! فراهاني : إيرانية في هوليوود طلب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من وزير الثقافة عدم منع عرض"عن إلي"الفيلم الذي تمثل فيه كلشيفته فراهاني في مهرجان فجر وطالبه باتخاذ الإجراءات اللازمة لإزالة المنع. وقد أعلن عن رفع"الحظر"يومين بعد بدء المهرجان. وكان الفيلم قد ألغي من لائحة أفلام المسابقة الرسمية، وخلا كتيب المهرجان منه. وقال مستشار الرئيس للشؤون الثقافية"لا يوجد قانون يمنع الممثلين والممثلات الإيرانيين الذين مثلوا في هوليوود من التمثيل على الشاشات الإيرانية"وأضاف:"ليس معقولاً أن نمنع عرض فيلم لمجرد أن ممثلة، أدت دوراً في هوليوود وظهرت في احتفالات السجادة الحمراء، قد شاركت فيه". كلشيفته فراهاني بطلة"عن الي"، هي ابنة المخرج بهزاد فراهاني وشقيقة الممثلة شقايق وكانت قد مثلت الدور النسائي الأول في فيلم ريدلي سكوت"كتلة من الأكاذيب"مع ليوناردو دي كابريو ما أثار جدلاً واسعاً في إيران حول حق الممثلين الإيرانيين بالظهور في أفلام في هوليوود. وسببت لها هذه المشاركة مشاكل في إيران ما دفعها لمغادرة بلدها والإقامة في الخارج منذ الصيف الماضي. نشر في العدد: 16758 ت.م: 20-02-2009 ص: 22 ط: الرياض