تتصور العولمة وآثارها في صورة شبكة عنكبوتية متشعبة الخيوط ومترابطة تتسلل الى مختلف أوجه الحياة اليومية، وتطاول سكان الجزر الصغيرة والقصية. فأثر العولمة اتسع، وامتد الى الجسد وأخيلته في الثقافات التكنولوجية، وبلغ هوية المرء الواحد، وهوية أمة المهاجرين، والعدو، وجمهور النجوم وأخبارهم، والمسلسلات التلفزيونية، والبيئة والعمارة، وسلاح الجو الأميركي. وبرزت في ختام 2009 مشكلة المهاجرين المناخيين. فالعولمة لا تنفك تغير جلدها، وتغير وجوهها. فكأنها اشتملت على الحياة وأوجهها المختلفة. أخيلة في الثقافات التكنولوجية المعولمة لا تقتصر الثقافة التقنية على الآلات، بل تتناول كذلك الحركات والسكنات، وطريقة"نقل"الجسد وتحريكه، على ما يلاحظ جورج فيغاريللو، المؤرخ الفرنسي، "إسبري"الفرنسية 3-4/2009. والحركات والسكنات تسندها صور في الذهن هي صور عن الاجساد والمكان والآلات والادوات. ويغذي عالم الآلات والادوات الخيالات، وما يتعلق منها بعمل وظائف الجسد الداخلية والباطنية، على الخصوص. فبعض نصوص عصر النهضة الاوروبية الطبية تتوسل بمثال التقطير الى التعبير عن الظاهرات الجسمانية. وأثر الحاسوب الصغير يتطاول الى الجسد المستهلك، ولا يقتصر على الجسد العالم. فهو يلم إلماماً متعاظم الاحاطة بحياتنا اليومية. ويستعمله الناس على نحو قد يبدو غريباً بل مجنوناً. فهم يستفهمون التكنولوجيا المعلوماتية عن الاماكن التي هم فيها، وعما حصل وحدث، وعن المعايير التي عليهم التزامها في معالجة بعض الامور. ويلاحظ أن عصر التكنولوجيا المعلوماتية هو عصر"تقديس الجسد". فالأفراد تركوا تعريف أنفسهم من طريق نسبتهم الى جماعات كبيرة، أو حملهم على مراجع عامة كبيرة. وعلى مثال الحاسوب الصغير، ينزع التثقيف الى اصاخة السمع الى النفس، وتمييز الرسائل الصادرة عن"الطوية"و"السريرة". والغاية هي الوقوع على الاحاسيس المناسبة أو الجيدة. ولاحظ كلود أرنو في"كي دي جو أو نو"دار غراسيه، 2006 أن البشر مدعوون، في عصر العالم الافتراضي والرجراج المولود من رحم البيكسل والبيتس وحدة الصورة، الى اعادة رسم أنفسهم والاحتذاء على برامج التصوير الالكترونية ومزجها الوجوه. الجراحة تغيّر مفهوم الهوية في حزيران يونيو الماضي، نصّبت المنية مايكل جاكسون على عرش النجومية العالمية من جديد، على ما رأى توما سوتينيل "لوموند"،1/7. فجاكسون هو آخر"سوبر ستار"على وجه المعمورة. ورحل آخر النجوم قبل اقل من قرن على تتويج شارلي شابلن نجماً عالمياً وفناناً اشبه بالانصاب. والسينما كانت بوابة العبور الى مدافن عظماء القرن العشرين، ثم لحقت الموسيقى بركابها، اثر ابتكار ال"ميكروسيون"اسطوانة واسعة التعبئة. ونجوم هذه المدافن ولدوا من صناعة السينما أو صناعة الاسطوانات. وبين 1985-1995، عرفت الصناعة هذه عصرها الذهبي. وتزامن أفول نجم جاكسون في منتصف الثاني من التسعينات مع أفول هذه الصناعة واندثار عصر كبار النجوم. وربما مايكل جاكسون مرآة رغبة متعاظمة في التحول، ومرآة ثمن النزول على الرغبة هذه. وهو محا أشكال التمييز من شكله ووجهه، وصار كائناً لا لون له ولا جنس. وليس مسناً أو شاباً، وليس صغيراً ولا كبيراً. ويسأل كلود ارنو هل خضع مايكل لهذه التحولات لينزل على رغبة معجبيه المعولمين في أن يكون خلاصة الأجناس والأعراق؟ فمايكل هو صنيع أعماله وولدها، ومخطط معالمه. وأول من صنع نفسه في عصر واعد بالاستنساخ. ويشبه جاكسون بطل ايبسن، بير جينت، الذي جال العالم باحثاً عن هوية ينتسب إليها، وكأنه يحلم بحفر عبارة"هنا يرقد لا أحد"على شاهد قبره. فالجراحة أعادت صوغ مفهومنا للهوية. وهي تجعل متاحاً أن ينتخب المرء وجهاً جديداً له على شاشة الكومبيوتر. فتتغير كيفية إدراك الذات والنفس، وربما يخلف التغيير أثراً في ذاكرة الذات. ويسهم احتمال التغيير هذا في تذرير وحدة الأنا الوظيفية وتقسيمها. العولمة وسلاح الجو الأميركي وصورة العدو خلصت ايلين لوييه، محللة نفسانية لوموند دي ليفر، 17/4 الى أن الارهاب هو حركة اعتراض على النظام العالمي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهو إعلان حرب على النظام هذا. وتفترض بنية الإرهاب أن العدو يختبئ في طوية المجتمع الداخلية. والعدو داخلي، وهو ملتبس الهوية ومزدوج الانتماء. والمجتمعات الغربية هي مجتمعات أفراد. وفي مجتمع انحلت فيه المراتب والطبقات، يتخفى العدو بزي الشريك في المواطنية، ويتستر على جزء من هويته مريب. والازدواج هذا هو الخطوة الأولى نحو نفسنة الحرب. ويبدو أن الغرب عاجز عن قبول فكرة العدو ومفهومه من جديد، بعد أن طواها، على رغم أن المجتمعات البشرية كلها أقرته، وصدعت به. ومفهوم"العدو الداخلي"بائت، ولا يصح حمله على الإرهاب المعاصر. وأشكاله الجديدة خارجة على الإسلام التقليدي. وهذا"العدو الداخلي"يفترض سنداً من مرجع قومي او ديني ثابت لم يعد قائماً. وبعد نحو عقد على طي الحرب الباردة، لم يعد العدو دولة، بل حركة تمرد. والأهداف الاستراتيجية التي قد تقصف قليلة، ولا سلاح جو معادياً ينازع على الاجواء. وتغير دور سلاح الجو في الحروب في ضوء حربي افغانستان والعراق، على ما نبّه فرد كابلان، معلق"نيوزويك"الاميركية 9/29. والمهمة الجوية الباقية هي إما نقل الإمدادات أو البحث عن الأعداء الأشرار وقتلهم. ويؤدي مهمة البحث والقتل نوع جديد من الطائرات هو"الأجسام الطائرة"من غير طيار. وربابنة هذه المركبات يقودونها من مسافة قد تبلغ نصف قطر الكرة الارضية. ولا يستبعد الطيارون، اليوم، أن ينتهي بهم الامر وبقادتهم، الى التحرر أو الانقطاع من الصلة المادية والحسية بالطائرات، سلاحهم. فتعريف"الطيار المحارب"مرن ويزداد مرونة. المهاجرون المناخيون وعولمة الهجرة بلغ عدد المهاجرين، في العقدين الأخيرين، 200 مليون مهاجر. ومناطق العالم كلها هي مقصد الهجرة أو منطلقها، أو المعبر المفضي اليها. وبحسب كاترين ويتول دو وِندن، مديرة أبحاث "لو نوفيل أوبسرفاتور"، 16/10، لا يسع الدول الاوروبية التغني بقدراتها على دمج المهاجرين. وتواجه أوروبا تحدياً بارزاً لا يقتصر على استقبال موجات كبيرة من المهاجرين، بل يتعداه الى العيش المشترك مع القادمين الجدد. وتعيد موجات المهاجرين تعريف المواطنية في الدول الأوروبية. فعدد كبير من المواطنين يحمل جنسية مزدوجة. وتصاغ الهوية الأوروبية الجديدة على شاكلة هوية متعددة النسبة، على ما هي الهوية في الولاياتالمتحدة. وفي قمة كوبنهاغن الاخيرة، برزت قضية المهاجرين المناخيين في جزر المحيط الهادئ، وما يترتب عليها من مشكلات. واقترح مفوض الاممالمتحدة السامي، البرتغالي انطونيو غوتيرز، في مؤتمر صحافي بباريس أفكاراً لمساعدة اللاجئين الجدد الداخليين ومشاريع نصوص دولية تعرف أوضاعهم القانونية، وتحميهم. وقبل أشهر من قمة كوبنهاغن، في 23 أيلول سبتمبر الجاري، عرضت أولاميلا كوراي وراغ مأساة المهاجرين المناخيين "لو موند"الفرنسية، ووصفت فصول معاناتهم. فمنذ 20 عاماً تشهد جزر المحيط الهادئ تغيراً في ايقاع الفصول. وثمة، منذ اليوم، لاجئون مناخيون. ففي الجزر كلها يقول بعض السكان:"اندثر البيت الذي كانت أمي تسكنه". وكانت جزيرة سالومون، الى وقت قريب، جزيرة واحدة، وهي اليوم جزيرتان بعدما ملأت المياه الوادي بين الهضبتين. فلا مناص من أن يترك بعض السكان أرضهم، وأن يقال لهم حيث يحلّون: هنا أرضنا نحن. وتنجم معارك وحروب اهلية عن النزوح. وموضوع الامن في المحيط الهادئ على وشك أن يصبح قضية خطيرة. نشر في العدد: 17071 ت.م: 2009-12-30 ص: 25 ط: الرياض