لم تكن الحرية بمعناها الواسع سابقاً، هاجساً لدى النخب العربية والمثقفين العرب، إذ بالكاد بدأنا منذ عقد نتلمس مدى حاجتنا لها. ويمكن القول إن الوعي بحاجتها ما زال حتى اللحظة مشوباً ببقايا أيديولوجيات تعرقل النظر إلى الحرية كقيمة أساسية مرتبطة بالإنسان بحد ذاته كقيمة مستقلة، من دون عطفها على قضية ما أو أيديولوجية ما أو حزب ما... وبما أن الحرية كمفهوم ووعي كانت غائبة عن الحضور ثقافياً، فمن الطبيعي أن تحصل كل هذه الكوارث التي لا يمكن أن نجد حلاً لها من دون مكتسبات الحداثة الديموقراطية والعلمانية والإصلاح الديني والعقد الاجتماعي... التي لا يمكن أن ندخل قلعتها إلا عبر بوابة الحرية التي أحكم الحراس إغلاقها ووضعوا مفاتيحها في جيوبهم بعد إحاطتها بمنظومة قيم معادية لها تبدأ بالطوارئ والأحكام العرفية ولا تنتهي بالسجون والقتل. وبالنظر إلى بنية الوعي بمسألة الحرية التي تحكم تفكير النخب والشارع العربي منذ بداية خمسينات القرن الماضي سنجد أن أغلبها شمولي استبدادي ديني إيديولوجي، أي وعي ينطلق من وهم المعرفة أكثر من المعرفة ذاتها ووهم المعرفة أخطر من الجهل ذاته لأن الجاهل يدرك جهله، أما الواقع في أسر وهم المعرفة فهو جاهل لا يعرف جهله، وممتلئ بغرور ما يظنه معرفة، حيث ارتبطت الحرية دائماً بمرادف لها: حرية على النمط الاشتراكي أو حرية على النمط الديني، وكلاهما مفهومان يحكمان باسم الحرية بعد أن يفرغاها من حقيقتها وجوهرها إلى درجة يغدو معها الاستبداد ذاته حرية في أيديولوجيات تلك النظم! ولادة عرجاء للحرية الاقتصادية: وللتدليل على قيمة الحرية وكيف يمكنها أن تكون محركاً وفاعلاً في حل المشكلات التي يغرق فيها العالم العربي، سنأخذ مفهوم الحرية الاقتصادية الذي أشاعه عدد من نظم المنطقة العربية أخيراً، ونسلط الضوء على كيفية ولادته وتطبيقه ومدى العوائق التي تحيط به نتيجة عدم ربطه بالحرية السياسية التي لا يمكن أن ينجح أي شيء من دونها لأنها تمثل ورقة الجوكر في أي مفهوم للحرية تطرح على نطاق البحث. في الخمسينات وما تلاها قامت انقلابات متعددة حكمت شعوبها بالنار والحديد ونهبت خيراتها وراكمت ثروات أودعتها مصارف خاصة خارج البلد، أي بقي المال من دون استثمار، مجرد تراكم أو اكتناز أو ادخار بلغة الاقتصاد، لأسباب عدة منها أن النظم والقوانين والشعارات التي حكم باسمها الجيل الأول للانقلابات كانت لا تسمح بالانفتاح الاقتصادي وإقامة الشركات، كان اقتصاداً مبنياً على احتكار الدولة لكل شيء، أي لم يكن في إمكانها استثمار أموالها، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول سلطان الاشتراكية ووصول اقتصادات الدول العربية إلى مرحلة الترنح، وولادة جيل جديد ذي عقلية مغايرة لعقلية الحرس القديم ل"الثورات"، بدأ الجيل هذا يبحث عن منافذ لاستثمار الأموال المنهوبة وتشغيلها، فعمدوا إلى دفع آبائهم الممسكين بالسلطات إلى سن قوانين اقتصادية تسمح لهم باجتياح ما تبقى من رقع مستقلة في الداخل لم تصله يد الدولة ونظرة مدققة في أسماء حيتان المال العربي سنجد أن أغلبهم أبناء أو أقارب للحرس القديم الممسكين بزمام السلطات العربية!، وهكذا ولد ما يسمى"اقتصاد السوق الاجتماعي أو"الحرية الاقتصادية"ولادة عرجاء، لأنه ولد بعيداً عن جناحه الآخر وهو الحرية السياسية التي لا يمكن أن يحلّق من دونها، حيث بقيت قوانين الطوارئ والسجون وانتهاكات حقوق الانسان مع غياب شامل لمؤسسات المجتمع المدني، حيث عملت السلطات العربية على الحفاظ على السلطة بيد من حديد مع محاولة تحرير الاقتصاد خدمة لمصالحها، فحصلنا على نماذج مشوهة لا تشبه سوى الخواء، ليستمر النهب هذه المرة عبر بوابة الحرية الاقتصادية وسياسة السوق المفتوح، من دون أن يدرك أولئك المنظرون لهذا عربياً أن الحرية الاقتصادية مترافقة مع حرية سياسية تسمح بتشكيل الأحزاب والنقابات التي تدافع عن حقوق العمال وتسمح لهم بالتظاهر والإضراب عن العمل عندما يستشعرون خطراً من السوق على مصالحهم، إضافة إلى حرية عمل المجتمع المدني الذي تعمل مؤسساته على الحد من تسلط الدولة واستبدادها عبر تقليم أظافرها باستمرار وأنسنة عنفها المقدس الذي تستخدمه بقوة القانون. وهنا في ظل غياب الحرية السياسية والنظام السياسي الضامن يترك الشعب لقوى السوق لتستفرد به، حيث تقوم السلطة المستبدة بتجريد الشعب من وسائل مقاومته لتفسح في المجال لحيتان الاقتصاد لشراء مؤسسات الدولة التي يتم بيعها بأثمان بخسة، من دون أن يتاح للشعب أن"يعقلن"هذا الجموح الشهواني للربح الذي يسعى لابتلاع كل شيء. انطلاقاً من ذلك ربما نستطيع أن نفهم كيف يمكن الحرية السياسية أن تكون نقطة الانطلاق لوضع أولى الخطوات التي تمكننا من حل المشكلات التي ترهق بلداننا، أي لا بد أولاً من العمل على إعادة بناء الدولة كدولة للقانون والنظام وليس دولة القبيلة والسلطة، وهذا لا يكون من دون حرية سياسية تفتح باب النقاش بين النخب والأحزاب والتيارات الوطنية التي يمكنها أن تتفق على برنامج وطني يمهد لآلية الانتقال من حال الدولة الشمولية الممسوكة سياسياً لمصلحة الدولة الوطنية الديموقراطية، أي من نموذج"دولة ضد مواطنيها"إلى نموذج"دولة المواطنين". ولا يمكن تطبيق ما سبق من دون إلغاء قوانين الطوارئ وإغلاق السجون وتحييد الجيش عبر تحويله إلى مؤسسة وطنية مستقلة مهمتها حماية الوطن لا النظام، وتقييد أجهزة الأمن بقوانين تجعلها خاضعة للعقاب كأي مؤسسة أخرى، وإطلاق حرية الأحزاب وتشكيل الجمعيات المدنية، الأمر الذي يؤدي إلى فك الاحتقان وفتح النوافذ لكل الهوامش التي لم يتح لها التعبير عن نفسها بما في ذلك الحريات الدينية وحرية العقيدة وتبديل العقيدة، لتتأطر في هيئة أحزاب أو جماعات منظمة، الأمر الذي يجعلنا نرى ما يعتمل داخل مجتمعاتنا، لأننا ما زلنا حتى هذه اللحظة نجهل مجتمعاتنا لأنها مجتمعات تعيش على ثقافة التقية والطاعة والمواربة والخوف التي تجعلها تظهر عكس ما تبطن، وهنا أهم شيء يمكن الحرية السياسية بمفهومها الأولي أن تعطينا إياه، أي أن تجعلنا نرى مجتمعاتنا في شكل صحيح. بعد ذلك يمكن الانطلاق نحو اتفاق كل ما أفرزته المرحلة الأولى من أحزاب على برنامج عمل وطني يتمثل بوضع برنامج وطني يتمثل بطرح قانون جديد ودستور جديد وطرحه على الشعب في انتخابات حرة مستقلة، تضع البلاد العربية على أبواب ما يمكن أن يشكل رهاناً ما لمستقبل مفتوح، على رغم أن الأمر ليس مؤمناً مئة في المئة، لأن هذا الأمر نفسه سيسمح للحركات الدينية بالعمل ولكنها باعتقادي ستسقط في فخ عدم تاريخيتها وعدم قدرتها على التأقلم مع متغيرات عصر يتغير كل ثانية، بخاصة أن الحرية السياسية ستفتح الباب أمام حرية البحث لتتحول الجامعات إلى مراكز بحث حقيقية وتتفتح تيارات اجتماعية كثيرة لم تستطع سابقاً التعبير عن نفسها، وسيسمح هذا الأمر للثقافة الحقيقية أن تعمل وتتنفس عبر صحافة تفضح وتنبه وتلقي الضوء على ما لم يكن مسموحاً بفضحه سابقاً، والأهم أن تنهض مؤسسات المجتمع المدني في مواجهة الشركات والسلطة إن حادت عن طريقها، وهنا يمكن مفهوم الحرية الاقتصادية أن يكون حقيقياً وفاعلاً ويمكنه أن يقف على رجليه ليكون أداة بناء حقيقية بدل أن يكون أداة للنهب والسرقة وباسم الحرية أيضاً! ولنا في النهاية أن نقول إن الحرية السياسة لا تعني أنها حل لكل المشاكل العالقة بل هي بداية أو خطوة أولى تسمح بولوج بوابة حل المشكلات لأن الطريق أطول من ذلك بكثير وأعقد من أن يختزل ببعض الإجراءات السياسية. * كاتب سوري.