قبل انتخاب الصحافي والسياسي من حزب المحافظين بوريس جونسون في منصب عمدة لندن في الأول من أيار مايو، حذّر بعض أطراف المجتمع الإسلامي إلى أن فوز جونسون على عمدة المدينة في حينه كين ليفنغستون من حزب العمال قد يشكّل كارثة بالنسبة إلى لندن والمسلمين فيها. وذهب البعض أبعد من ذلك فوصفوه بالمعادي للإسلام. ويعتبر جونسون، وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ومتميّز بشعره الكثيف الأشقر الفاتح اللون، أحد الشخصيات الأكثر تعقيداً وتناقضاً في السياسة البريطانية. في العام 2001، انتخب نائباً في البرلمان للمرة الأولى، ومنذ ذلك الحين، راح دوره كصحافي يتعارض مع دوره كسياسي. وكان محرّر الصحيفة السياسية الأسبوعية"سبيكتايتور"من 1999 ولغاية 2005، وهو يجني حالياً 250 ألف باوند في السنة ككاتب عمود في صحيفة"دايلي تلغراف". اتهم بأنه معاد للإسلام إثر المقال الذي كتبه في"سبيكتايتور"في 16 تموز/ يوليو 2005، أي بعد تسعة أيام على وقوع الهجمات الأربع الانتحارية في لندن التي أودت بحياة 52 شخص بريئاً وجرحت أكثر من 700 آخرين. وفي نهاية المقال، قام بانتقاد المسلمين، علماً أن جدّ جونسون الأكبر كان تركياً مسلماً يدعى علي كمال بك 1869 - 1922 الذي كان صحافياً وسياسياً ووزيراً للداخلية اغتاله مناصرو مصطفى كمال أتاتورك. وبرهنت الحملة الانتخابية عن تزايد أهمية العنصر الإسلامي في الساحة الانتخابية البريطانية. وبحسب إحصاء في العام 2001، يصل عدد المسلمين في لندن إلى 706 آلاف نسمة، وهم بالتالي يشكلون 10 في المئة من مجمل سكان العاصمة البريطانية التي تضمّ 7.5 مليون نسمة. وأطلق عدد من المنظمات الإسلامية، لا سيما"المبادرة الإسلامية البريطانية"التي يعتبرها النقاد"إسلامية"بامتياز، حملة واسعة تحت عنوان"مسلمون من أجل كين". وفي الوقت نفسه، قام 63 مسلماً يمثلون مساجد ومنظمات، بالتوقيع على رسالة مفتوحة إلى صحيفة"ذا غارديان"داعين المسلمين اللندنيين كافة إلى أن يصوتوا لمصلحة ليفنغستون. ولم تكن حملة الناشطين المسلمين التي تدعو إلى إعادة انتخاب ليفنغستون مفاجئة، إذ يُنظر إليه على أنه أحد السياسيين البريطانيين الأكثر تعاطفاً مع المسلمين. وشكّل قربه من الناشطين المسلمين جزءاً من إئتلافات واسعة النطاق بين بعض الفصائل اليسارية وبين المجموعات الإسلامية المعارضة لپ"الحرب على الإرهاب"التي أُطلقت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وليفغنستون معروف بالصداقة التي تربطه بالداعية المصري يوسف القرضاوي وقد دعاه لحضور مؤتمر في لندن في العام 2004. لكن المسلمين لا يجمعون على تأييد قرب ليفنغستون من قرضاوي بسبب التصريحات التي أطلقها هذا الأخير حول مسائل تتعلق بضرب الزوجة والتفجيرات الانتحارية ومثليي الجنس. وقبل أن يرشح جونسون نفسه الى منصب عمدة لندن، عرفه الناس مقدم برنامج أسبوعي ساخر بعنوان"هل جمعت أخباراً لك"يعرض على شاشة الپ"بي بي سي"، حيث يكشف عن حس فكاهة واضح. وهو أيضاً معروف بميله إلى المشاكل. وفي العام 2004، عزله زعيم حزب المحافظين حينها مايكل هوارد من منصبه كنائب رئيس مجلس إدارة الحزب ووزير ظل للثقافة لأنه كذب في موضوع علاقة أقامها مع صحافية في"سبيكتايتور". إلا أن صديق بوريس، ديفيد كاميرون أعاده إلى حكومة الظل عندما أصبح زعيماً للحزب وعيّنه وزير ظلّ للتعليم العالي. انتشر الذعر والحذر في بعض مناطق لندن عندما اختير جونسون مرشح الحزب المحافظ في انتخابات عمدة المدينة. فهل يمكن أن تصبح هذه الشخصية الهزلية المعروفة بالسعي وراء المشاكل، عمدةً يحظى بصدقية؟ وهل يمكنه أن يدير مدينة تتمتع بتجارة كبيرة وبمصالح مالية ومدينة تتميز بمزيج من الجنسيات والأديان وتقع تحت تهديد الجماعات الإرهابية وتواجه تحديات لاستضافة الألعاب الأولمبية في العام 2012؟ ووجدت"الحياة"وجهات نظر مختلفة في أوساط المسلمين في لندن إزاء جونسون في الأشهر الثمانية الأولى من توليه عمادة لندن. وقال الدكتور غصين الدين صدّيقي، الزعيم والمؤسس المشارك للبرلمان الإسلامي في بريطانيا الذي يُنظر إليه على أنه رجل ليبرالي:"لم ألاحظ أنه قام بأي عمل كفيل بأن يثير انزعاج المجتمع الإسلامي".لكن متحدثاً باسم لجنة الشؤون العامة الإسلامية في المملكة المتحدة، رفض الكشف عن اسمه، وهي إحدى المجموعات التي مارست الضغوط لإعادة انتخاب كين ليفنغستون، قال إن الجريمة ازدادت في عهد جونسون وأن تخليه عن سياسة تخفيف زحمة السير التي أطلقها ليفنغستون هو مضر بالبيئة وأن الحافلات الجديدة التي يقوم جونسون بإطلاقها لم يتمّ اختبارها أو أنها مكلفة. وقد سخر من اقتراح جونسون القاضي بإنشاء مطار على جزيرة اصطناعية في مدينة"تايمز إستواري"لتحلّ مكان الخطط الهادفة إلى بناء مدرّج جديد في مطار هيثرو. وأيّد بعض المسلمين جونسون بعد الطريقة التي قدم نفسه فيها، إذ كتب سلسلة في جزءين بعنوان"بعد روما: الحرب المقدسة والفتح"وهي سلسلة عُرضت أخيراً على شاشة الپ"بي بي سي". وقال الدكتور صديقي إنه سرّ بهذا"الهدف"وبالسلسلة"الرائعة"التي أبرز فيها جونسون"وجهة نظر المسلمين". إلا أن المتحدث باسم لجنة الشؤون العامة الإسلامية في المملكة المتحدة لم يوافق هذا الرأي وقال:"تحمل هذه السلسة رسالة في طياتها مفادها أن المسلمين يشكلون خطراً". وتتطرق السلسلة إلى العلاقات المسيحية - الإسلامية بين فترة انهيار روما في العام 476 وانهيار غرناطة في العام 1492 وتركز على الحملات الصليبية. وفي فترة إعداد السلسلة، سافر جونسون إلى سورية ومصر والقدس وتركيا وإسبانيا، علماً أن معظم الأشخاص الذين أجرى معهم المقابلات هم علماء عرب، ومن بينهم البروفيسور صادق جلال العظم من جامعة دمشق والدكتور محسن يوسف من جامعة بيرزيت والبروفيسور طائف الأزهري من جامعة حلوان والدكتور محمد حبش من مركز الدراسات الإسلامية في دمشق. واختتم جونسون السلسلة بملاحظة إيجابية، فتوقّع عندما وقف أمام تمثال لابن رشد في قرطبة، بأن"يتحول ما يبدو اليوم صداماً بين الحضارات إلى ولادة مؤلمة لحضارة واحدة ومتسامحة وعامة، تبلورت إشاراتها في وحدة العالم المتوسطي القديم وقرطبة في القرون الوسطى". ويقول مكتب عمدة لندن إن الأمين العام للّجنة الإسلامية في بريطانيا، محمد عبدالباري، كتب رسالة إلى جونسون قال فيها:"لا أتردد في أن أعبّر عن تقديري الكامل لهذا الجهد الرائع. كانت السلسلة موضوعية وغير متحيزة، وأحاطت بالمسائل في شكل جيد". وتسلّم مكتب العمدة حوالى 48 تعليقاً بعد عرض السلسلة. فقال متحدث باسم العمدة إن"الغالبية الساحقة تعاطت مع البرنامج في شكل إيجابي وأشادت به وبالطريقة التي عرض فيها العمدة المسائل". ووردت تعليقات كثيرة تقول إنه"في الفترة التي يتمّ فيها التشهير بالإسلام، من الجيد أن نرى فيلماً وثائقياً يتخطى الأفكار الخطأ عن الإسلام". وتمّ نشر رسائل أخرى على الموقع الإلكتروني الخاص بجونسون وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بمحطة الپ"بي بي سي"، أيّد معظمها البرنامج، إلا أن عدداً قليلاً منها انتقد جونسون لتعاطفه مع المسلمين. كما اتهمته رسالة بأنه يسترضي تنظيم"القاعدة"، فيما ورد في رسالة أخرى أنه مذنب بسبب"تبييض صفحة المجازر والوحشيات الإسلامية مع التركيز على المجازر التي ارتكبت ضد المسيحيين". وكتب البروفيسور جون ميلبانك وهو أستاذ باحث في الدين والسياسة وعلم الأخلاق في جامعة ناتينغهام:"كوني أصوّت لحزب العمال، وجدت هذا البرنامج ليبيرالياً ومتعدد الثقافات، إلا أنه ليس محافظاً بما فيه الكفاية". واعتبر نقاد جونسون في فترة الانتخابات لمنصب العمدة، أنه سيقوم بتمويل الفعاليات الدينية. وقام جونسون بالتعاون مع المجلس الإسلامي في بريطانيا بتنظيم الاحتفال السنوي الثالث بعيد الفطر في ساحة ترافالغار في 11 تشرين الأول أكتوبر. واحتشد آلاف المسلمين في الساحة للمشاركة في هذا الاحتفال الذي تخللته تلاوة قرآنية وموسيقى ومعارض. وأشار جونسون في خطاب أمام الحشد إلى أن كلمة ترافالغار تملك جذوراً عربية وهي متأتية من طرف الغار في جنوبي غربي إسبانيا، حيث فاز أسطول بريطاني بقيادة نلسون على أسطول فرنسي في العام 1805. ويدل اسم ساحة كبيرة في وسط لندن يملك جذوراً عربية"على الطرق التي تتلاقى فيها ثقافاتنا وتاريخنا. وكلما فهمنا تاريخنا المشترك، كلما تقلّص الأذى". وأضاف:"قد تجهلون أو قد لا تصدقون، أنه منذ 100 سنة في العام 1908، أتى جد والدي إلى جنوبي لندن. وهو كان مسلماً وكان يحفظ القرآن عن ظهر قلب أو على الأقل أجزاء كبيرة منه. وهو سيفاجأ عندما يكتشف أن حفيده بات عمدة لندن وأنا فخور بذلك". وشكّل خطاب جونسون في الاحتفال بالعيد مثالاً على الجهود التي بذلها من موقعه لبناء علاقات حسنة مع المجتمع الإسلامي. وفي شهر تشرين الأول، بعث برسالة دعم إلى الحدث السنوي للسلام العام والوحدة الذي نظمته القناة الإسلامية، معتبراً أنه الحدث الإسلامي الأكبر في هذا الجزء من أوروبا. وأضاف جونسون إن المجتمع الإسلامي الكبير"يظهر بطرق أو أخرى كلّ ما هو خاص بلندن كالمعالم الحيوية والمتسامحة والديناميكية. وأدى المجتمع دوراً مهماً في الشؤون الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في هذه المدينة وأنا آمل بأن يستمر ذلك في عهدي". وفي إطار مقابلة نُشرت في الشهرية اللندنية"مازلم نيوز"الصادرة في 26 أيلول سبتمبر، قال جونسون:"أدركت أن الطريقة الفضلى لإدارة لندن تكمن في دعم التعددية وفي أن تكون متفهماً وفي تشجيع المجتمعات كافة ودعمها". ووصف الدعاية ضده في حملة الانتخابات على منصب العمدة بأنها كانت"خطرة للغاية"وپ"هجومية ومزعجة". وأمل بأن تختفي هذه"الشكوك والمخاوف"وأن يتقرّب من المجتمع الإسلامي. وعندما علم بأن جدّه كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب،"أحضرتُ القرآن فوراً وبدأت أتعلّم اللغة العربية". وبدا الحزب الوطني البريطاني العنصري الذي يملك جدول أعمال معادياً المسلمين، غير راض عما ورد في"مازلم نيوز". وأعلن أنه في هذه المقابلة"المذهلة"، قدّم جونسون"فكرة مذهلة"عن نزعاته السياسية الحقيقية وعن"الطريقة المعيبة لدفع اللندنيين الأصليين إلى إرضاء الإسلاميين". وانتقد هذا الحزب دعم العمدة العفو عن المهاجرين غير الشرعيين، وهي فكرة تتعارض وسياسة حزبه المحافظ ومكتبه. وقال جونسون إنه يحق للمهاجرين الذين هم موجودون في بريطانيا منذ أكثر من خمس سنوات يقدر أن عددهم يصل إلى 700 ألف و400 ألف منهم يسكنون في لندن والذين يُظهرون التزاماً بالبلد، أن يُسمح لهم بالبقاء. وبعد أن تولى جونسون عمادة لندن، عين منيرة ميرزا وهي امرأة مسلمة، مديرة لسياسة الفنون والثقافة والصناعات المبدعة. وهي شاركت في السابق في كتابة تقرير لمركز الأبحاث الوسط اليميني"بوليسي إكستشاينج"في عنوان"العيش معاً وبعيداً من بعضهم البعض: المسلمون البريطانيون وتعارض تعدد الثقافات". وأصدرت منظمة"بوليسي إكستشاينج"التي وُصفت بأنها منظمة دايفيد كاميرون المفضلة، عدداً من التقارير التي تنتقد الإسلام علماً أن بعض المسلمين يشكك فيها. كما انتقد المسلمون والبعض الآخر بشدة تعيين جونسون أنطوني براون وهو المدير الأسبق لمنظمة"بوليس إكستشاينج"، مديراً لسياسته. وبراون صحافي سابق، كتب مقالات معادية لتعدد الثقافات والهجرة وانهيار"الثقافة البريطانية". وفي إطار مقال كتبه في مجلة"سبيكتايتور"في 24 تموز يوليو 2004 بعنوان"انتصار الشرق"، اعتبر براون أن الإسلام يريد فعلاً أن يجتاح العالم". وفي مقابلة أجرتها صحيفة"مازلم نيوز"مع جونسون، تطرّق محرّر الصحيفة أحمد ج. فيرسي إلى الملاحظات السلبية التي أطلقها براون حول الإسلام في مقالات نشرتها صحيفة"سبيكتايتور". وردّ جونسون بالقول"أنا أتفهم جيداً مخاوف البعض"، وأضاف أنه يجب أن"يميّز الفرد ما بين الأمور الجدلية غير المهمة التي يكتبها البعض في مقالات صحافية والتي من الممكن أن تُستخدم ضدهم وما بين ما يريدون فعله في لندن". ولا بدّ من أن جونسون كان يتكلّم عن نفسه أيضاً وعن بعض كتاباته السابقة. * صحافية بريطانية