إبراهيم شاب في منتصف العشرينات وهو ثمرة زواج بين أب عربي وأم يونانية. جاء الوالد الى اليونان في ثمانينات القرن الماضي ليدرس الطب، وهناك تعرف الى زميلته ذيميترا وأبدى كلاهما ميلاً نحو الآخر، ولم يمض وقت طويل حتى تم الزواج على رغم معارضة أهل الفتاة كون الأب أجنبياً. بعد مرور نحو عشرين سنة، قرر الوالدان الانفصال بهدوء حفاظاً على الأبناء، إذ لم يكن بالإمكان استمرار الزواج فترة أطول. فما يفرق الشريكين أصبح أكثر مما يجمعهما فيما يعيش إبراهيم وأخته بين بيت الأب وبيت الأم، ريثما يجد كل منهما عملاً وزواجاً مناسباً. ليس إبراهيم حالة فريدة، فمئات الزيجات المختلطة بين شبان عرب وفتيات يونانيات انتهت بالانفصال. وإذا كان إبراهيم محظوظاً بأن طلاق والديه تم بهدوء وتفاهم، فكثير من الحالات الأخرى تم حلها في المحاكم. وبدأ توافد العرب إلى اليونان منذ ستينات القرن الماضي حيث جاء عشرات الطلاب ليدرسوا في مجالات كانت مطلوبة آنذاك بخاصة الطب والهندسة، كما كان هناك بعض رجال الأعمال والشركات والمصارف العربية. وفي الثمانينات بدأت فئات أخرى تظهر في البلد مثل العمال والحرفيين وصغار التجار، أما التسعينات فقد شهدت سيلاً عارماً من العرب الذين قصدوا أوروبا طلباً للجوء السياسي وتحسين أحوالهم المعيشية فكانت اليونان محطة بالنسبة إليهم. وشكل الشباب والطلاب، خصوصاً الباحثين عن مستقبل مهني غالبية المهاجرين في تلك الفترة، ولعل نسبة كبيرة منهم نجحت مهنياً في شكل كبير، فأصبحوا اليوم من المهندسين والأطباء المعروفين في البلد، لكن هذا النجاح المهني لم يترجم دائماً بنجاح مواز بالنسبة الى الذين قرروا الزواج من يونانيات. كثير من تلك الزيجات انتهى اليوم بالفشل وفي حالات أخرى انتهى بما يشبه الموت السريري، أي أن الزوجين يقرران الإبقاء على الزواج قائماً في شكل رسمي، بهدف الحفاظ على الأبناء، مع التفات كل منهما الى حياته الخاصة. وإذا اشتد النزاع ينهيانه عبر المحاكم التي غالباً ما تمنح الأم حق الحضانة حتى سن البلوغ. وهذا الواقع لا ينفي بطبيعة الحال زيجات ناجحة ومستمرة، لكن الانطباع العام هو عدم الارتياح، ويبدو ذلك جلياً عندما يستشير الشبان الأصغر سناً والراغبون بدورهم في الزواج من بنات البلد الجيل الذي سبقهم إلى ذلك، فتأتي غالبية الإجابات سلبية. وأما عند سؤالهم عن احتمال إعادة تلك التجربة لو عادوا شباباً فتكاد الإجابة بالنفي تصل الى نسبة 100 في المئة. وتعود معظم أسباب فشل الزيجات المختلطة الى التباين الثقافي بين الطرفين، أي العقلية التي تحكم نظرة الزوجين الى أمور الحياة. هذه التناقضات لا تظهر في شكل كبير في بداية الزواج، أو يتم التغاضي عنها، لكنها غالباً ما تبدأ مع قدوم الأولاد ورغبة كل من الزوجين بتنشئتهم بحسب رؤيته، وأحياناً دينه في حال انتمى كل منهما إلى دين مختلف. كذلك لا تزال طبيعة العائلة اليونانية التقليدية تقف حاجزاً أمام نجاح تلك الزيجات، فالأسر اليونانية لا توافق بسهولة على زواج بناتها من أجانب، ويتمسك بعضها بهذا الموقف حتى بعد الزواج والإنجاب، وفي حال وافقت العائلة مضطرة، فهي لا تكف عن التدخل في شؤون الأسرة، ومحاولة التأثير في الأحفاد ثقافياً ودينياً ما يضع زيجات كثيرة على المحك وينهي بعضها الآخر. ويواجه أبناء الزيجات المختلطة مشكلة هوية كبيرة، فهم ولدوا في مجتمع يعتبرونه مجتمعهم، لكنه هو لا يعتبرهم منه. ومن ناحية أخرى يشعرون بأن لهم جذوراً في بلاد أخرى لكنهم لا يعرفون الكثير عنها، لذلك يلجأ كثيرون الى تغيير أسمائهم بين زملاء في الدراسة أو في العمل كي لا يشعروا بالاختلاف عنهم. وغالباً ما ينشب النزاع على الأبناء مع اقترابهم من سن المراهقة، إذ يبدأ الوالدان بالقلق على مستقبلهم لا سيما إذا كانوا إناثاً، فيسعى الوالد إلى التشديد على خروج الفتاة ومراقبتها"لضمان عدم انحرافها". وفي بعض الحالات يحاول الأب أن يعود بأبنائه الى بلاده الأصلية حيث"الأمور أكثر أماناً"بحسب اعتقاده، لكن هذا ما يقابل غالباً برفض من الأم أو من الأبناء أنفسهم لك ونهم اعتادوا العيش في ظروف وعادات معينة، وهكذا يضطر الأب مرغماً الى العودة الى اليونان ومصارعة المجتمع والتقاليد من جديد. في حالات أخرى يترك الأب أبناءه وزوجته بدافع اليأس والاستسلام ويختار أن يبدأ حياة جديدة في بلده، وهكذا تتولى الأم مهمة تربية الأبناء بما في ذلك من عسر ومشقة، لكن في مقابل ذلك يكون أولئك الأبناء ناقمين في شكل كبير على الأب وعلى كل ما يذكرهم به، من مجتمع أو دين أو لغة أو حتى أشخاص كانوا على علاقة به. الفروقات بين العرب واليونانيات ليست دينية بحتة، فهناك الكثير من حالات الطلاق حتى بين العرب المسيحيين واليونانيات، وهنا تلعب التقاليد والأمور اليومية دوراً مهماً. فمسألة اقتناء كلب في البيت مثلاً منفرة للكثير من العرب، حتى من غير المسلمين، أما بالنسبة الى اليونانيين فهذا أمر عادي. وهذه المسألة على بساطتها سبب في الكثير من المشكلات بين الطرفين. وتلعب النواحي المادية دوراً مهماً في نشوء الخلافات وتزكيتها، فالمرأة اليونانية التي تعيش في بلدها ترغب في مستوى معيشي مشابه لمستوى زميلاتها وقريباتها فيما الرجل العربي لا يحبذ خروج زوجته للعمل ويفضل تفرغها للبيت والأولاد، ما يحوله في المقابل إلى محرك لا يهدأ ليتمكن من تلبية المتطلبات الكثيرة للأسرة وسط غلاء مستشر فيجد نفسه مضطراً للعمل ساعات طويلة خارج البيت، تاركاً الأولاد لأمهم ليفاجأ في وقت متأخر أن أبناءه لا يعرفون شيئاً عن ثقافته وتقاليده ولا يرغبون حتى في تعلم لغته. فتبدأ الدوامة من جديد. نشر في العدد: 16733 ت.م: 2009-01-26 ص: 25 ط: الرياض