يد المصالحة التي مدتها السعودية في قمة الكويت لم يكن دافعها فقط هولُ ما حصل في غزة، بل قناعة سياسية واضحة بتغليب الأهم على المهم. ذلك ان المملكة ادركت ان الاستفراد العسكري الاسرائيلي بسكان القطاع لم يكن ليحصل بهذا الكم من الوحشية لو كان العرب غير منقسمين، ورأت أنه لا بد من انقاذ الحد الأدنى من التوافق العربي لينعكس ذلك على الفلسطينيين فيعيد وحدة الحد الادنى بينهم، خصوصاً مع قدوم إدارة اميركية جديدة واحتمالات تحريك عملية السلام في المنطقة، ولذا اسقطت التحفظات عن عودة التعامل مع سورية كي لا تُستفرد هي الاخرى، بعدما خسرت على اكثر من"جبهة"، او تقوم برد متهور. فدمشق التي تشكل وحدها تقريباً"محور الممانعة"العربي، وتتقاسم مع طهران الإمساك بورقتي"حماس"و"حزب الله"، بدت خلال حرب غزة وبعدها أضعف من السابق ومرشحة لمزيد من العزلة، لا سيما انها قررت تجميد المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل التي شكلت في وقت ما سبباً لكسر المقاطعة الاوروبية لها، وخصوصاً الفرنسية. فالتحالف مع ايران لم يمكن سورية من لعب ورقة"حماس"بنجاح، وظهر التباين جلياً بين مواقف الحليفين. ففي حين كان السوريون راغبين في ان تفتح الجبهة اللبنانية ولو بشكل محدود للتخفيف عن الحركة الاسلامية الفلسطينية، اعتبر الإيرانيون ان"الداخل اللبناني"أهم، وان المعركة الانتخابية التي ستخوضها المعارضة اللبنانية بقيادة"حزب الله"بعد شهور قليلة، وقد تربحها، تحتل الأولوية. ورأى الموفد الايراني الى دمشق وبيروت علي لاريجاني ان فتح جبهة جنوبلبنان سينعكس سلبا بشكل أكيد على الاختراق الذي حققه الحزب للصف المسيحي ويبعد عنه جمهور ميشال عون. وهو ما فسره تصريح مرشد الجمهورية الايرانية خامنئي عن عدم حاجة"حماس"الى دعم عسكري، عندما نهى متحمسين ايرانيين للقتال عن"التوجه الى غزة"قائلا"اننا لا نستطيع فعل شيء في هذا المجال". اما نقطة الضعف السورية الثانية فظهرت في فشل تأمين النصاب لقمة الدوحة الطارئة واستبدالها ب"اجتماع غزة"، ثم في موقف لبنان خلال هذا الاجتماع. وعلى رغم ان الرئيس ميشال سليمان كان بين أول من وافقوا على القمة الا انه ربط مشاركته باكتمال النصاب والا فالاكتفاء بمشاورات. ولم يعجب هذا الموقف دمشق، فهتف حلفاؤها ضده في تظاهرات التضامن مع غزة وحملت عليه صحفهم، لكن ذلك لم يغير من تصميم الرئيس اللبناني على اتخاذ موقف مغاير تماما لموقف دمشق عندما تحفظ عن بند اسقاط المبادرة العربية، ومنع انزلاق بلده الى احد المحورين العربيين. وللموقف اللبناني بُعد آخر ايضاً مع اقتراب موعد بدء عمل المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري، وتأكيد الامين العام للامم المتحدة خلال زيارته لبيروت قبل ايام ان هذه الآلية انطلقت ولا يمكن وقفها بعد الآن. وهذا ايضا يفترض ان يكون مصدر قلق لسورية. أما بالنسبة الى حرب غزة نفسها، ورغم ان العدوان الاسرائيلي كان مبيتاً ومخططاً له ولا ينتظر سوى الذريعة، فمن الواضح ان"حماس"ومن ورائها دمشق، اخطأتا في الحسابات. وكشف ذلك رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل عندما صرح انه كان يتوقع تحقيق"نصر سريع"على اسرائيل في غضون ايام قليلة. اما دمشق فكانت تتوقع تحقيق"نصر سريع"على مصر، وهو ما لم يتم لها رغم دعوات"حزب الله"للشعب والجيش المصريين ب"الانتفاض". بل على العكس، خرجت القاهرة اقوى بعد الحملة عليها واستطاعت ان تجمع في شرم الشيخ قادة أوروبا الذين سبق ان بدلوا مواقفهم من سورية، حتى ان ساركوزي نفسه صارح ديبلوماسييه بأنه عندما اتصل بدمشق لدفعها الى الضغط على"حماس"لقبول وقف اطلاق النار استنتج بأن همها الاساسي كان"اضعاف مصر". جاءت سورية اذن الى قمة الكويت"مثخنة"، فمنحتها السعودية فرصة ثانية للعودة الى صف التضامن العربي، رغم بعض التحفظ المصري، فهل تستفيد منها ام تعود مجدداً الى تحريك الاوراق والحلفاء؟ لعل ما جرى في اجتماع وزراء الخارجية في الكويت بعد المصالحة لا يطمئن كثيراً. نشر في العدد: 16729 ت.م: 22-01-2009 ص: 15 ط: الرياض