ذات مساء قبيل الغروب، وأنا أتمشى على شاطئ البحر، أرقبُ تلك الكرة النارية تسرع في الانزلاق نحو الأفق، بدا لي أن لهيب الشوق الى العودة يزيد من حرارتها، فتتحول من صفراء الى حمراء قرمزية... اللهيب يستعر كلما اقتربت الشمس من موعد الرحيل، فتنسلّ رويداً الى البحر، لتطفئ قيظها ببرودة مياهه... لونها القرمزي يأخذ بالتلاشي، وتصطبغ الدنيا بلون البرودة - لون الزرقة الأرجوانية. وأستشعر أن ثمة كلاماً ينبثق من مكان ما. أنصت... فأسمع حوار الحياة مع كائن آخر، ربما مع أحد أبنائها الفلاسفة المخضرمين: الحياة: أُنظر الى أبنائي في الإنسانية. كلهم أبناء الحياة الواحدة، والمساواة ميزتهم. الفيلسوف: لكنني أرى الواحد يختلف عن الآخر. فأين المساواة التي تتحدثين عنها؟ الحياة: ليس من اختلاف بين أبنائي. فالزهور في الحقول والرياض كثيرة. كل زهرة تختلف عن الأخرى بلونها وشذاها، لكنها كلها زهور، تستقي وتتغذى من الطبيعة، تنبت وتنمو وتعطر الأجواء وتزيّن الأرض. والرياض لا ترتدي حلّة جمالها إلا باختلاف ألوان الزهور وأريجها. تصور روضة لا تحوي سوى نوع واحد من الزهور. ألا ترى أن جمالها يصبح عادياً، مُملاً، باهتاً، فلا يُدعى جمالاً بل هو أقرب الى الرتابة؟ الفيلسوف: لكن، ثمة إنسان غني وآخر فقير. واحد مثقف وآخر جاهل. شخص واعٍ وآخر غير واعٍ. فهل هكذا تكون المساواة؟ الحياة: لستُ أنا من يميّز زهرة عن أخرى. ولستُ أنا من يقرِّر للزهرة لونها أو عطرها، بل هي التي تختار. أنا أقدّم لها التربة وعناصر الحياة المياه والهواء ونور الشمس ولها أن تختار من عناصر الحياة ما يناسبها، وما تستسيغه من ألوان وأريج. العناصر الطبيعية واحدة في شتى البقاع، لكن الزهور هي التي تختار ثوبها التي يروق لها. فحرّية الاختيار حق مقدس، وُهب لي، ولا أستطيع إلا أن أهبه لمخلوقاتي. فهو الحق والحقيقة، بل هو استمرارية وجودي. الفيلسوف: وما قولك بإنسان يولد ليموت. وآخر يموت ليولد؟ أليس الموت أسراً لحرية الاختيار؟ الحياة: وهل ثمة من يرفض التجدد المستمر؟ هل هناك من يختار الجمود بدلاً من التطور؟ درب التطور يمرّ ببوابة التجدد ? الموت. الزهور اختارت الحياة، اختارت أن تكون زهوراً، وأن تنبت وتنمو وتعطّر الأجواء وتلوّن الطبيعة، اختارت أن تتجدد وتتطور وتستمر الى الأبد. هي، بملء ارادتها اختارت الخلود. فهل لي أن أرفض أو أنكر اختيارها هذا؟ حرية الاختيار تقدّس بها كل موجود، ولا بد من احترام حرية الاختيار. أنت تسمي ذلك الشيء موتاً. أما أنا فأدعوه"التجدد". ومن يختار التجدد الأبدي فالخلود مصيره. الفيلسوف: وأنتِ، من أنتِ؟ الحياة: أنا الحياة. أنا النسمة الأولى التي زفرها خالق الأكوان في البدء، وقدّمها لكل من اختار أن يكون. وها أنا، منذ البدء، وسأبقى حتى النهاية... أقدّم من تلك النسمة الى كل من سيختار أن يكون. الفيلسوف: وأنا... من أنا؟ الحياة: أنتَ... أنتَ ذلك الفكر المتسائل في كل كائن، في كل من يختار أن يكون... لكن لا تدع إرادتك تردعه عن اختياره، لأن حرية الاختيار دائماً هي الأقوى. حرية الاختيار ستبتلعك وتحويك، كما ابتلعتك أنا واحتويتك حين اخترت أن أكون الحياة! صمتت الحياة، وصمت الفيلسوف... صمت الحوار بعدما كانت الشمس قد لملمت آخر وجود لها من ذلك المكان. رانيا فرح - بريد الكتروني