سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الخطر والفرصة" لإدوارد دجيرجيان ... الديبلوماسية الأميركية وقضايا الشرق الأوسط . جلسات مع حافظ الأسد واندراج سورية في "عاصفة الصحراء" ومؤتمر مدريد 4 من 8
تنشر "الحياة" مقاطع من كتاب DANGER AND OPPORTUNITY"الخطر والفرصة"للديبلوماسي الأميركي ادوارد دجيرجيان الذي عمل في سفارة بلاده في بيروت، وكان سفيراً في دمشق ثم في تل أبيب في عهدي حافظ الأسد واسحق رابين، قبل أن يتولى مسؤوليات في وزارة الخارجية تتعلق بالشأن العراقي وسائر شؤون الشرق الأوسط. هنا حلقة رابعة: أدركت بصفتي السفير الأميركي الجديد في دمشق أن لقائي الأول مع الرئيس حافظ الأسد سيكون مهماً جداً، إذ يتعلق بنجاح مهمتي أو فشلها. فبعد موافقة مجلس الشيوخ في واشنطن عام 1988 على تعييني، فكرت ملياً كيف سيكون هذا اللقاء. وقرأت كل المعلومات المحدودة عن الأسد التي تمكنت من الحصول عليها، وتحدثت مع زملائي وآخرين ممن تعاملوا معه أو عرفوا الكثير عنه. ... غير أن أكثر النصائح قيمة، تلك التي تلقيتها من إسحاق رابين الذي كان يزور واشنطن عام 1988 كوزير للدفاع في إسرائيل. وكنت في ذلك الوقت نائب وزير الخارجية الرئيسي لشؤون الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا، وقد دعاني وزير الدفاع فرانك كاردوس أنا وزوجتي إلى عشاء رسمي على شرف رابين. وانحنى كاردوس نحو رابين وأخبره بأنني سأضطلع بمسؤولياتي في وظيفتي الجديدة في دمشق. وكان رابين معروفاً بأنه لا يتحدث في الأمور التافهة. نظر إليّ وتوقف برهة ثم نفض سيجارته وقال:"ستتعامل مع أكثر الحكام ذكاء في العالم العربي. فهو بلا شك أكثر القادة صعوبة في التفاوض، ومن ثم عليك أن تكون حذراً وتتجنّب المنافذ في أي اتفاق معه، ذلك أنه سيقود عربة وينفذ من هذه المنافذ. وما يتفق عليه سيلتزم به وينفذه، ويمكنك الاعتماد عليه في ذلك. كانت هذه خبرتنا مع الأسد". نفخ رابين سيجارته مرة أخرى ورسم ابتسامة على وجهه وتمنى لي كل التوفيق. توقفت السيارة في مدخل المبنى القديم، ونزلت منها ومشيت بضع خطوات تجاه حرس الشرف ثم توقفت منتبهاً. تقدم ضابط حرس الشرف في زيه الرسمي الجميل وخطا خطوة الإوزة تلك التي تذكرني بالعسكرية السوفياتية. وعلى بعد أقدام مني استلّ سيفه اللامع ووضعه أمام عينيه. كان النصل على بعد بوصات من وجهي، وصاح مرحّباً بي، فتبعته لاستعراض حرس الشرف. ثم صحبني رئيس المراسم داخل المبنى حتى الطابق الثاني حيث كان الأسد وأعضاء حكومته وفريق من أعضاء السفارة ورؤساء الأقسام فيها. تقدمت ناحية الرئيس الأسد وواجهته في منتصف قاعة الاستقبال، وكان محاطاً بوزرائه ومعاونيه. بدأت أقدم له زملائي وقرأت خطابي الموجه إليه من الرئيس ريغان وسلّمته إياه بعد ذلك، ثمّ تصافحنا ودعاني برفقة واحد من أقرب مستشاريه، هو وزير الخارجية ويدعى ناصر قدور إلى غرفة مجاورة لحديث خاص مدته عشرون دقيقة، طبقاً للبروتوكول المعمول به. وفي غرفة أخرى، كان هناك خمسة سفراء ينتظرون تقديم أوراق اعتمادهم، إلا أن حديثنا جعلهم ينتظرون ما يزيد عن الساعة، وكان ذلك مقدمة لاجتماعات طويلة ومفاوضات على مدى السنوات الثلاث اللاحقة. بعد تبادل المزاح واحتساء القهوة، لخصت مهمتي للأسد:"السيد الرئيس: إن حكومتي جادة في بدء حوار على مستوى عال مع حكومتك بالنسبة الى القضايا الأساسية التي ذكرتها. فبلدانا يلعبان دوراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، وليس لدى الولاياتالمتحدة أجندة سرية بالنسبة الى سورية. كانت علاقاتنا تتسم بالعدائية ولم تكن سلسة، وهناك مشاكل خطيرة بيننا، ومع ذلك يمكننا التوصل إلى أرضية مشتركة ومصالح متبادلة، دعنا نؤسس علاقة مبنية على ذلك، وعندما تكون هناك مشاكل دعنا نحاول حلها"إلا أنني أود أن أعلن هنا بصراحة اننا لسنا مهتمين بالحوار من أجل الحوار ونود تحقيق نتائج إيجابية". عند هذه النقطة ألقيت بالبروتوكول جانباً وأنا أدرك جيداً أن العملية تستدعي نوعين من الشجاعة والمبادرة التي يمكننا من خلالها بدء حوار مفتوح، أو أن فترة إقامتي في سورية ستكون لحمل الرسائل الرسمية التي أتلقاها من واشنطن وتوصيلها الى الرئيس السوري. واسترسلت في حديثي قائلاً:"السيد الرئيس، لكي نبدأ الحوار لا بد من أن تتيح لي ولسفارتي الفرصة للوصول إليكم والوصول إلى وزرائك وحاشيتك. يمكنك بسهولة أن تبعدني حتى أستطيع التمتع بالعيش في مقر إقامتي الجميل في دمشق وحضور الاستقبالات الرسمية واحداً بعد الآخر على مدى السنوات الثلاث المقبلة المكلف بها. ويمكنني أن أرسل التقارير إلى واشنطن عن كل ما يدور في خلدك وماهية سياسات حكومتك، إلا أنني لا أفضّل العمل بهذه الطريقة. سيدي الرئيس، لم أُرسل إلى دمشق للقيام بمثل هذا العمل، ومن ثم إذا كنا بحق جادين في تحسين علاقاتنا، فهناك طريق آخر، إذ يمكننا أن نتعامل مباشرة وبطريقة حازمة وموثوق بها. وإني آمل أن توافق على هذا المنحى". توقفت عند هذه النقطة وانتظرت بعصبية استجابة الرئيس ولم أدرك أنني ذهبت بعيداً. نظر إليّ المدعو"أبو الهول دمشق"وحدق بروية وبنظرة خارقة، كما عرفت في ما بعد أن من عادته التفكير قبل الإجابة. وبعد لحظة حرجة من السكوت نظر إلى وزير الدولة للشؤون الخارجية ناصر قدور وقال:"إنني أتفق مع السفير، دعنا نسير على هذا المنوال". ونهض من كرسيه وصافحني متمنياً لي النجاح في مهمتي الديبلوماسية. منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 أُحرز تقدم كبير في المفاوضات السورية - الإسرائيلية بالنسبة الى قضايا الأمن والسلام وتطبيع العلاقات وترتيبات الأمن وحرية الوصول إلى المياه، وكان كل من المفاوضين السوريين والإسرائيليين قد تناقشوا في 85 في المئة من القضايا وتم حلّها أو تقريب وجهات النظر وحصر نقاط الخلاف بينهما. وكانت الولاياتالمتحدة المتحدث عن كل من الطرفين، كما أنها كانت مستودعاً لتاريخ هذه المفاوضات. ومن المفيد في هذا السياق متابعة كيفية تطور هذا الدور. ففي عام 1991 كان لدى كل من بوش وجيمس بيكر استراتيجية أوسع وأكبر بكثير من تحرير الكويت وعدم السماح لمثل هذا النوع من الاعتداء على دولة أخرى، وذلك في أعقاب نهاية الحرب الباردة. وعرف كل من بوش وبيكر أن المشهد الجيوسياسي قد تغير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتحرير الكويت بتحالف واسع يمكن أن يسهّل أو يعطي فرصة أخرى لتقدم مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية، وبناء على ذلك وقبل الانتصار الذي تحقق لپ"عاصفة الصحراء"، بدأ كل من بوش وبيكر في بذل جهود مكثفة لفتح ثغرة حتى يعود العرب والإسرائيليون إلى التفاوض، أما في دمشق فوصلتني تعليمات بالمساعدة في التحضير حتى يتمكن الأسد من حلحلة الموقف وتخفيف تعنته بالنسبة الى مواقفه الثابتة تجاه إسرائيل. من"الكيان الصهيوني"إلى"إسرائيل" في لقاءاتي الأولى واجتماعاتي مع الأسد، لم يشر إلى الدولة العبرية باسم"إسرائيل"، إنما كان يسميها"الكيان الصهيوني". إلا أنني أدركت لاحقاً أن معلوماته عن إسرائيل ومعرفته بالمجتمع الإسرائيلي والسياسة المحلية كانت قليلة. كان لدى الأسد مستشار مميز من أصل فلسطيني يدعى أسد الياس، كان هذا الأخير يتكلم العبرية ويقرأها وكان الرئيس يستشيره في الأمور الإسرائيلية وشؤون المجتمع العبري. كانت غرفة الياس في القصر الرئاسي مملوءة أو مكدسة من الأرض حتى السقف بالصحف والمجلات الإسرائيلية التي علاها الغبار، ومن الواضح أنه كان يحن الى وطنه السابق وكانت آراؤه جامدة متحجرة، الأمر الذي أثر كثيراً في وجهة نظر الرئيس. وأثناء مقابلاتي مع الرئيس الأسد، كنت أناقش معه موضوع سياسة إسرائيل وشؤونها المحلية كلما أتيحت لي الفرصة. وكان ينصت إليّ بعناية ثم يبدأ في تناول تاريخ الشعب الإسرائيلي مرجعاً أصوله إلى إمبراطورية الخزر القديمة وليس إلى أصول شرق أوسطية التي تحوّل سكانها إلى اليهودية في القرن الثامن ثم هاجروا إلى بولندا وشكّلوا قاعدة لليهود الغربيين الإشكناز. وفي رأيه التاريخي كقومي عربي، كان يعتقد أن الإسرائيليين أجانب بدرجة كبيرة وغربيون زُرعوا في الأرض العربية. وكان ينظر إليهم مثلما ينظر الى الفرنسيين أو الإنكليز الذين قسموا الشرق الأوسط في الفترة ما بين 1916 و1922 طبقاً لاتفاقية سايكس-بيكو. إلا أن فكره تطور أثناء الفترة التي قضيتها في دمشق، على الأقل بالنسبة الى السياسة الإسرائيلية المعاصرة، وأصبح مطلعاً على التحالفات والائتلافات السياسية الإسرائيلية وأهمية عوامل مثل حزب شاس المتطرف ورئيسه الروحي الحاخام أفيدا يوسف. وتوقف عن تسمية إسرائيل بالكيان الصهيوني وبدأ يسميها باسمها، إلا أنه استمر في تفسير الدور الذي يلعبه اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة وسيطرة هذا اللوبي على الإدارة الأميركية، وهو يعكس بذلك تصوراً واسع الانتشار في العالم العربي بأن الجالية اليهودية تقوم بالضغط كثيراً على الإدارة الأميركية ولها نفوذ سياسي كبير في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط. وفي لقاء وفد من الكونغرس الأميركي مع الأسد، قدمت الوفد وأشرت إلى شخصين يعتبرهما الأسد جزءاً من اللوبي اليهودي. وكان أصدقائي في الوفد مشدوهين، لكنني أعرف عن الأسد حبه للفكاهة السياسية، فضحك وقال إنّه سيكون مهتماً بسماع ما سيضطرون لقوله، وكان اللقاء ودياً وشعرت بأن حاجزاً نفسياً آخر قد تصدع ولو قليلاً. عاصفة الصحراء في تشرين الثاني نوفمبر 1990 كانت إدارة بوش تبذل جهداً كبيراً في حشد ائتلاف عسكري سياسي لحملة"عاصفة الصحراء"لإخراج صدام حسين من الكويت. وقد أظهر بوش فهماً كبيراً للثقافة العربية، إذ أوضح لمستشاريه في مجلس الأمن القومي الأميركي أنه لا يريد غزو عاصمة عربية بقوات أميركية، وكان يعني بذلك مدينة الكويت. سألني وزير الخارجية بيكر: ما العمل لإقناع الأسد باشتراك القوات السورية في هذا التحالف؟ وقلت له: لقد قمنا بعمل رائع في جعل حافظ الأسد يتخذ قراراً سياسياً للمشاركة في ائتلاف تقوده الولاياتالمتحدة ضد منافسه صدام حسين، إلا أن جعله يرسل قوات إلى هذا البلد ربما يتطلب عقد اجتماع قمة مع الرئيس بوش"وكان رد بيكر بالإيجاب:"حسناً، إبدأ في الترتيب لهذا الاجتماع". وبعد مجهود كبير، استطعنا تنظيم اجتماع قمة في جنيف، وتم ذلك في 23 تشرين الثاني 1990، وقبل الاجتماع ببضعة أيام أخبرني بيكر أنه لن يستطيع اصطحاب الرئيس بوش إلى اجتماع جنيف، فهو في طريقه إلى عواصم دول أميركا اللاتينية لحشد الدعم لقرار مجلس الأمن بخصوص العمل العسكري الذي ستقوم به قوات التحالف في الكويت. وطلب مني اصطحاب الرئيس بوش على طائرة سلاح الجو الأميركي وإخباره عن كيفية التعامل مع الأسد وذلك للتأكد من حصولنا على استجابة إيجابية من الأسد. كان الرئيس بوش عائداً من رحلة إلى آسيا وتوقف في القاهرة للقاء الرئيس حسني مبارك. وكان يتوجب عليّ مغادرة دمشق على وجه السرعة"فحجزت مقعداً على آخر رحلة متوجهة إلى القاهرة في هذا اليوم. وبينما كانت الطائرة على وشك الإقلاع، تحدث قائدها عبر مكبرات الصوت عن إغلاق المجال الجوي لمطار القاهرة وذلك لقدوم الرئيس الأميركي فأُصبت بالهلع. والأمر الأوّل الذي فكّرت فيه هو أن وزير الخارجية بيكر لن يتفهم فشلي في عدم الحضور على طائرة سلاح الجو الأميركي. فطلبت التحدث مع قائد الطائرة المتوجهة إلى القاهرة وأبرزت جواز سفري الديبلوماسي. وشرحت له أنني السفير الأميركي في دمشق وأنني في مهمة دقيقة ويتوجب عليّ السفر مع الرئيس بوش للقائه بالرئيس السوري في جنيف، وطلبت منه أن يتصل بالسلطات المصرية في القاهرة ليعرف ما إذا كان سيسمح لنا بالهبوط. ولحسن الحظ نجحت الخطة ووصلنا إلى القاهرة في وقت مناسب لكي أستقل طائرة السلاح الجوي الأميركي وذلك قبل أن يصل الرئيس الأميركي الى تلك الطائرة ومن ثم أقلعنا جميعاً إلى جنيف. وجاء برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي إلى القسم الخلفي حيث كنت أجلس. وبينما كانت الطائرة على وشك الإقلاع، أومأ إلي سكوكروفت بالذهاب إلى غرفة المداولة لإطلاع الرئيس على ما تم. ولساعات كان لي شرف إطلاع الرئيس على ما يمكن أن يتوقع من الرئيس الأسد والقضايا التي من المحتمل أن يثيرها وأسلوبه الصعب في التفاوض ودور مساعدي الرئيس الأسد. واقترحت أيضاً على بوش كيف يمكنه التعامل مع الأسد، كما اقترحت أيضاً أنه إذا حان الوقت لاتخاذ قرار بخصوص الالتزام السوري العسكري بإرسال قوات تنضم الى الائتلاف الدولي، فعليه أن يتحدث على انفراد مع الأسد وبصحبته مستشار الأمن القومي، وأخبرته أن الأسد سيطلب اصطحاب وزير خارجيته فاروق الشرع. هذا الأمر سيسلط الضوء على الأهمية التي أعطاها بوش للطلب العسكري. كما اقترحت أيضاً أن يقوم الرئيس خلال الاجتماع السري، بالتركيز على الدور المركزي الذي لعبته سورية على مستوى مبادرات الإدارة الأميركية بالنسبة الى السلام العربي - الإسرائيلي، فهذا الأمر يجعله يميل إلى تلبية الطلب. استمرّ اجتماع جنيف كما توقعنا مع المواقف الصعبة التي وقفها الأسد والتشدد الذي أبداه، إلا أنه أبدى استعداده للتوصل إلى اتفاق، ونجح بوش في استمالة الأسد بطريقة فعالة وخرج من الجلسة الخاصة مع الأسد وهمس في أذني قائلاً:"لقد نجحت". ... مثّل هذا العمل إنجازاً تاريخياً بالنسبة الى الرئيس بوش ووزير الخارجية بيكر، فاستمالة الأسد وإلزامه سياسياً وعسكرياً بمشاركة سورية في الائتلاف الذي تقوده الولاياتالمتحدة ضد دولة عربية مجاورة، وبعد ذلك انخراط سورية في مفاوضات وجهاً لوجه مع إسرائيل، كل هذا ليس عملاً عادياً وإنما بطولياً. ... قام جيمس بيكر برحلات مكوكية مكثفة 16 رحلة وفي آخرها حصل على اتفاق مع الأسد على المشاركة في مؤتمر دولي للسلام في مدريد تشرين الأول/ أكتوبر 1991 واتصل بي بيكر من لشبونة ليخبرني بأن لديه رسالة من الرئيس بوش الى الرئيس الأسد. ولكي يؤكد أهمية الرسالة، كان بيكر يريد أن يسلمها مباشرة إلى وزير الخارجية السوري. في الواقع كانت الرسالة تتضمن الاقتراح الأساس الذي تقدمت به أميركا لسورية، وهو قبول مفاوضات وجهاً لوجه بحيث تكون المفاوضات مباشرة، وذلك في إطار مؤتمر دولي تعقده الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي مع تأكيدات من الولاياتالمتحدة بأن المؤتمر سيكون مبنياً على قراري مجلس الأمن الرقم 242 والرقم 338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، ويعني ذلك أن تنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 في مقابل سلام مع جيرانها العرب. وبنبرات متقطعة طلب مني بيكر أن أسأل الشرع السفر إلى لشبونة خلال الأيام المقبلة ولاستمالة السوريين الى اتخاذ قرارات سريعة. لم يكن أمراً سهلاً. اتصلت بالشرع وشرحت له الموقف، فتذمر وأبدى امتعاضه من المخطط وقال إن الأمر مستحيل، وأنّه على أي حال سيحاول الحصول على موافقة رئيسه. وظللت أضغط عليه، وبعد يومين وافق على الذهاب إلى لشبونة، شعرت بالراحة وأخبرت بيكر بالأمر. في اجتماع لشبونة بدأ الشرع في استيعاب أهمية رسالة بوش وشرح له بيكر أن هذا يمكن أن يكون نقطة تحول في المساعي المبذولة من أجل السلام العربي - الإسرائيلي، وهذا بالطبع يعتمد على استجابة سورية. ذات مساء، طلب مني وزير الخارجية الشرع أن أقابله. في الواقع ظننت أنه قياساً الى الساعة المتأخرة التي أتت فيها المكالمة، ربما يكون قد أطلق سراح أحد الرهائن في لبنان وكنت سعيداً لظني هذا. وعندما وصلت إلى مكتب الشرع وجدته مسترخياً وعلى وجهه ابتسامة، قال لي إنّه يحمل أخباراً سارة، وسلّمني مظروفاً أبيض موجهاً إلى الرئيس بوش. شكرته على ذلك وقلت:"آمل أن يكون الرد والاستجابة إيجابيّين"، وأعطاني أيضاً نسخة من الرسالة وطلب مني قراءتها قائلاً إنه يريد أن يحصل مني على استجابة وردّ فعل. قلت له إن هذا ليس بالأمر المهم وإنما الذي يهم رد فعل الرئيس بوش ووزير الخارجية. ضحك وقال إنه يتفهم الأمر، إلا أنّه والرئيس الأسد يريدان أن يعرفا رأيي في الموضوع. وقرأت الرسالة، كانت تتألف من بضع صفحات وبعد ذلك قرأتها مجدداً. استغرب الشرع المدّة الطويلة التي استغرقتها لقراءة الرسالة، فنظرت إليه وابتسمت قائلاً إنني أبحث عن الثغرات، ثم ضحك وقال: هل وجدتها؟ وأجبته: جعلتني متوتراً وعصبياً لأنني لم أجد شيئاً، وسألني عن رأيي فأجبته: سعادة الوزير، قل للرئيس الأسد إنني أظن أنه اتخذ قراراً تاريخياً من أجل السلام. وشعرت بالابتهاج واندفعت عائداً إلى السفارة لإرسال نص الرسالة إلى وزارة الخارجية ولكل من بيكر والرئيس. حقاً كان قبولاً واضحاً لخطاب بوش وكانت الملاحظة التحذيرية في الرسالة تفيد بأنه في حال فشل المبادرة، فإن الأسد يحتفظ بحق الرجوع إلى مواقف سابقة وبدور مركزي للأمم المتحدة، في أي مفاوضات. وكان الأسد يعمل على شراء ما يكفيه من مبادرة الأممالمتحدة. وكان لا بد من بذل جهود أكبر لكي أحمل الأسد على تنفيذ وعده، غير أن خروجنا من الأزمة كان بسلام، وأدى كل ذلك إلى أن تكون المفاوضات المباشرة وجهاً لوجه بين إسرائيل وسورية، وهو هدف كانت تسعى إليه إسرائيل خلال أربعين سنة. كان هذا القرار الذي اتخذه زعيم سورية وحزب البعث على حدود إسرائيل الشمالية اختراقاً كبيراً. كانت ولايتي كسفير للولايات المتحدة في سورية 1988 - 1991 قد تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد كانت لهذه الظروف التاريخية غير العادية مضاعفات في منطقة الشرق الأوسط حيث كان التنافس بين القوى العظمى حاداً. لقد كانت سورية في المعسكر السوفياتي، ومستفيداً أساسياً من المساعدات والأسلحة السوفياتية، وقد كان لسقوط جدار برلين وتفكك الإمبراطورية السوفياتية وسقوط الزعماء الشيوعيين من أمثال نيكولاي شاوشيسكو في رومانيا الذي أعدم في كانون الأول ديسمبر 1989، تأثير كبير في القيادة السورية. إذ فقدت هذه القيادة الراعي السوفياتي. شكل ذلك عائقاً أمام هذه القيادة، وفي هذا السياق بدأ حوار جديد يتطور على كل المستويات الحكومية للقوتين العظميين بدءاً من الرئيس جورج بوش والرئيس ميخائيل غورباتشيف وانتهاءً بالديبلوماسيين السوفيات والأميركيين على الساحة الدولية. وكانت دمشق هي العاصمة بل والمنطقة المثالية لمثل هذا الحوار غير المسبوق. ووقعت حادثة مسلية أثناء زيارة زميل سوفياتي لدمشق، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط ومخضرم كذلك ويدعى يفغيني بريماكوف، كنت تعرفت إليه في أوائل أيامي كديبلوماسي في بيروت في الستينات من القرن الماضي، وكان في هذا الوقت صحافياً وعميلاً سرياً لدى جهاز الاستخبارات السوفياتي. وفي السنوات التي تبعت ذلك ارتفع نجم بريماكوف ووصل إلى أعلى المناصب في الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء. وفي أوائل التسعينات بينما كان عضواً في المجلس الرئاسي لميخائيل غورباتشيف وكان مبعوثاً للعراق قبل نشوب حرب الخليج الأولى، كان يلتقي صدام حسين ويزور دمشق أيضاً. واتفقنا أن نجتمع في واحدة من المناسبات، وتقابلنا في مقهى في أحد الفنادق في وسط دمشق، وبمجرد أن جلسنا وطلبنا القهوة كانت هناك خلية من الندلاء ممن يقومون على خدمة الزبائن، ومن الواضح أنهم كانوا يريدون أن يلتقطوا ما كنا نتناقش فيه، ولم يضيّع بريماكوف ضابط الاستخبارات المتمرس الوقت وأوضح لهم أننا نريد الخصوصية. وبعد دقائق أتى نادل بأصيص زهور ووضعه في وسط المائدة ونظر إلى بريماكوف وابتسم. فاستدعى النادل وقال له إننا لم نطلب نباتات أو أزهاراً، خذ هذا القدر النباتي. لقد كان داخل القدر ميكروفون مخبأ في الأزهار والنباتات. وسرعان ما أزحنا الميكروفون جانباً واستأنفنا حديثنا. وقلت له مازحاً:"لقد درّبتهم يا بريماكوف جيداً". تحرير الرهائن في بيروت كان العمل مباشرة على أعلى المستويات مع الحكومة السورية لتحرير الرهائن الأميركيين في بيروت، واحدة من المهمات التي شعرت بأنها تتطلب الكثير من التحديات، إلا أنها في النهاية مهمة مجزية على المستوى الشخصي. كان عماد مغنية واحداً من أكثر الخطرين المطلوبين في العالم، إذ دانته حكومة الولاياتالمتحدة الأميركية بخطف طائرة TWA الرحلة 847 عام 1985 وذلك على يد عملاء"حزب الله"السريين، وكان قبل موته في حادث تفجير سيارة في دمشق في شباط فبراير عام 2008، يُظن أن عدداً من الدول العربية اتُهمت بالترتيب لقتله. كان مغنية يتنقل بين إيران وپ"حزب الله"، ويقال إنه كانت له صلات باستخبارات الحرس الثوري الإيراني. لاحقته حكومة الولاياتالمتحدة منذ عام 1983، وهي السّنة التي فُجرت فيها السفارة الأميركية وثكنات مشاة البحرية الأميركية في بيروت، وقد كان متورطاً في خطف الغربيين في بيروت في الثمانينيات وعمليات أخرى يرعاها"حزب الله"مستخدماً اسم"الجهاد الإسلامي". وكان تم إعدام العميد وليم هيغينز وضابط الاستخبارات وليم بكلي، وأطلق سراح آخرين في أوقات مختلفة حتى آخر رهينة أميركي كان محتجزاً في لبنان تيري أندرسون الذي أطلق في كانون الأول ديسمبر 1991. وبما أن لسورية حضوراً على قدر كبير من الأهمية في لبنان، كما أن لها علاقات وثيقة مع الإيرانيين، فقد ساعدتنا كثيراً، حيث استطاعت التأثير فيهم ليستخدموا نفوذهم مع الخاطفين لإطلاق الرهائن. كانت هذه العملية شاقة ومحبطة مع الأخذ في الاعتبار الوعود الكاذبة التي تلقيناها، إلا أنّه عندما نجحنا في إطلاق سراح الرهائن شعرنا بالبهجة. وبدءاً من رئيس الجمهورية جاهدت الحكومة الأميركية وبلا توقف لإطلاقهم، وكان ذلك مبنياً على مبدأ الدعوة إلى تركهم أحراراً ومن دون شروط. ولم نكن أبداً نفاوض أو نعقد صفقات مع الخاطفين، وتطلب ذلك مني العمل الدؤوب ومحاولة الضغط على الحكومة السورية لاستخدام كل نفوذها في لبنانوإيران حتى نصل إلى نتائج إيجابية. وكان المحاور الأساس معي هو فاروق الشرع وزير الخارجية السوري. * تصدر الترجمة العربية للكتاب أوائل الشهر المقبل عن دار الكتاب العربي في بيروت. نشر في العدد: 16722 ت.م: 15-01-2009 ص: 22 ط: الرياض