كان علينا منذ مدة أن نستأنس أو لا نستأنس بشراكة الإخوة من إيران، فصار علينا أن نختار بين الأُنْس وعدمه بالإخوة الأتراك. فقد عرفنا من أخبار يومي السبت والأحد، أن ممثل رئيس الوزراء التركي حضر المحادثات بين المصريين و"حماس"، وقرّ الرأي على أن يكون الأتراك هم الذين يشاركون في الرقابة على معبر رفح لجهة غزة وليس لجهة مصر. والمفهوم أن"حماس"وإسرائيل وافقتا على الحضور التركي، واستمر الخلاف على المراقبين الدوليين أو القوات الدولية بين غزةوفلسطينالمحتلة. واستمر خلال ذلك طبعاً قتل المدنيين الفلسطينيين من جانب القوات الإسرائيلية الغازية. والحق أن هذه النعمة المتمثلة بانضمام الإخوة الأتراك الى حلفاء أمتنا وشركائها في فلسطين وغيرها، يعود الفضل فيها الى الشقيقة سورية أيضاً، فهي كما كسبت لأُمتنا صداقة إيران منذ العام 1980، أقبلت منذ أربع سنوات على كسب صداقة النظام"الإسلامي"أيضاً في تركيا، وتوسيطه في المفاوضات مع إسرائيل. وهكذا فقد صار لنا جناحان: جناح ترفعه إيران بعد أن كان مَهيضاً فيثير الحروب من أجل تحرير فلسطين - وجناح تحنو به علينا الشقيقة الأخرى تركيا فيرتب لنا مسائل التهدئة والمهادنة مع العدو الذي يُسارع للاستجابة لتركيا لا لغيرها، لأنه يكون قد أكل"هزيمة"كالعادة من مقاومتنا طبعاً، ما تركت في ديارنا نحن بَشَراً ولا حَجَراً! ولندع السخرية السوداء التي لا يشفي الغليل في هذا الموقف المأسوي غيرها، ولنتأمّل المشهد أو مسرح الأحداث، ونتائجه الأولية. فالذين خسِروا ولا يزالون: الشعب الفلسطيني بما قدّم قسراً من ضحايا، وما تخرَّب له من عُمران، وبما خَسِرَ من حرية. إذ لا ينبغي أن ننسى أن غزة التي احتُلّت سنة 1967 ما هدأت منذ ذلك الحين. وقد عرض الإسرائيليون على مصر منذ الثمانينات من القرن الماضي، أن تستردّ غزة ويا دار ما دخلك شرّ! وقال إسحاق رابين مرة: ليتني أستفيق يوماً فأجد أن غزة غرقت في البحر! وقد عرضوا على"أبو عمار"مقولة: غزة أولاً، في التنفيذ لاتفاقية أوسلو، فلم يقبل وسُرَّ كثيراً أنه حصل معها على أريحا. والمعروف أن إسرائيل استعادت كل الأراضي التي خرجت منها بمقتضى أوسلو في خضمّ الانتفاضة الثانية عام 2002 تقريباً، لكنها اضطُرت للخروج من غزة عام 2005 في خطة شارون للانسحاب من طرفٍ واحدٍ ومن دون تفاوض. أفلا يكون إنجازاً أننا استطعنا أن"نُرغم"، نعم نُرغم إسرائيل على العودة الى غزة غازيةً قاتلةً مُدمِّرةً، وذلك لكي تستمر"المقاومة"حتى تحرير كل فلسطين، لأنه لا يجوز تحرير فلسطين إلاّ دفعة واحدة! والى ذلك طمأننا السيد إسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة"حماس"في غزة في اليوم الثاني لبدء الغزو عندما قال ما معناه: لو أبادوا غزة، فلن نستسلم! خسارة الشعب الفلسطيني إذاً لا شك فيها. أما الطرف الخاسر الثاني فهو مصر ومعها كل عربي ما كان يريد أن"تتحرر"غزة بهذه الطريقة. سمعتُ يوم الأحد مساء رئيس وزراء قطر يقول إن هناك عَرَباً وقفوا مع السلطة الفلسطينية أو مع"فتح"ضد"حماس". وكان يقصد بذلك مصر ودولاً عربية أخرى. وهذا صحيح لكنه ليس دقيقاً. فقد وقفنا جميعاً مع وحدة السلطة ووحدة الحكومة ووحدة العمل الفلسطيني في هذه الظروف القاسية التي مرّ بها الإخوة الفلسطينيون ومرت بها قضيتهم بعد الانتفاضة الثانية، وقتل أبو عمار، وبهدلة السلطة الفلسطينية المنتَخَبة رئاسةً ومجلساً وطنياً وحكومةً. وما استطاع الفلسطينيون أن يبقوا موحدين، وقد تتحمل السلطة أو بعض جهاتها مسؤولية بارزة في ذلك، لكن"حماس"أجابت كما هو معروف بالاستيلاء على غزة، وقتل خصومها من الفلسطينيين مسلحين كانوا أو غير مسلحين. فماذا فعلت مصر؟ قضى رجالاتها أكثر من سنتين يجولون بين"فتح"و"حماس"من أجل جمع كلمتهما. وقالوا ل"حماس"على وجه الخصوص: فصل غزة عن القطاع مؤامرة إسرائيلية وقعتُم فيها قد تُنهي القضية الفلسطينية. وها هم اليهود يعرضون علينا استعادة غزة، ولا يُعطون محمود عباس شيئاً بحجة ضعفه وعدم قدرته على إنفاذ التعهدات التي قد يقطعُها. وإقبالكم أو إقبال التنظيمات الحليفة لكم على إطلاق الصواريخ التي لا تنفعُ بل تضرّ سيتسبَّب في مجازر للناس، وقد يُعيد إسرائيل الى القطاع إن أبينا أن نأخذ عنهم مُصيبة غزة. ومعبر رفح تُحلّ مشكلته جزئياً بالتهدئة، وكلياً بالعودة الى الأوضاع التي كانت عام 2005 بعد الانسحاب الإسرائيلي. وعرفت مصر، وعرف عربٌ آخرون ما يمكن أن يحدُث، منذ أبَتْ"حماس"العودة الى التفاوض مع الفصائل الأخرى في 10 تشرين الثاني نوفمبر الماضي بالقاهرة. فمنذ ذلك الحين حدثت أمور أربعة: الحملة الإعلامية على مصر من جانب إيران و"حماس"ومحور إيران و"حماس"، وإعلان"حماس"عن عدم إرادة تجديد التهدئة في 18/12/2008، والبدء بإطلاق الصواريخ التي لا تضرُّ العدو ولا تحمي الصديق، وبدء الهجوم الإسرائيلي الكبير على غزة. لماذا خسرت مصر، وخسِر العربُ معها؟ لأن هذه المذبحة ضد الشعب الفلسطيني حدثت على حدودها، ولأنها أُحرجت بإقفال المعبر ليس أمام المساعدات والجرحى بل أمام المدنيين فهي طرف في اتفاقية دولية من جهة، وفتح المعبر يعني لجوء نصف شعب غزة الى مصر في"ترانسفير"كالذي تُجيد إسرائيل صُنعه منذ العام 1948. وما تمكنت مصر، ولا تمكن العرب من حماية الشعب الفلسطيني لا من إسرائيل، ولا من"حماس". وقد انصبّ الجهد منذ اليوم الأول، ومن جانب أهل المحور المعروف، على شن الحرب على مصر وليس على إسرائيل: في العادة نلجأ جميعاً الى المجتمع الدولي، ومجلس الأمن. وهكذا فعلنا نحن في لبنان، على رغم أن أوضاع"مقاومتنا"كانت ولا تزال أفضل من أوضاع"مقاومة""حماس". وما توقفت الحرب الإسرائيلية علينا في لبنان إلا بالقرار الدولي الرقم 1701. أما هذه المرة، ومنذ اليوم الأول كما سبق القول، فإن دولتي قطر وسورية ومعهما كل المحور الإعلامي المعروف أرادتا عقد مؤتمر قمة في الدوحة وليس في مصر لردع العدوان الآتي طبعاً من معبر رفح! وفي ظروف صعبة جداً انعقد مجلس وزراء الخارجية العرب، وتقررت دعوة مجلس الأمن للانعقاد. وفي ظروف شبه مستحيلة، - بسبب وقوف أكثر الدوليين مع إسرائيل، وبينهم أطراف نافذة جالت في المنطقة في الأسبوع الأول للحرب مهلِّلة للعدوان - صدر القرار الدولي الرقم 1860، وبعد اثني عشر يوماً من بدء العدوان، في حين ما صدر في حالة لبنان إلا بعد أكثر من عشرين يوماً! ومع ذلك، فمصر خاسرة، والعرب خاسرون، لأن الفلسطينيين خسروا حوالي الألف قتيل، وخربت ديارهم، ولأن السلطات الفلسطينية تحت الاحتلال لا تزال منقسمة وما التقت بعد. ولأن آمال الشعب الفلسطيني في السلام والدولة صارت أصعب وأبعد. أما الرابحون فهم كُثُر وأولهم الزعماء الإسرائيليون، الذين"نجحوا"في قتل قرابة الألف فلسطيني نصفهم من الأطفال والمدنيين الآخرين الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولم يجدوا مخابئ من العدو غير أكواخهم ومدارسهم ومساجدهم التي دُمّرت على رؤوسهم. ونتيجة هذا القتل صعدت حظوظ زعماء اسرائيل في الانتخابات النيابية المقبلة عندهم في 10 شباط فبراير، أي بعد أقل من شهر. أما ثاني الرابحين فهم الإيرانيون والأتراك. الإيرانيون الذين دفعوا"حماس"الى الحرب لهدفين حققوهما: الإساءة الى"عرب التسوية"كما قالوا، إظهاراً لعبث السير في التسويات، وإظهاراً لعجزنا عن حماية الشعب الفلسطيني. والهدف الثاني لإيران: تثبيت جبهتها ومناطق نفوذها وسلامة أوراقها وهي تُقبل على التفاوض عن قريب بعد تسلم أوباما منصب الرئاسة في الولاياتالمتحدة. فسورية كانت سائرة نحو مفاوضات مباشرة مع العدو هل تخلّت عنها؟. والتطورات في العراق لا تُعجبها. وعلا الصوت في لبنان من أجل إكمال إعمار ما خرّبته حرب العام 2006، وتثبيت الأمن على الحدود. و"حماس"ازدادت عليها الضغوط للعودة الى وحدة الصف، وقبول الاستمرار في التهدئة. كل هذه النقاط مناطق نفوذ لإيران تجمعت خلال عقدين وأكثر، ولا يصح أن تضيع أو تتزعزع. أما الأتراك فقد كانوا شركاء لسورية وإسرائيل وحسب. وها هم يصيرون شركاء لمصر ولكل العرب من خلال قضية فلسطين. ووضعهم أحسن من وضع إيران لأنهم أصدقاء أيضاً لإسرائيل، كما سبق، وبينهم وبينها ليس علاقات ديبلوماسية فقط، بل وتعاون عسكري! والطريف وما سأقوله ليس نكتة ولا سخرية أن تركيا لا تقلّ عن إيران حرصاً على منظمة"حماس". وهذا ما قاله أردوغان علناً، وردت"حماس"التحية بأحسن منها، وها هو التركي يمثلهم عند معبر رفح، وتُرحِّب إسرائيل بذلك. و"حماس"أيضاً بين المنتصرين وإن تكن آخرهم. فقد طمأننا محمد نزّال وخالد مشعل الى أن بنية"حماس"العسكرية لم تُمسّ، والقيادة لم تُصَب. وها هم الأطراف الإقليميون والدوليون يسعَون للتواصل معها. وصحيح أن"التحرير"سيتأخر قليلاً، لكن ما دامت"المقاومة"موجودة ومنتصرة فكل شيء هيِّن، أوَلم يقل زعماء سورية ومصر والأردن بعد حرب العام 1967: صحيح أن الأرض ضاعت، لكن الثورة بقيت، وعن الأرض عِوَض، أما الثورة والمقاومة فلا عِوَضَ عنهما! * كاتب لبناني نشر في العدد: 16720 ت.م: 13-01-2009 ص: 17 ط: الرياض