إذا كان من المعروف بداهة أن الخطابات تتشابه وتتواصل بسبب عاملين رئيسين أولهما تماثل الظروف وتكرار الأزمات وثانيهما انتحاء صاحب الخطاب لمنحى سابق عليه بغض النظر عن معرفة اللاحق بالسابق، فإن الخطاب الرشدي توافر له هذان العاملان فأثر بدوره في خطابات رواد النهضة أمثال محمد عبده والأفغاني وصولاً إلى زكي نجيب محمود أيضاً. ذلك ان محنة الخطاب الأول/الرشدي هي عين أزمة الخطاب الثاني/النهضوي الذي انتحى فيه رواده منهج ابن رشد في التحليل والبحث والتقويم والدراسة. وبداية إن المقصود بالخطاب الرشدي التوجيهي الفلسفي، هو المشروع النهضوي الذي أراد من خلاله تقويم ثقافة عصره وتحديد طبيعة العلاقة بين متغيراتها وثوابتها. الخطاب الرشدي بهذا المعنى حاضر وبقوة ضمن تضاعيف خطابات عصر النهضة العربية والذي سعى رواده الى الكشف عن جوانب القوة والضعف في الثقافة الإسلامية من خلال تشريح عناصرها وتشخيص ازماتها وتفكيك بناها الفكرية والاجتماعية والسياسية وصولاً إلى اقتراح بديل للأوضاع المأزومة والقيام بعمليات الإصلاح والتجديد. ولا شك في أن دراسة الأبعاد التاريخية والمعرفية للخطاب الفلسفي إنما تساهم في الكشف عن حقيقة اللحظة التاريخية للخطاب من جهة، مثلما تساعد على استجلاء مدى قوة جدلية التحدي والاستجابة التي تصاحب الخطاب لدى ظهوره من جهة ثانية، كما أنها تزيح الستار عن طبيعة المخاطبين من أصحاب السلطة والجمهور على حد سواء من جهة ثالثة. أضف إلى ذلك أيضاً أنها تبرر تكرار صيغ الخطاب، أو تشابهه، فضلاً عن تواصل مضمونه وغايته في فترات تاريخية متلاحقة، إلى جانب أنها تعين على استجلاء المعاني المستترة من وراء النص وبين السطور. فقد حاول أبو الوليد ابن رشد من خلال ثلاثة مصنفات رئيسية هي"فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة"وأخيراً"تهافت التهافت"، أن يطرح رؤية جديدة لتحديد الثوابت والمتغيرات للثقافة السائدة في عصره ومجتمعه. والراجح أن هذه المؤلفات الثلاثة كتبت بين عامي 1179 و 1180، أي في عهد أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن 1138- 1184م الذي تولى خلافة الموحدين عام 1163 ولم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمره. وقد عرف عن أبي يعقوب هذا رجاحة عقله وولعه بالفلسفة ما يؤدي إلى نتيجة مفادها أن الخطاب الرشدي ظهر في بيئة مناسبة تماماً لجهة دعم السلطة القائمة له. بمعنى آخر، لم يتخير أبو الوليد بن رشد اللحظة التاريخية لإلقاء خطابه وإنما هيئت له، بالتالي فإن المحنة التي تعرض لها هذا الخطاب في ما بعد لا ترجع إلى مضمونه ومناهضة فقهاء الموحدين له بقدر ما ترجع إلى فقدان الخطاب للسلطة التي كانت تسانده بوفاة أبي يعقوب وتولي ابنه المنصور 1160- 1199م أمر الخلافة عام 1184 والذي كان على النقيض تماماً من والده شديد المحافظة في الأمور الفقهية وأقرب إلى التعصب منه إلى التسامح. ويكفي للتدليل على ذلك ما فعله بفقهاء المالكية من إحراق كتبهم ونهيه عن الاشتغال بعلم الرأي وتعصبه للمذهب الظاهري. ويكفي أيضاً ما روي عنه أنه كان يعاقب على شرب الخمر بالقتل وجلد من ترك الصلاة. بل إنه حرم على نساء عصره ما أحل الله كلباس الحرير، وفرض على اليهود والنصارى ارتداء ثياب زرق تمييزاً لهم عن المسلمين!!. ونتيجة لذلك، عكف ابن رشد على الشروح من دون التصنيف منذ تولي المنصور الخلافة، أي أنه امتنع عن استكمال خطابه أو استئنافه لانتفاء اللحظة التاريخية المواتية فقام في عام 1186 بشرح كتاب"تفسير الطبيعة"وفي عام 1188 شرح كتاب"السماء والعالم"أما في عام 1190 فشرح كتاب"النفس وتفسير ما وراء الطبيعة". ثم وسع دائرة الشروح التي كان اقتصرها فقط على مؤلفات أرسطو ليشرح في عام 1193 تلخيص كتاب الحميات لغالينوس ثم"جمهورية أفلاطون"في عام 1194 ليعود مرة أخرى عام 1195 ليشرح"مسائل في القياس"لأرسطو. أما الصورة الثانية للخطاب الرشدي، أو اللحظة التاريخية المواتية لظهوره في العصر الحديث، فتبدو بوضوح تام ضمن تضاعيف خطاب الأستاذ الإمام محمد عبده 1849-1905 الذي اتخذ من دفاعه عن ابن رشد وفلسفته، في المساجلة التاريخية بينه وبين فرح أنطون 1874-1922 على صفحات مجلة الجامعة والمنار عام 1903، سبيلاً لتحديد الثوابت والمتغيرات في الثقافة الإسلامية، وتوضيح رؤيته في الإصلاح والتجديد، فضلاً عن توجيه الرأي العام نحو الأسس التي ينبغي اتباعها للنهوض بمصر خصوصاً والعالم الإسلامي عموماً. أيضاً يبدو حضور الخطاب الرشدي لافتاً في خطاب الإمام محمد عبده من خلال كتاباته وأحاديثه التي ظهرت في الفترة من 1902 إلى 1905 ممثلة في رده على كل من فرح أنطون وهانوتو إلى جانب إتمامه تفسيره الخاص بالقرآن الكريم الذي بدأه بالجامع الأزهر عام 1899، حيث تبدو على مؤلفات هذه الحقبة بالذات المسحة الفلسفية الرشدية أكثر من غيرها إلى جانب تعبيرها عن وجهة السيد الإمام في سبل الإصلاح والتجديد. لكن، على العكس تماماً من بروز لحظة تاريخية مواتية للظهور الأول للخطاب الرشدي، لم تكن اللحظة التاريخية التي ألقى فيها محمد عبده خطابه مناسبة أو مواتية لأسباب عدة على رأسها وجود الاحتلال الإنكليزي الذي كان يسعى جاهداً الى إجهاض الحركة الوطنية، وتغريب الرأي العام، وإضعاف السلطة القائمة ممثلة في الخديو عباس حلمي الثاني 1874-1944 الذي كان يعمل لخدمة مصالحه الخاصة أولاً بأول. أما من الناحية الثقافية، فقد كانت البلاد لا تزال تعاني من التخلف والجهل والتمسك الحرفي بظاهر النصوص، إلى جانب جمود التعليم الأزهري وتحريمه الاشتغال بالعلوم العقلية والتعويل على الشروح والحواشي في استخراج المعارف واستخلاص الأحكام الشرعية. كل ذلك دفع الإمام محمد عبده للوصول إلى قناعة تامة بأن خلاص المسلمين من كبوتهم لن يتحقق إلا من طريق ايجاد نخبة ممتازة من الدعاة والمجددين في الدنيا والدين معاً تعمل على إعادة بناء الأمة بمنأى عن التعصب والجمود. كما فطن الإمام محمد عبده أيضاً إلى أن أزمة ابن رشد الحقيقية إنما ترجع إلى ألاعيب الساسة ومكائد الخصوم من الفقهاء والحكام، فأراد أن يتجنب بدوره هذه المعوقات من خلال سعيه الى عقد مهادنة مع اللورد كرومر 1841- 1917 وتهدئة الأجواء بينه وبين الخديوي توفيق 1852- 1892 بوساطة من الأميرة نازلي فاضل. من ناحية أخرى، كانت استجابة الإمام لدعوة تلميذه رشيد رضا 1865- 1935 الذي دفعه الى مناظرة فرح أنطون حول ابن رشد عاملاً مهماً لتبرئة ابن رشد بصفته المتهم البريء والفيلسوف الذي جنت عليه السياسة والأحقاد متخذاً من ذلك سبيلاً لبعث دراسة الفلسفة من جديد في الثقافة العربية الإسلامية، مؤكداً أن الإسلام لم يكن قط معاديا للنظر العقلاني والانتفاع من الثقافات الأخرى. مثلما وجد الإمام في المناظرة فرصة سانحة لشرح الثوابت والمتغيرات في الفكر الإسلامي وتحديدها ودرء الخلاف بيم القديم والحديث وتحرير الفكر من أسر التقليد...إلخ. ثم ظهر الخطاب الرشدي مرة ثانية بوضوح خلال القرن العشرين ممثلاً في كتابات الدكتور زكي نجيب محمود 1905- 1993 الذي أكد أن هناك"تشابهاً في بنية الحركة الفكرية في العالم العربي إبان القرنين الحادي عشر والثاني عشر وبنيتها إبان القرنين التاسع عشر والعشرين لجهة أن كليهما متفق على أن شريعة الإسلام هي بمثابة الأساس في بنيان الفكر العربي ثم وفد إلى ذلك الفكر من خارج الحدود فكر آخر مؤسَس على العقل علوم الأوائل في الحالة الأولى وعلوم العصر الحديث في الحالة الثانية وفي الحالتين رأى فريق من رجال الفكر أن في ذلك الوافد خطراً يتهدد الفكر الأصيل". بل إنه يصرح في آخر مؤلفاته بمدى تأثره بالخطاب الرشدي مؤكداً أنه استلهم تجربة ابن رشد التوفيقية في جل كتاباته التي حاول فيها فض النزاع بين النقل والعقل وتحديد ثوابت الثقافة العربية. أيضاً يؤكد زكي نجيب محمود أن المنابر الفكرية التي تركها الإمام محمد عبده انصرفت عن غايتها وأغوتها السياسة. وفي المحصلة، يمكن القول إن عدم قدرة الثقافة العربية على اجتياز أزمتها لا يرجع إلى قصور الخطاب الرشدي وإنما يُردُ إلى عدم هضم الجمهور له وتخلي السلطة السياسية عنه وانصراف المثقفين إلى بناء خطابات أخرى لتشييد مجد شخصي. وآية ذلك أن الخطاب الرشدي أفلح في الغرب بمساندة السلطة السياسية له من جهة وتبني الصفوة المثقفة له من جهة ثانية. لكن يبقى القول إن الخطاب الرشدي قد يتحول مع الوقت إلى صنم ثقافي، فهناك من يأخذه على علاته ومن دون ادنى تمييز بين غثه وثمينه، على النحو الذي يبدو واضحاً في كتابات عاطف العراقي وأتباعه، كما أن التعويل نفسه على الخطاب الرشدي وحده للخروج من أزمتنا الراهنة ليس أكثر إقناعاً من التعويل نفسه الذي يقوده الأصوليون بالقول إن الأمة إنما انتكست ببعدها من الدين وإن صلاحها في الرجوع إليه فقط دون غيره من المبادئ أو العلوم الأخرى. وكما قال محمد بن زكرياء الرازي:"إن صناعة الفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم ولا مساهلتهم، وترك الاستقصاء عليهم، ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلامذته والمتعلمين منه. وأما من لامني على ذلك فلا أعده فيلسوفاً، إذ إنه قد نبذ بهذا الصنيع سنّة الفلاسفة، وتمسك بسنّة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم". * كاتب مصري نشر في العدد: 16717 ت.م: 10-01-2009 ص: 28 ط: الرياض