قبل إعلان إفلاس المصرف الأميركي "ليمان براذرز" بشهر تقريباً، تبلغ كبار الموظفين في نيويورك ان المكافآت السنوية ستوزع عليهم قريباً. وقدرت إدارة المصرف هذه المكافآت ببليونين ونصف البليون دولار، لأن نسبة الارباح بلغت رقماً قياسياً. وراح كبار الموظفين الذين شملتهم المكافآت، يخططون لشراء شقق فخمة وسيارات فارهة ويخوت ضخمة. ولما حلت الكارثة كان لا بد من تبخر آمال الموعودين بالثروة، خصوصاً بعدما وضع المصرف تحت حماية الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس. وكتب أحد الموظفين يصف مشاعره المتأرجحة بين حال الارتباك والضياع التي انتابته قبل الانتقال الى الواقع المرير الذي خيب آماله. وقال في مقالته إن المكافأة السخية التي وعدته بها إدارة المصرف كانت أشبه شيء بالمشهد الأخير من فيلم الباخرة"تيتانيك"، اي مشهد الفرقة الموسيقية البريطانية التي أبى قائدها إلا ان يكمل العزف، بينما الباخرة العملاقة تترنح وتغرق! وقد اختصرت هذه الصورة المعبرة الطرق الملتوية المبهمة التي تعاملت بها المؤسسات المالية الكبرى مع خسائرها ومتاعبها، وقد أدى فقدان الثقة بهذه المؤسسات الى افلاس رابع أكبر مصرف أميركي بعد مرور 158 سنة على تأسيسه، بل بعد استقطابه استثمارات عملاقة ساعدته على تجاوز الانهيار الكبير سنة 1929. زعماء الحزب الديموقراطي ينتقدون المعالجات السطحية التي يقوم بها جورج بوش، ويعتبرونها نسخة معدلة للمعالجات التي طرحها سلفه الرئيس هربرت هوفر أثناء أزمة تشرين الأول اكتوبر 1929. ففي تلك المرحلة دُعي الرئيس هوفر لحل مشكلة البطالة المتنامية وتقليص نسبة الخسائر الناتجة عن تراكم الديون. ووصفت صحف نيويورك يوم 24 تشرين الأول ب"الخميس الأسود"لكونه شهد بداية انهيار المؤسسات المالية وتفاقم الأزمة. الرئيس هوفر استشار رجال الأعمال وأصحاب المصانع وأرباب الأموال قبل المباشرة في ممارسة اجراءات رسمية خاطئة. ذلك انه اقتطع من نفقات الخزانة الفيديرالية ليدعم المصانع المتوقفة على أمل حل مشكلة البطالة. وأدت هذه التدابير الى عكس النتيجة المرجوة، خصوصاً بعد فشل خطة الإنقاذ، واستمرار الانهيارات الاقتصادية حتى ربيع 1932. وبسبب هذه النتيجة المدمرة امتلأت شوارع نيويورك وشيكاغو وبوسطن بالجياع والعاطلين عن العمل. وعلى رغم ارتكابه أخطاء اقتصادية مميتة، ظل الرئيس هوفر يبشر المواطنين بنهاية الركود واستئصال الأزمة. وقد عاقبه الناخبون باختيار منافسه فرانكلن روزفلت الذي اعتمد مساراً مختلفاً أثناء معالجة الوضع المتردي. ذلك انه ترك السوق الحرة تستوعب العاطلين عن العمل بدلاً من اعتمادهم على صدقة الأثرياء، كما فعل هوفر. ثم أقدم على سن قانون التأمين الاجتماعي، وحظر استغلال العمال، وأمر بإنشاء مؤسسات فيديرالية للمعونات الطارئة. وكان شعاره دائماً:"الإدارة مسؤولة عن رفاهية مواطنيها". ويلاحظ المؤرخون ان الولاياتالمتحدة لم تخرج من عثرات أوائل الثلاثينات إلا في خريف 1937. بالمقارنة مع تلك الأزمة يتوقع الاقتصاديون استمرار تعرض المؤسسات المالية في الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج واليابان والصين والهند للاهتزاز، لأن المعالجة التي قدمها الرئيس بوش لن تفلح في منع المخاطر. صحيح ان خطة ال700 بليون دولار قد تساعد على تهدئة الهلع خلال السنتين المقبلتين... ولكن الصحيح ايضاً ان أزمة القرن الواحد والعشرين مرشحة لأن تعبر شواطئ الأطلسي لتصل الى أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. وهذا معناه ان الدول المعنية ستضطر الى اعادة النظر في النظام المالي العالمي بحيث تشدد القيود على حماية المستثمرين. ومن الطبيعي ان يؤثر انهيار بنوك الاستثمار واهتزازها على النظم المصرفية وصناديق الاسهم والأوراق المالية وصناديق التحوط، خصوصاً بعدما تبين للمؤسسات المالية الأوروبية ان شراء المنتجات الأميركية ليس خطوة آمنة ومحصنة ضد التعثر والسقوط. في تعليقه على محاولة دعم الاسواق المترنحة، اعتبر آلان غرينسبان، رئيس البنك المركزي الأميركي السابق، أن الأزمة المالية الراهنة هي الأخطر منذ نصف قرن، وأن حلها ما زال بعيداً. وقد اعترف خلفه بهذه الحقيقة، وإنما اتهمه بالمساهمة في اندلاع أزمة الرهن العقاري، بسبب ابقائه نسب الفائدة على الدولار متدنية جداً. ولكن هذه الاتهامات لم تمنعه من التحفظ على تدخل الحكومة الفيديرالية بهدف ايجاد حل عن طريق الاستعانة بالمال العام. وقال إن هذا العمل مناقض للحرية الاقتصادية، خصوصاً أن العولمة المتسارعة رفعت من درجة تشابك المصالح على الصعيد العالمي. وكان بهذا الكلام يشير إلى البنوك المركزية في اليابانوبريطانياواستراليا والدنمارك والسويد وهونغ كونغ والإمارات العربية المتحدة، تلك التي ضخت بلايين الدولارات من أجل تعزيز سيولة المصارف المحلية. مع دنو موعد الانتخابات الرئاسية وتزايد الشكوك حول دور"وول ستريت"، أظهر أعضاء الكونغرس تردداً في الموافقة على خطة إنقاذ القطاع المصرفي البالغة 700 بليون دولار بصيغتها الحالية. حتى المرشح الجمهوري جون ماكين اعترض على إقرارها قبل إضافة اجراءات ضابطة وتعديلات تضمن حقوق دافعي الضرائب. وكان من الطبيعي أن يستغل المرشح الديموقراطي باراك أوباما هذه الأزمة لينتقد الحلول التي تعاقب دافع الضرائب وتحمي المصرف المفلس وتساعده على تخطي أزمته المالية. وحمّل أوباما على مرتكبي الأزمة، وعلى الإدارة التي تحميهم، معتبراً أن الانهيارات المصرفية تشكل تهديداً كبيراً للاقتصاد الأميركي ولقدرته على ايجاد وظائف للعاطلين عن العمل ولدافعي الضرائب وفواتير الادخار وأقساط المدارس وقروض السكن. ومثل هذا الكلام المحبب سماعه لدى الفريق المحايد من الناخبين، رفع أسهم أوباما بنسبة 53 في المئة مقابل 35 في المئة لصالح ماكين. لذلك قرر المرشح الجمهوري تأجيل المناظرة مع منافسه، لإيمانه بأن ما حصل مع نيكسون سنة 1960 قد يتكرر هذه المرة. ذلك أنه توقع من أوباما المعارض أن يحمله كل أوزار الحزب الجمهوري مع كل ما ارتكبه بوش من خطايا وأخطاء. وكي لا يحرج الرئيس مرشح حزبه اقترح عقد اجتماع بحضور أوباما لعل هذا المخرج يورط أوباما في أي حل يقترحه البيت الأبيض. ومن المؤكد أن هذا الاقتراح تسبب في احراج المرشح الديموقراطي لأن عدم الحضور قد يفسر بأنه تهرب من المسؤولية الوطنية في أوقات الشدة. قبل ثلاث سنوات أصدر محلل الأسواق المالية في نيويورك نسيم نجيب طالب، كتابه الثاني بعنوان:"البطة السوداء". المؤكد ان عنوان الكتاب ارتبط بوضع نظرية اقتصادية تستند الى واقع سابق يقول باستحالة وجود بطة سوداء. ولما اكتشفت بطة سوداء في استراليا، انقلب نموذج المفهوم السابق. وعلى هذه النظرية بنى نسيم طالب بعض الأحداث التاريخية التي وقعت مثل أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر، والتي لم يتوقعها أحد. وينطلق نسيم طالب لبناني الأصل من أميون، أميركي الجنسية من حقيقة اشاد بها مايرون سكولز وروبرت انكلز الحائزان على جائزة نوبل في الاقتصاد. وقد بيعت من الكتاب ملايين النسخ وترجم الى لغات عدة. وربما يسجل نسيم الأزمة المالية العالمية الأخيرة في الطبعة الجديدة من كتابه، لأنها جاءت مخالفة لكل التوقعات والرهانات الاقتصادية والمالية. أما التوقعات السياسية التي يرصدها المحللون، فقد تكون نتائجها أخطر بكثير من نتائج انهيار القطاع المصرفي. وهم يعتبرون بريطانيا الأكثر تأثراً على رغم تطمينات رئيس الوزراء غوردون براون، وإعلانه بأن بلاده ستصمد أمام العواصف. ولكن استمرار ارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية واتساع حجم البطالة التي وصلت إلى 80 ألف نسمة هذا الشهر، والمقدرة بمليوني نسمة بعد اقفال مكاتب مالية كبرى... كل هذه الأمور تنبئ بشتاء قارس يذكر بخريف الغضب قبل مسز ثاتشر، خصوصاً أن ديون الخزينة بلغت اخيراً 43 بليون جنيهاً، أي ضعف ديون الرئيس فؤاد السنيورة 43 بليون دولار. وكما انتجت أزمة الثلاثينات الحركة النازية - الفاشية في المانيا وايطاليا، من المتوقع أن تنمو الحركات الفاشية اليمينية المتطرفة في فرنسا وهولندا والنمسا، بسبب ارتفاع نسبة البطالة والقيود التي ستوضع على المؤسسات المالية والاجتماعية. أما في الولاياتالمتحدة، فإن أزمة 1929 - 1932 أرغمتها على الانكفاء والعزلة الدولية. ولولا معركة بيرل هاربر 1941، وحاجة أوروبا إلى مشروع مارشال لما جددت انتشارها العسكري والاقتصادي في العالم. ويتساءل أوباما في خطبه الانتخابية ما إذا كان من الخطأ بقاء القوات الأميركية في العراق ودفع تريليوني دولار خسارة إضافية، أم أن حرباً كبرى قد تقع بالقرب من منابع النفط، مثلما يردد هنري كيسنجر المطالب بإعادة توزيع عائدات النفط الخليجي. وحجته: أن ما لأميركا لأميركا... وما لغيرها من الشعوب لها ولهم. بقي أن نعتمد على نظرية"البطة السوداء"لعل الحدث الذي سيقع لن تدركه التوقعات! * كاتب وصحافي لبناني