ليس كل الأدباء محظوظين كفاية للفت الأنظار الى موهبتهم منذ الكتاب الأول، نشراً ومبيعاً. الاستثناء قلة تلفت الانتباه الى موهبتها أو تميزها بسرعة حد الحصول على الجوائز من خلال العمل الأول. كثر نشروا اكثر من عمل قبل ان يسجل كتاب لهم شهرة. البعض كان محظوظاً حتى مع الشهرة المتأخرة لأنها لفتت الانتباه الى ما كان في الظل من إنتاجه القديم. أما الأقل حظاً فتقبل حقيقة ان الكتب الأولى القابعة في الظل منذ سنوات، لأن أحداً لم يستسغها، هي بمثابة تمرين أولي أوصلهم الى مرحلة الكتاب المدوّي. وهو دوي عوض عن غبن سابق لأنه جعل واحدهم يعيش في ثراء وشهرة لا تتناسبان مع إيقاع الانطلاقة الأولى. هنا تجارب بعض الأدباء المعروفين في العالم وتذكير بأعمالهم الأولى التي لم تنجح في تثبيت شهرتهم. جون شتاينبك..."الكأس الذهبية" عانى شتاينبك الكاتب طويلاً قبل ان يلفت الانتباه لموهبته وهو الذي حصل لاحقاً على جائزة نوبل في الآداب وعلى جائزة بوليتزر الأميركية، والذي عرف من قبل كثر من خلال روايته"عناقيد الغضب". درس الأدب الإنكليزي في جامعة ستافورد بكاليفورنيا، غير انه تركها عام 1925، قبل ان يكمل دراسته بعد ان قرر ان يتعيش من قلمه في مدينة نيويورك. ولكن حظه في تلك المدينة كان عاثراً ولم يتمكن من طباعة أي رواية، فعاد الى كاليفورنيا ليقرر إنهاء رواية"الكأس الذهبية"، وهي رواية تاريخية تجري في القرن السابع عشر، بطلها قرصان يدعى هنري مورغان. نشرت الرواية عام 1927 ولفتت انتباه قلة من المهتمين فقط. الأمر نفسه تكرر مع روايتين هما"مراعي الجنة"وپ"الى إله مجهول". دفعه هذا الإحباط ليصرح لزميل دراسة قديم"ان الكتابة الروائية عمل مزعج"". لم تتحرك شهرة شتاينبك ولم يلفت الأنظار إليه على نطاق واسع الا عام 1935، بعد نشر روايته"تورتيلا فلات"التي حولتها هوليوود الى فيلم عام 1942. توني موريسون..."العينان الأكثر زرقة" نشأت الأميركية السوداء توني موريسون الفائزة بجائزة نوبل للآداب في ولاية اوهايو، محاطة بالبيض"أصحاب الرقاب الحمراء"كما يطلق أحياناً على الأميركيين من أصول أوروبية. اشتغلت بتدريس الادب الإنكليزي في جامعة هوارد. تزوجت مهندساً معمارياً وعاشت معه في اوروبا سنوات. وعندما انتهى زواجهما بالانفصال قررت ان تستقر في نيويورك. عملت مع دار"راندوم هاوس"للنشر، ولطالما بقيت ساهرة في الليل تكتب روايتها"العينان الاكثر زرقة"التي تتحدث عن فتاة تدعى بيكولا بريدلاف اغتصبت من قبل والدها وتحلم بأن تكون يوماً فتاة بيضاء بعينين ملونتين مثل نجمة السينما الصغيرة شيرلي تمبل. بعد صدورها، كتب عن الرواية عدد من الاشخاص بين مع وضد ونفدت طبعتها عام 1974 ولم يعد نشرها حتى كادت ان تصبح في طي النسيان. ولكن بعد نجاح رواياتها"محبوبة"وپ"أغنية سليمان"وپ"جاز"، عاد القراء المعجبون بها الى الرواية الاولى مرة اخرى بعد ان اعيد طبعها هذه المرة. دان براون وپ"القلعة الرقمية" في عام 1994 زار موسيقي اميركي فاشل يدعي دان براون جزيرة تاهيتي في عطلة استرخاء. وعلى الشاطئ راح يقرأ رواية كان احضرها معه عنوانها"مؤامرة يوم القيامة"لروائي يدعى سيدني شيلدون. وبعد ان انتهي منها قرر انه بامكانه ان يكتب عملاً أفضل. وكانت النتيجة انجازه رواية"القلعة الرقمية"وهي رواية مثيرة عن امرأة مختصة بالرياضيات تدعى سوزان فليتشر تعمل مع وكالة امن قومية، طلب منها ان تفك عقدة شيفرة ما لحماية الحضارة الغربية من غزو خفي. لم يكن للرواية مفعول القنبلة كما حدث مع الرواية التالية"شيفرة دافنشي"عام 2003 التي تحولت الى ظاهرة عالمية. لكن وبعد هذا النجاح اعادت دار النشر اصدار"القلعة الرقمية"لتتجاوز مبيعاتها العشرة ملايين نسخة حتى الآن، بعد ان باعت في البداية اقل من عشرة آلاف نسخة! أنطوني بيرجس وتوماس هاردي يعتقد البعض ان اولى اعمال الروائي البريطاني أنطوني بيرجس هي رواية"وقت للنمر"التي نشرت عام 1956، ولكن اول رواية له في الحقيقة صدرت عام 1949 بعنوان"رؤية من ثقوب الحصون"وهي رواية اقرب الى السيرة الذاتية مستوحاة من تجربته مع الجهاز التعليمي في الجيش البريطاني بمستعمرة جبل طارق، حيث ساهم في تعليم الجنود شيئاً عن الثقافة البريطانية. والعنوان يشير الى الرؤية المشوشة الناتجة من"قصور في النظر"لدى الاستعمار البريطاني. اضافة الى كتابه الاول هذا كتب رواية بعنوان"الدودة والخاتم"ومجموعة مختارات شعرية لم يوفق في اقناع الناشرين بهما، وبقيت جميعها في الظل ولم تلفت الانتباه اليه. وتطلب الامر زيارة الى بلد اجنبي آخر هو مالايا والكتابة عن تلك التجربة في ثلاثية كانت بدياتها"وقت للنمر"عام 1956 ليصل شيئاً من إنتاجه الى دور النشر ويحقق رواجاً واسعاً. وبعد نجاح روايته"الساعة البرتقالية"عام 1962 التي تحولت الى فيلم بعد ذلك، ظهرت طبعة جديدة من كتابه"رؤية من ثقوب الحصون"على ارفف المكتبات عام 1965. رحل بيرجس عن الدنيا وهو رجل ثري ولكنه لم يهنأ برؤية روايته الاولى تحقق مبيعات عالية. قضى هاردي السنوات الاولى من عشريناته في مدينة لندن وهو ابن الجنوب البريطاني. كان يعمل في النهار مصمماً معمارياً مع أحد المكاتب، وفي الليل يتحول الى شاعر هاو. عاد في عام 1867 الى مقاطعة دورست منطقته الأصلية وقرر ان يبدأ كتابة الرواية. وكانت النتيجة كتاباً بعنوان"الرجل الفقير والسيدة"وتتناول الرواية علاقة سيدة مجتمع مخملي جميلة مع رجل من الريف. رفضت الرواية من خمسة ناشرين على الأقل. إلا انه لم يستسلم وكتب بعد اربع سنوات رواية"علاجات يائسة"التي طبعت ونجحت الى حد ما، ثم حققت روايته الثالثة"بعيداً عن الجمهرة المجنونة"مبيعات عالية جداً، كذلك اشتهر توماس هاردي بروايته تس التي تحولت الى دراما تلفزيونية وسينمائية عدة مرات. ولم تنجح شهرته الجديدة في اقناع الناشرين بنشر مخطوطة الرواية الاولى، ويقال انه احرقها قبل ان يتوفى بوقت قليل. فلوبير وپ"غوايات القديس انطوني" لم تكن رواية"مدام بوفاري"لهذا الروائي الفرنسي هي الرواية الاولى التي كتبها، ففي شتاء عام 1849 جمع فلوبير بعض اصدقائه حول المدفأة وقرر ان يقرأ عليهم مخطوطة روايته الطويلة"غوايات القديس انطوني"، وكان منفعلاً ومتحمساً الى حد انه لم يكن يسمح لهم بالاستراحة من أجل الأكل فقط. وبعد ان انتهى من قراءة المخطوطة سألهم عن رأيهم فاقترحوا عليه ان يرميها الى نار المدفأة لانها الحل الافضل والمكان الأنسب لها! ويبدو ان فلوبير فعل ذلك ليبدأ بداية قوية لاحقة، فبعد ثلاث سنوات فقط صدرت روايته"مدام بوفاري"التي لا تزال تلهم السينما والمسرح والتلفزيون ولا تزال موضوعاً للدراسات الأدبية والاجتماعية. سلمان رشدي وپ"غريموس" قبل ست سنوات على صدور روايته الاولى"اطفال منتصف الليل"التي حققت انتشاراً واسعاً وحصلت على جائزة البوكر البريطانية اوائل الثمانينات، اصدر سلمان رشدي عام 1975 رواية اولى بعنوان"غريموس"، وكان ذلك في الفترة التي عمل فيها مع وكالة دعاية واعلان كمدقق حقوق ملكية. وصُنفت"غريموس"كرواية خيال علمي ميتافيزيقية مستوحاة من الاساطير الاميركية القديمة. واحتوت أيضاً على خرافات أدبية ومقاطع من هاملت وروبنسون كروزو والكوميديا الالهية وبعض الكتابات الصوفية القديمة. لم تبع الرواية كثيراً ولم تكن الواقعية السحرية قد راجت بعد في بريطانيا واستغرق الامر بضع سنوات قبل ان تترجم روايات اميركا اللاتينية الى الإنكليزية، وعلى رغم ذلك لم تحقق رواية سلمان رشدي الاولى اي نجاح بأثر رجعي. فيليب بولمان وپ"العاصفة المسكونة" إذا سألت الكاتب فيليب بولمان عن روايته"العاصفة المسكونة"المنشورة عام 1972 فلن تحصل على جواب واضح لسبب لا يعرفه غيره على رغم أنها حصلت على جائزة المكتبات البريطانية للكتاب الشباب مناصفة مع كاتب آخر في العام نفسه. انه يحاذر ان يذكرها ضمن أعماله وقد أزالها من قائمة كتبه المذكورة في قاموس الشخصيات البريطاني. وحتى لو حاولت ان تحصل على نسخة من تلك الرواية فالأمر بغاية الصعوبة، وربما وجدتها عند تجار الكتب القديمة أو المواقع الإلكترونية التي تضع النسخ النادرة في المزادات بسعر مرتفع. كتب بولمان تلك الرواية وصمت سنوات طويلة حتى عاد في العام 1993 بثلاثية ناجحة للناشئة اسمها"مواده الداكنة"وهي فانتازيا حصدت جائزة كارنيجي، ولا تزال كتبه خصوصاً هذه الثلاثية إضافة الى كتب أخرى للأطفال من الكتب الأكثر مبيعاً في بريطانيا. وبهذا يمكن اعتبار بولمان حالة استثنائية بين الأدباء الذين يتخلون عن العمل الأول طوعاً بدل الدفاع عنه والتحسر عليه.