لم يعرف الشعر العربي إيقاعاً مغاوياً كمثل إيقاعه منذ عصوره الغنائية العذبة الأولى في شعر الوليد بن يزيد وأبي نواس خصوصاً. طفل يلعب بآلات موسيقية برزانة وحبور، يشابك بين نغماتها، ويداخل، ويقاطع، ويناسج، ويستخرج، فتنشأ شبكات من النغم تستسلم لها الذاكرة والأذن والأعصاب، وتزيغ المعنى عن محاوره والرؤيا عن مسارها، لكن بلذة لا تكاد تضاهيها لذة، فلا يأبه القلب لما يزيغ أو يتوه. وقد لعب بالقصيدة في بنيتها الكلية كما لعب بالنغم، ولعب بالحياة أيضاً بالوله نفسه، والطفولة ذاتها، والعشق عينه. وكان يهندم الحب والمشاعر والأرض والوطن، وريتا وفلسطين والإنسانية كلها، في بؤرة سلسبيل فيسبك منها جميعاً نسيجاً مائياً رائقاً تتفجّر فيه هنا وهناك أصوات صراخ وقنابل وصور ممزقة وغضب قاهر وسكاكين، قبل أن يعود إلى صفائه الحليبي الشفاف. وبين نهدي امرأة يغرز ياسمينة سرقها من يافا، وزرّ فلّ اختلسه من البروة، ومئذنة خطفها من القدس. وعلى صدر حبيبة يرسم كنسية القيامة ويتعبد في محراب شولميث. وكان واحداً من شاعرين وصلا بجماليات شعر الحداثة واللغة الشعرية العربية إلى ذروة ما أظن أحداً سيبلغها أو يتجاوزها خلال قرن من الزمان، وساحر كلمات يكرر ويعيد، فتشعر أن للتكرار لذة الجدة، ومتعة البكارة المفاجئة. يختلسه الموت إلى منابع الوجود الأولى وهو على غضاضة من العمر، لكن صوته الجميل سيبقى متفجّراً، متوهّجاً، كسيراً، عذباً إلى قرار الأزمنة ونهاياتها الفاجعة. قال لي مرة ونحن نتسامر في بيت أدونيس في باريس، وكنا وحدنا لحظتها:"كمال، أنا أعرف أنك تعتبرني شاعراً تافهاً". وأزعجتني عبارته، وألححت عليه أن يقول لي إن كان أحد قد نقل له، كاذباً، كلاماً عن لساني، فنحن مجتمع يكثر فيه متقنو الدسيسة. فأصرّ أنه لم يسمع شيئاً، ولكنه يشعر بذلك في قرارة نفسه. وصمتنا. وحدست أنه يشعر بذلك لأنني لم أكن قد كتبت عنه حرفاً واحداً في كل ما كتبته عن الشعر. آه ربي: وعدٌ له أنني سأكتب عنه الكثير، كما فعلت بعد أن تجاوز فلسطين في أسفاره الشعرية الأخيرة وبدأ يكتب شعراً على معارج العظمة بعد أن واجهه الموت المرة الأولى. ومرة في أمسية شعرية أقامها له في لندن اتحاد فلسطيني سألني برعشة في صوته:"كمال، ماذا أقرأ؟ قل لي، فأنا أثق بذوقك". قلت له:"إقرأ من شعرك الأخير". وكان يمر في منعطف كبير في شعره. قال:"لكن هؤلاء لا علاقة لهم بالشعر. انهم يريدون شعراً للتصفيق". قلت له:"لكن أنت شاعر. إقرأ أحد عشر كوكباً"، وكان قد نشرها قبل ذلك بقليل. واتسعت عيناه دهشة:"صحيح؟ أحد عشر كوكباً؟ أجازف"؟ وقلت:"جازف". واعتلى المنصة وقرأ أحد عشر كوكباً، ومات التصفيق في الأيدي المطرقة حتى نهاية المساء، وهرع إليّ من المنصّة يقبّلني بفرحة طفل كبير، ووجهه تفوح منه الغبطة والإحساس بالانتصار على نفسه وعلى صراخ فلسطين. كان شاعراً لفلسطين فعكّرت صفاء منابع أغوار ذاته فلسطين ولم ترحمه، وحين تحرّر من فلسطين تدفقت بشائر العظمة من عروقه المحتقنة، وبدأ يعد بالعظمة الحقيقية في الشعر. ليغفر الله لفلسطين من أجل نقاء روحه وبهاء شعره. قلت في كتاب لي: إن العرب قدّموا تضحيات عظيمة من أجل فلسطين، وإن بين أكبر هذه التضحيات موهبة شاعر كان يمكن أن يكون عظيماً، هو محمود درويش. لكن محمود، في زمن متأخر، افتدى شاعريته من فلسطين، ودخل موكب الكبار بفروسية فاتنة. محمود، لقد كتبت لك مرثية، أيام كان الجميع يهللون لك، وأنت لا تزال في فلسطين في زهو الشباب، وبشّرتك بأننا سنسمي باسمك أطول شارع، لكنني قرأت لك نبوءتي، وهي أنك ستبقى الصوت الضائع في البرية. وها قد تحققت النبوءة، وها أنت تمضي كسير الروح وتترك فلسطين تحتضر، كأنك لم تعد تطيق أن يقتلوك كل يوم في شوارع غزة ورام الله برصاصهم حيناً وبرصاص إسرائيل حينا. فما لك تمضي هكذا؟ ولماذا تموت وأنت تحمل الحقيبة القديمة التي طالما حملت، وأنت عن صدرها بعيد قصي؟