"قابيل... أين أخوك هابيل؟" للروائي الليبي ابراهيم الكوني المؤسسة العربية، هي الكتاب الأخير في سلسلة طويلة تربو على الستين كتاباً وتتراوح بين القصة والرواية والأسطورة والنص والمتن والنظرية، وهي حصيلة ما يقارب الأربعة عقود من ممارسة الإبداع والتأليف والتنظير منحت صاحبها موقعاً مميزاً على خريطة الإبداع العربية بل العالمية أيضاً. يتناول الكوني في روايته العقد الأخير من القرن الثامن عشر ومجرياته في"مملكة طرابلس"التابعة للإمبراطورية العثمانية، ويرصد الصراع على السلطة بين الإخوة الأعداء في هذه المملكة في ظل ملك أب مستهتر، غارق في ملذاته، غير قابض على دفة الحكم،"استمرأ العماء واستسلم للهوى"، متواطئ مع ابنه الأصغر سيدي يوسف/ قابيل الذي قتل شقيقه الأكبر سيدي حسن البك/ هابيل في حضن أمهما. من هذ ه النقطة، اللحظة الدرامية، في مسار الصراع تبدأ الرواية لتعكس ذروة تتمثل بإقدام الأخ على قتل أخيه لأجل السلطة وربما المرأة أيضاً، وتُشكِّل تتويجاً لمرحلة سابقة من الصراع لم يتطرق اليها النص. يستمر الصراع طيلة الرواية متخذاً أشكالاً شتى وتمظهرات عدة، فيكون المتن الروائي تنويعات على هذا الصراع تتغيّر فيه تعبيراته وتتراوح بين القتل والعزل والمكائد والمؤامرات والتحريض والتعطيل والحرب، ويتغيّر أحد طرفيه/ هابيل بينما قابيل/ سيدي يوسف يبقى هو نفسه حتى يحسم الصراع لمصلحته في نهاية الأمر، فكأن العرش لم يخلق إلا ليتبوأه أمثاله ممن تجري في دمائهم جرثومة العرش وممن احترفوا القتل والغدر والبطش والخديعة. ذلك كله يجري في ظل حاكم صُوري هو علي باشا القرمانلي الذي ينحاز الى قابيل، ويصطنع اللامبالاة، ويغرف نفسه في الملذات، ويتخذ ملكاً وجودياً يواجه به الزمن والموت. ولعل تصرفاته ناجمة عن فلسفة له في الحكم والحياة أكثر مما هي ناجمة عن ضعفٍ وتراخٍ. ولعل نقطة ضعفه الأولى هي انحيازه الى عواطفه ومزاجه أكثر من انحيازه الى مصلحة المملكة. وهذا ما جعل المملكة تتردى في الانقسامات وتسقط فريسة سهلة في أيدي القراصنة، ذلك ان الصراع الداخلي بين الإخوة على السلطة جعل الخارج يطمع في المملكة، فيستولي عليها القراصنة بقيادة علي بن زول، منتحل الألقاب، بفرمان مزوّر. وهذا ما يؤدي الى نشوب صراعٍ خارجي على المملكة ينتهي بإعادة الأسرة المعزولة الى الحكم لتستأنف صراعها الداخلي عليه. أليست هي الحكاية نفسها تتكرر في"الممالك"العربية؟ أليس هو التاريخ يعيد نفسه عبر العقود والقرون؟ بعد مقتل البك سيدي حسن في بداية الرواية، تنتقل"البكوية"الى سيدي أحمد بفعل ناموس الوراثة، ويمثل الطرف الشرعي في الصراع الذي يستلم السلطة مكرهاً لأنه يعلم في دخيلته أنه غير مؤهل لها بطبيعته لكن نواميس الحكم المخالفة لناموس الطبيعة تجعله يرضخ لها. يحاول"البك"الجديد أن يحكم بمقتضى الضمير والرحمة والقيم الأخلاقية، ويتخذ له مستشاراً من طينته هو حاج أحمد، غير أن هذه الأدوات ما كانت يوماً لتصلح في حكم مملكة دنيوية يتربص بها الأعداء من الداخل والخارج، وفي طليعتهم أخوه سيدي يوسف/ قابيل، الطرف الآخر في الصراع الذي يحظى بتعاطف الباشا/ الأب، ويحيط نفسه بالعسس والجنود، ويتحكّم به مستشار سيء ينتحل اسماً وصفة هو الشيخ الفطيسي، ودأبه حياكة الدسائس والمؤامرات للإيقاع بين الإخوة وبثِّ الشقاق تصفية لحسابات قديمة. يندلع الصراع بين الطرفين حتى حافة الحرب. عندها، يتدخل الخارج على شكل هجوم قراصنة ومرتزقة بقيادة قرصان دجال هو علي بن زول، فتفر الأسرة الحاكمة ليعود الخارج متدخلاً في شكل إيجابي من خلال باي تونس فيطرد المعتدي ويعيد الأسرة الى الحكم. وإذا كانت المحنة وحّدت الأسرة في مواجهة الأخطار، فإن انجلاءها يسوِّغ لسيدي يوسف الانقضاض على أخيه وعزله والحلول مكانه بتواطؤ من الأب شاهد الزور على ما يجري. لعلّ ابراهيم الكوني أراد أن يرسل، من خلال هذه الأحداث، رسالتين اثنتين، الأولى تقول ان الحقيقة ستظهر، والأقنعة تتمزق، والاحتيال الى زوال. ويترجم ذلك روائياً من خلال القضاء على القرصان علي بن زول الذي انتهى معزولاً ولفظ أنفاسه في غزة، مجرداً من كنوزه وسلطته، ومن خلال المصير الذي آل اليه الشيخ الفطيسي غريقاً على يد زبانية القرصان نفسه. والرسالة الثانية هي أن الضمير والرحمة والقيم لا تصلح أدوات للحكم في عالم يحفل بكل أنواع الشرور والدسائس والمؤامرات، وأن مملكة هابيل ليست من هذا العالم. فالعرش لقابيل وأمثاله. وعل هامش هاتين الرسالتين ثمة رسائل كثيرة. للتعبير عن رسائله يصطنع الكوني تقنيتين أساسيتين: فالقسم الأول من الرواية عبارة عن مجموعة مشاهد حوارية متعاقبة يلي بعضها بعضاً، وتفصل بينها فجوات زمنية ومكانية. وهي حوارات رشيقة تتبادلها الشخصيات المختلفة، فكأن هذا القسم سيناريو أُعدَّ ليُمثل، على أنه لا يخلو من مشاهد سردية تضيء خلفيات الحوار أو المكان، أو تصل بين مشاهده، أو تمهّد لأحداث لاحقة. أما القسم الثاني من الرواية فهو أقرب الى تقنية اليوميات التاريخية. فهو، في الشكل، يُروّس كل فصل بعتبة تحدّد المكان والزمان، ويذكر تحت هذه العتبة سلسلة من الأحداث. وفي المتن كثيراً ما يذكر مصدر بعض الأحداث من حوليات وغيرها. وهذا يمنح الأحداث الروائية بعداً تاريخياً، ويكسبها مصداقية معينة. ولعله أراد من خلال هذا التقسيم أن يرجح التاريخي على الأسطوري، والدنيوي على الديني. وبغضّ النظر عن ذلك، يقول الكوني استمرار الصراع الأزلي ? الأبدي بين قابيل وهابيل بأشكال شتى وتعبيرات مختلفة، يشكل القتل حدّها الأقصى والاستيلاء على السلطة أحد تمظهراتها. وهو يفعل ذلك بتقنيات الخبير المجرّب في حقل السرد الروائي، وبلغةٍ رشيقة، متحلّلة من رواسب الإنشاء ومحسّنات البلاغ وبذلك، يتبوأ ابراهيم الكوني موقعاً طليعياً متقدماً على خريطة السرد العربي والعالمي.