لم ينته الفلسطيني الصغير، محمد الدرة، من نزعه ولفظ أنفاسه على صدر والده وبين ذراعيه، عند معبر نتزاريم بغزة. الى اليوم، لم يستقر الرأي، ولم يجمع على حقيقة الصور المأسوية التي شهدها العالم في الأسابيع الأولى من الانتفاضة الثانية. فثمة من يقصر الحادثة على المأساة الظاهرة، وثمة من يذهب الى ان الصور هي ثمرة تركيب مفتعل ومصطنع. ويميل المجلس التمثيلي للهيئات اليهودية بفرنسا أو"كريف"اختصاراً بالفرنسية الى الافتراض الثاني، ويطالب رئيس الجمهورية بإنشاء لجنة تحقيق تبت الأمر وتقضي في حقيقة"قضية"الدرة. والوقائع هي التالية: ففي 30 أيلول سبتمبر 2000، بثت قناة فرنسا الثانية التلفزيونية، في نشرة أخبار الساعة الثامنة مساء، شريطاً مصوراً عن اشتباكات بغزة. وعلّق على شريط الصور هذا مراسل القناة منذ 1981، شار انديرلان. ويظهر الشريط مقتل محمد الدرة 12 عاماً برصاص رشيش آلي، بين ذراعي والده، في ذروة اشتباك بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلين فلسطينيين. وقال الصحافي المراسل، وهو لم يشهد الاشتباك ونقل عن مصوره الفلسطيني طلال أبو رحمة، أن الرصاص القاتل مصدره الموقع الإسرائيلي. ويرد فيليب سينتي، مدير ميديا - رايتنيغز، وهي هيئة تقويم الإعلام التلفزيوني، أن الصور هذه هي ثمرة توليف مونتاج متعمد، ويترتب عليه استقالة الصحافي المراسل، ومديرة القناة الحكومية المساعدة، أرليت شابو. ويذهب كارسينتي الى ان محمد الدرة لم يقتل، ولم يجرح والده. ويحتد لرأيه بملاحظات شخصية على صور الشريط، وعلى تعاقبها وعلاقة بعضها ببعضها الآخر. ويخلص الى ان التوليف عملية دعاوية قصد بها تضليل الرأي العام. وتتناقل شبكة الانترنت الهمس والطعن والملاحظات والأقاويل، وتغذيها بحملها على"مؤامرة"كثيرة الأوجه والمصادر. ولم يسع قناة فرنسا الثانية السكوت عن التهمة. فقاضت كارسينتي وجرّحته. وفي أواخر 2006، انتهت المحاكمة بانهيار دعوى كارسينتي، ودين بألف يورو غرامة. وجزمت حيثيات الحكم بأن المظنون لم يفحص مصادره، وكرر مزاعمها، وقصر عن معايير الجدية والمهنية. وفي أيار مايو 2008 استأنف المستشار الإعلامي المدان الحكم، وجدد حكم الاستئناف إدانة الحكم الأولي الرجلَ بالتجريح، وأبطل زعمه البرهان على التزوير. ولكن القضاة رأوا أن كارسينتي أنجز استقصاءً غنياً، واستعان بملف ووثائق جديدة، وهو لم يذهب الى ما ذهب اليه افتئاتاً. وعلى هذا، يفيد من قانون 1881 وضمانه حرية القول للصحافيين، ويفيد من اجتهاد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ويجادل محامي كارسينتي بأن ملف الشريط المصور لا يخلو من دواعي الشك. فالمناقشة في الجلسات أظهرت استحالة إطلاق النار من جهة الموقع الإسرائيلي. والى هذا، لم تظهر الصور نزع الولد الفلسطيني، على خلاف ما قيل. ولم يجب شارل انديرلين عن هذه المسألة إجابة حاسمة، والحق ان القناة ومراسلها خالفا الحذر الضروري عندما جزما بما لا طاقة لهما على إثباته. ولكنهما، هما كذلك، صدرا عن نية صادقة في خضم حوادث أدت، في نهاية المطاف، الى مقتل زهاء ألف طفل. وردت القناة التلفزيونية على حكم الاستئناف بطلب النقض. وفي الأثناء، لا يكتم أنصار كارسينتي ابتهاجهم. وهو نفسه يرى أن حكم الاستئناف يدين القناة الثانية إدانة صارمة، ويأخذ بحججه واعتراضاته، ولم تنته القضية فصولاً. فالمجلس التمثيلي دعا، منذ 16 حزيران يونيو، الإليزيه الى التدخل، وهو يفصل دعوته وموقفه من قضة كارسينتي، وينبه الى ان هذا لا يتولى مهمة أو مسؤولية أو عملاً في المجلس. ومن الناحية الأخرى، وقّع نحو 200 شخص بيان مساندة لأنديرلين. ويناقش الصحافي والمراسل الفرنسي سفير إسرائيل السابق بباريس، ايلي بارنافي، وهو كذلك يشكك في حقيقة الحادثة المصورة. وفي الدولة العبرية نفسها، رفضت المحكمة العليا التماس جمعية إسرائيلية يمينية،"شورات حادين"، بسحب بطاقة ? شارل انديرلين الصحافية، وإبطال صفته مراسلاً، ولكن المحكمة العليا لم تقضِ في صدق الشريط أو بطلانه. وتقول أرليت شابو ان القناة لن تتردد في الاعتذار إذا ثبت ان محمد الدرة حي يرزق. ويرد كارسينتي انه لا يعلم من يكون ولد الشريط، ولا يسعه تالياً العثور عليه، وتنوّه شابو بأن والد محمد الدرة يرضى بفحص جروحه، وبفحص جثة ولده وإجراء الفحص النووي. فيرد كارسينتي بأن ملف جمال الدرة، والد محمد، الطبي يلحظ جروحاً تعود الى 1992، يوم هاجمه إسلاميون بالسكاكين، ولا يلحظ إصابة بالرصاص في عام 2000، ولا بأس بالفحص الطبي ولكن شريطة ألا يحصل محلياً، وأما نبش الجثة فلا ينبئ بأن جمال الدرة لم يفقد أحد أولاده... وهذا ما على محكمة النقض أن تنظر فيه. عن ألان بارلوييه وستيفان دوران وسوفلان، -"لوفيغارو"الفرنسية، 2/7/2008