يواجه العالم منذ سنوات أزمة غذاء حادة نتيجة الارتفاع المتواصل في أسعار المواد الغذائية. وانعكس ذلك على الدول كلها، خصوصاً النامية منها حيث يوجد 36 دولة تعاني هذه الأزمة، بينها 21 دولة في أفريقيا وحدها، وهي من الدول الأكثر فقراً أو ذات الدخل الفردي المنخفض. وبين عامي 2000 و2007 ارتفعت أسعار القمح بنسبة 200 في المئة وأسعار المواد الغذائية بنسبة 75 في المئة. وبين آذار مارس 2007 وآذار 2008 ارتفعت أسعار القمح بنسبة 130 في المئة، الذرة 31 في المئة، الصويا 87 في المئة، الرز 74 في المئة، مع ارتفاع أسعار اللحوم والدجاج والبيض ومشتقات الحليب. وفي السنوات الثلاث الأخيرة ارتفعت أسعار القمح وحده بنسبة 181 في المئة حتى تموز/ يوليو 2008. ويفاقم من حدة الأزمة تدني المداخيل بصورة مخيفة في كثير من الدول، فعلى سبيل المثال هناك 30 مليون أفريقي مهددون بالجوع، وأي زيادة في الأسعار بنسبة 20 في المئة تؤدي الى انزلاق نحو مئة مليون شخص إضافي في العالم الى الفقر المدقع. ويوجد نحو بليون شخص يبلغ دخلهم اليومي دولاراً واحداً، والبعض يقدر عدد الذين يصل دخلهم اليومي الى أقل من دولارين يومياً بنحو ثلاثة بلايين، وهذا يعني وجود عدد ضخم من البشر يتقاضون مداخيل متدنية ويعانون من الأزمة التي ازدادت حدة منذ نيسان أبريل 2008 حين استمرت أسعار المواد الغذائية في الارتفاع وأصبحت تشكل خطراً كبيراً على العالم بأسره في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت الدول الغنية قادرة على تحمل نتائج هذه الأزمة لأن الغذاء لا يشكل اكثر من 20 في المئة من دخل العائلة فيها، فإنها ذات آثار تدميرية وخطيرة على الدول النامية حيث تراوح تكاليف الغذاء بين 60 و80 في المئة من دخل العائلة. أما الفقراء في العالم عموماً فإنهم ينفقون بين 50 و75 في المئة من دخلهم لتأمين حاجاتهم من الغذاء الضروري لبقائهم على قيد الحياة. وأدت هذه الأزمة، خصوصاً في الدول النامية، الى ازدياد الفقر والبؤس والتعاسة وسوء التغذية والجوع والى نشوء اضطرابات سياسية واجتماعية وأمنية. وانعكست الأزمة بصورة كارثية على الطبقة الدنيا وأثرت أيضاً في الطبقة الوسطى التي تدنت نسبتها العددية كثيراً وأصبحت تتخلى عن كثير من السلع والخدمات والمواد الغذائية. ولمواجهة أزمة الغذاء العالمية عقد في روما مطلع تموز يوليو 2008 مؤتمر حضره ثلاثة آلاف مشارك و43 رئيس دولة وممثلون عن 151 دولة. كما عقدت أيضاً في مدينة توباكو اليابانية بين 7 و9 تموز 2008 قمة ضمت رؤساء دول وحكومات الدول الصناعية الثماني الكبرى، إضافة الى سبعة قادة أفارقة حيث بحث موضوع مساعدات التنمية لأفريقيا في ظل ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية الذي يضرب الدول الأكثر فقراً. كما كانت أزمة الغذاء المسألة الأساسية في قمة أندونيسيا للدول النامية والمنظمات غير الحكومية المهتمة بها. وهذه المؤتمرات تعني أن العالم بأسره أحس بخطر الأزمة وقرر البحث عن أسبابها ونتائجها والتوصل الى الحلول الضرورية لها. ومن أهم أسباب الأزمة: ارتفاع أسعار منتجات الطاقة والأسمدة، زيادة حجم الطلب على الوقود الحيوي، خصوصاً في الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي بالنسبة الى اليورو والعملات الأخرى، التقلبات المناخية نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري التي تؤدي الى الجفاف في بعض المناطق وحدوث فيضانات وأعاصير في مناطق أخرى، ظهور أمراض جديدة بسبب تلوث البيئة تؤدي الى القضاء على المحاصيل الزراعية قبل نضوجها، انتشار المباني السكنية بصورة عشوائية في الدول النامية خصوصاً في الأراضي الخصبة، حظر تصدير المواد الغذائية من بعض الدول لحماية المستهلكين المحليين من الأزمة ومواجهة المشاكل الاجتماعية فيها، المضاربات على المواد الغذائية والمراهنات على ارتفاع الأسعار، السياسات الزراعية في الكثير من الدول النامية القائمة على تشجيع التصدير أو عدم الاهتمام بالزراعة، تزايد عدد سكان العالم وازدياد طلب الصين والهند على المواد الغذائية نتيجة ارتفاع مستوى المعيشة فيهما بسبب معدلات النمو المرتفعة، تدني حجم المخزون العالمي من القمح والحبوب، اضافة الى سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية وغيرها على الزراعة العالمية والموارد الطبيعية وعلى نقلها وتوزيعها والتحكم بمصادر الطاقة. أما سياسات تحرير الاقتصاد والتجارة العالمية فقوضت القدرة المحلية والوطنية على الوصول الى الاكتفاء الذاتي الغذائي الضروري لإبعاد الجوع والفقر، ما يؤدي الى الاتكال على الأسواق العالمية ويفتح المجال للمضاربات وارتفاع الأسعار. وفي قمة الثماني أكد الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف على أن عرض الحبوب قادر على تلبية الطلب العالمي وان المشكلة سعرية خالصة، وقال إن 75 في المئة من ارتفاع الأسعار على المواد الغذائية يعود الى استخدام الوقود الحيوي. ويلاحظ أن بين 20 و50 في المئة من انتاج الذرة والكولزا من أنواع اللفت تم تحويله لتحضير هذا النوع من الوقود الذي يستخدم عوضاً عن البنزين لخفض الاعتماد على النفط والحد من تلوث البيئة. والتركيز على زراعة مادة الوقود الحيوي أدى الى إهمال الزراعات الغذائية الأخرى وتقلصها، كما ان قطع أشجار الغابات الكثيفة في كل من البرازيلوأندونيسيا وماليزيا لزيادة انتاج الوقود الحيوي، ما يؤدي الى تفاقم مشكلة التصحر والتغير المناخي والاحتباس الحراري، ويفقد العالم سنوياً 604 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي الخصبة نتيجة للجفاف أو تدمير الغابات والتقلبات المناخية. وإذا كان انتاج الولاياتالمتحدة من الذرة يشكل 54 في المئة من الإنتاج العالمي فإن 12 في المئة منه يذهب الى صنع"الإيثانول"أي الوقود الحيوي، وهذه النسبة تتزايد بسرعة ويتزايد معها سعر الذرة ما يؤدي الى ارتفاع أسعار علف المواشي واللحوم. وينتظر أن يستهلك"الإيثانول"وغيره من الوقود الحيوية نحو ثلث المحصول الأميركي من الحبوب. وكل ذلك يتم على حساب الأراضي الخصبة الصالحة لزراعة الحبوب والمنتجات الزراعية الضرورية للحياة والبشر. أما الارتفاع الجنوني في أسعار النفط ومشتقاته وأسعار الأسمدة التي ازدادت بنسبة 150 في المئة في السنوات الخمس الأخيرة فقد ساهم أيضاً في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، إذ تمثل الأسمدة بين 25 و30 في المئة من كلفة انتاج الحبوب. ويؤثر على ارتفاع أسعار المواد الغذائية"استيراد"التضخم الذي أصبح ظاهرة عالمية في ظل ارتفاع أسعار النفط. وطالما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش عن تأييده لوجود دولار قوي، لكن ذلك مرتبط أساساً بتحسن أداء الاقتصاد الأميركي الذي لا يزال يتراجع. وإذا كانت الدول النامية تطالب الدول الغنية بالمساعدة في حل أزمة الغذاء المتفاقمة فإن هذه الأخيرة وان اعترفت بأن ارتفاع أسعار النفط والغذاء يمثل"خطراً جدياً على استقرار النمو العالمي". إلا أنها في الوقت نفسه تصرح بأن قدرتها محدودة في مجال حل هذه الأزمة. وبعد أن دق ناقوس الخطر رئيس مجموعة البنك الدولي روبرت زوليك معتبراً مشكلة ارتفاع أسعار النفط والغذاء"كارثة من صنع الإنسان"، وداعياً الدول المصدرة للنفط والدول الصناعية الكبرى الى التصدي لها، لأن هذه الأزمة أطاحت المكاسب التي تحققت على مدى السنوات السبع الماضية في مجال التغلب على الفقر، مع الإشارة الى أنه منذ كانون الثاني يناير 2007 وحتى آخر حزيران يونيو 2008 هناك 41 بلداً فقد ما بين 3 و10 في المئة من إجمالي ناتجه الحلي بسبب هذه المشكلة. ومن الإجراءات التي اتخذت تصديق 150 بلداً في نيسان ابريل 2008 على اتفاق جديد يتعلق بالسياسة الغذائية العالمية، وهو يقوم على إنشاء شبكات للأمان الاجتماعي وزيادة الإنتاج الزراعي وتقليص الحواجز التجارية. ومن المقرر أن يزيد مجموع قروض البنك الدولي المخصصة لأغراض الزراعة في العام المقبل الى 6 بلايين دولار، وهذا يعني مضاعفة المبالغ المخصصة لأفريقيا وأميركا الجنوبية، إضافة الى تقديم أكثر من بليون دولار لمشروعات جديدة في جنوب آسيا، ومضاعفة القروض الموجهة للحماية الاجتماعية والتغذية والأمن الغذائي لتصل الى 800 مليون دولار. وقد أنشأ البنك في أيار مايو صندوقاً حجمه 1.2 بليون دولار، منها 200 مليون دولار منحاً لإطعام الأطفال الفقراء وغيرهم من الفئات المعرضة للمعاناة. وتقدم الأموال الى 12 بلداً ذا أولوية، مع أن هناك 31 بلداً آخر طلبت المساعدة بإجمالي 400 مليون دولار من المنح الجديدة، وطلبات المنح هذه تتجاوز الموارد المتاحة للبنك. الى ذلك فإن البلدان الأكثر تضرراً من أزمة الغذاء تحتاج الى 10 بلايين دولار في المدى القصير لإنشاء شبكات الأمان الاجتماعي ومساندة الزراعة. ويعمل البنك على زيادة إمكاناته لتلبية حاجات الدول النامية للتمويل بحسب الأولويات، لأن الطلب على المساعدات في تزايد مستمر. وفي اجتماع قمة الثماني شدد القادة الأفارقة على الدول المشاركة في هذه القمة أن تفي بوعودها التي قطعتها في قمة اسكتلندا في 2005 بمضاعفة مساعدتها لأفريقيا في 2010 بالمقارنة مع ما كانت عليه في 2004 والبالغة 25 بليون دولار سنوياً وذلك لدعم التنمية في أفريقيا، في ظل ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية. وللمساهمة في حل عاجل لأزمة الغذاء في المدى القريب قدمت المملكة العربية السعودية نحو 500 مليون دولار الى برنامج الغذاء العالمي، أما الولاياتالمتحدة الأميركية ونظراً الى اتهامها بأنها السبب الأساس في تفاقم أزمة الغذاء العالمية فقد تعهدت بتقديم خمسة بلايين دولار في العامين المقبلين لإيجاد حلول طويلة المدى لهذه الأزمة. كما أن الاتحاد الأوروبي سيحمل الى المزارعين الأفارقة بليون يورو 1.6 بليون دولار من الدعم الزراعي الأوروبي غير المستخدم، من الآن الى نهاية 2009 للبذور والأسمدة والمشروعات الزراعية الأخرى. ويقوم برنامج الغذاء العالمي بدور مهم في مواجهة أزمة الغذاء العالمية إذ يوجد 73 مليون شخص في 78 دولة يعتمدون في غذائهم على هذا البرنامج، لكن حصصهم معرضة للتناقص ما لم يتأمن التمويل الكافي، علماً أن كلفة المساعدات ارتفعت أكثر من 50 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، ومن المتوقع أن تسجل ارتفاعاً اضافياً بنسبة 35 في المئة في العامين 2008 و 2009. لذلك فإن هذا البرنامج يحتاج الى أكثر من 750 مليون دولار اضافي لئلا يضطر الى تقليص الحصص الغذائية وعدد المستفيدين منها. ولمواجهة أزمة الغذاء العالمية يتبلور الآن وعي بضرورة دعم القطاع الزراعي في العالم، خصوصاً في الدول النامية، ودعا المدير العام لمنظمة"الفاو"جاك ضيوف زعماء العالم الى رصد 30 بليون دولار لتلافي الصراع حول الغذاء مستقبلاً. كما أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا بدوره الى مضاعفة انتاج المواد الغذائية لحل أزمة الغذاء والمساعدة في وقف المجاعة وتجنب السياسات الغذائية المؤدية الى إفقار الآخرين، واتخاذ خطوات عاجلة وشجاعة قد تكلف المانحين الدوليين بين 15 و 20 بليون دولار سنوياً ولسنوات، مع التشديد على أن حل مشكلة الجوع يتطلب"إرادة سياسية قوية". ومن الإجراءات المهمة لمواجهة أزمة الغذاء في الدول النامية دعم القطاع الزراعي بهدف تطويره وإصلاحه، وتغيير أنظمته وتحديثه وزيادة انتاجيته المتدنية، وهو يعاني من ارتفاع أسعار الأسمدة والأدوية والطاقة، علماً أن 70 في المئة من الدول النامية تعتمد على استيراد المواد الغذائية. ويدعو البنك الدولي منذ اكثر من عامين الى مضاعفة الري في الأرياف بكلفة تصل الى 40 بليون دولار سنوياً لتحسين الإنتاج الزراعي ومساعدة فقراء الأرياف حيث ان 60 في المئة من الغذاء الإضافي لتلبية الطلب المتزايد سينتج من زراعة مروية تساهم أيضاً في زيادة دخل المزارعين، وهذا الدعم يمكن أن يساعد القارة الافريقية على مضاعفة انتاجها الزراعي خلال سنوات قليلة. الى ذلك اعتبرت قمة الدول الإسلامية النامية الثماني الكبرى التي انعقدت في كوالالمبور في 8 تموز يوليو 2008 ان ارتفاع أسعار الغذاء يشكل خطراً جدياً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي العالمي ويؤدي الى اضطرابات سياسية. كما اتفقت على التعاون في مجال إنتاج الغذاء وزيادة إمداداته وتحديث قطاع الزراعة فيها حيث تتوافر أراض جيدة وخصبة، وحذرت من تخصيص أراض زراعية لانتاج الوقود الحيوي. ولم تقدم"قمة الثماني"أو مؤتمر روما وغيره من الملتقيات العالمية الكثير بالنسبة الى حل أزمة الغذاء المتفاقمة، ذلك ان القمة المذكورة طالبت الدول التي تملك مخزوناً غذائياً ان تضعه تحت تصرف الدول المحتاجة، إضافة الى إزالة القيود المفروضة على صادرات المواد الغذائية. أما الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف فاقترح عقد"قمة زراعية"لدراسة سبل مواجهة ارتفاع اسعار الغذاء. وهكذا فإن أزمة الغذاء العالمية ستستمر ما دامت أسبابها الأساسية باقية، مع ما يحمل ذلك من مخاطر جدية. أما المساعدات المقدمة الى الدول النامية فلا تحل الأزمة بل تخفف قليلاً من حدتها، ولعل التعبير الأكثر واقعية وتأثيراً تضمنته رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر الى قادة العالم المجتمعين في قمة روما، وما جاء فيها:"الجوع وسوء التغذية غير مقبولين في عالم يملك مستويات انتاج وموارد ومعرفة كافية، لوضع حد لهذا النوع من المآسي وعواقبها". * أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية.