يبدو تشكيل حكومة جديدة في لبنان وكأنه يحسم الجدل حول طبيعة وتوصيف النظام السياسي اللبناني بوضعه الراهن. فحكومة الوحدة الوطنية تبدو أقرب إلى مفهوم الديموقراطية التوافقية منها الى مفهوم الديموقراطية الأكثرية. والمفهوم الأول تبلور في نهاية الستينات وحمل مقاربة مختلفة الى شتى قضايا السياسة والحكم. وانطلق هذا المفهوم من التمييز بين النظام الديموقراطي الاكثري أو التنافسي المطبّق في الدول التي تتوفر فيها درجة عالية من التجانس المجتمعي، من جهة، وبين النظام الديموقراطي في دول التعددية المجتمعية، من جهة اخرى. واعتبر التوافقيون الديموقراطيون ان تطبيق النظام الأكثري على المجتمعات التعددية لن يؤدي، في اكثر الحالات، الى قيام ديموقراطية الأكثرية بل الى قيام نظام ديكتاتورية الاكثرية. فالانقسامات المجتمعية المستحكمة سوف تسمح للفئة الأكثر عددا بالبقاء في السلطة إلى ما لا نهاية، أما الفئة الأقل عددا فإنها سوف تعاني من إقصاء مزمن ومتماد. هذا الواقع ينقض مقولة حكم الشعب، ويهدد استقرار النظام الديموقراطي والوحدة الوطنية والترابية للدولة. واذ يبدو الديموقراطيون التوافقيون اقرب الى المدرسة الديموقراطية الانتقالية، منهم الى مدارس ديموقراطية اخرى مثل المدرستين الحداثوية أو البنيوية، فإنهم يعتبرون ان للنظام الديموقراطي التوافقي علامات فارقة تميزه عن النظام الأكثري. في هذا السياق اعتبر الديموقراطيون التوافقيون وابرزهم عالم الاجتماع الهولندي الأصل ارندت ليبهارت، ان الانتقال الى الديموقراطية في المجتمعات التعددية له خصوصيته بما في ذلك المؤشرات العينية التي يمكن من خلالها مراقبة مدى جدية التحول الديموقراطي في هذه المجتمعات. على هذا الصعيد ركز الديموقراطيون التوافقيون على المؤشرات والخصائص التالية: 1- الائتلاف الكبير: ويجمع هذا الائتلاف ممثلي الفئات الرئيسية التي يتكون منها المجتمع. والحافز الى تحقيق هذا الائتلاف هو الوصول الى حكم الشعب وتجنب اقصاء اية قوة رئيسية في البلاد عن الحكم. 2- الاستقلال، اي استقلال الفئات التي يتكون منها المجتمع عن بعضها البعض بحيث يمكن ان تعبر عن مصالحها وأمانيها من دون تزييف لإرادتها، او ضغط عليها حتى تماشي الأكثرية. 3- النسبية، وهي التي تسمح لأكبر عدد من المواطنين بإشراك ممثليهم في المؤسسات النيابية، وذلك خلافا للنظام الأكثري الذي يحصل فيه الفائز بأكثرية اصوات المقترعين على الاصوات كافة. 4- الفيتو، الذي يسمح للأقلية بنقض القرارات والمشاريع، خصوصا تلك التي تشعر الأقلية انها تضر بجوهر مصالحها وحقوقها. وحتى يتم انتقال النظم السياسية في المجتمعات التعددية الى النظم الديموقراطية التي تتوفر فيها مثل هذه الخصائص والمؤشرات التي تدل على اجتيازها مرحلة الانتقال، فإنه لا بد من عوامل ودوافع تضعها على هذا الطريق، ويمكن تقسيم هذه العوامل الى ما هو موضوعي وما هو ذاتي. بالنسبة الى العوامل الموضوعية يركّز التوافقيون على العناصر الخمسة الرئيسية التالية: 1- حجم الدولة الذي يفضل ان يكون صغيرا من حيث المساحة وعدد السكان. 2- وجود التحدي الخارجي الذي يحفز التضامن الوطني بين فصائل النخبة السياسية. 3- ميزان قوى مناسب بين فئات المجتمع بحيث لا تظن فئة منها أنها قادرة على الهيمنة على الفئات الاخرى. 4- العدد المناسب للفئات المجتمعية بحيث لا تقل عن الثلاثة ولا تزيد عن الخمسة. 5- التباينات الواضحة بين فئات المجتمع، وذلك بما يمكنها من بلورة مشاغلها ومطالبها واختيار ممثليها من دون التباس. على صعيد الشروط الذاتية للانتقال الى الديموقراطية، فإن الديموقراطيين التوافقيين يركزون تركيزاً كبيراً على دور النخبة السياسية وعلى الهندسة السياسية التي تضطلع بها لتحقيق الانتقال المنشود. واذ ينطبق توصيف التعددية المجتمعية، اي تعدد الأعراق والقوميات والإثنيات والجماعات الدينية داخل الكيان السياسي الواحد، على حالات ودول كثيرة في العالم الثالث، فإن ما استرعى انتباه الديموقراطيين التوافقيين هو ان هذه الحالات لم تكن مقتصرة على تلك الدول بل على عدد من الدول والديموقراطيات القديمة في الغرب ايضا. وقد توصّل بعض الديموقراطيين التوافقيين الى الجزم بأنه في عالم اليوم لا توجد الا عشر دول فقط تنطبق عليها الشروط التي وضعها القوميون الكلاسيكيون للدولة القومية بالمعنى الحصري! ولم يتوقف الديموقراطيون التوافقيون مطولا عند الدول والمجتمعات التي كانت تعاني من أزمات بسبب الصراعات الفئوية الحادة بداخلها مثل الولاياتالمتحدة الاميركيون الأفارقة، كندا كيبك، اسبانيا الباسك، وايرلندا الشمالية البروتستانت والكاثوليك، ولكنهم صبوا جهودهم البحثية بصورة خاصة على المجتمعات التعددية التي توصلت الى الاستقرار الديموقراطي في الغرب وعلى عدد قليل من الدول في آسيا وافريقيا كان لبنان من بينها. وفي تشكيل الحكومة اللبنانية اليوم العديد من الشروط والخصائص التي يتصف بها النظام التوافقي كما اقترحه التوافقيون وكما استنبطوه من التجربة اللبنانية نفسها. فالحكومة تمثل ائتلافا يضم التكتلات الرئيسية في المجلس النيابي، وهذه التكتلات تعكس أهم الفئات المجتمعية في البلاد. كذلك تأخذ الحكومة بقاعدة الفيتو، وترجمتها اللبنانية"الثلث الضامن". وتملك هذه التكتلات، خلافا لما هو شائع، درجة عالية من الاستقلال في علاقاتها الداخلية والخارجية. هذه المواصفات جديرة بالنقاش الواسع، ولكنها في اي حال، قريبة من المواصفات التي حددها التوافقيون لنموذج الديموقراطية التوافقية. اما على صعيد العوامل المساعدة على نجاح التجربة الراهنة فهذا متوفر في حجم البلاد المحدود الذي يسمح لقادتها بالتواصل مع بعضهم البعض اذا قرروا التخلي عن لغة الشتائم والتجريح والتهديد. وتمثل الضغوط الخارجية حافزا للتفاهم بين افراد وفصائل النخبة السياسية اللبنانية، فإذا توصلوا إليه حقا، فإنهم سوف يلمسون فوائد كبيرة تعود عليهم - تحديدا - بالنفع الكبير. فضلا عن هذا وذاك، فإن ميزان القوى العام في لبنان يحث على التفاهم، اذ ما من فئة قادرة على"الاستغناء"عن الفئات الاخرى، هذا ناهيك عن السيطرة عليها. ما يبقى هو ان تتمتع الفئات المشتركة في الحكومة الجديدة بالحكمة الكافية لكي تحقق مقدارا كافيا من الاستقرار والأمن والهدوء. اما الهندسة السياسية التي تنقل لبنان من حاله الراهن الى حال ديموقراطي جديد يحمل إلى شعبه الازدهار والتقدم والاصلاح، فإن هذا شأن آخر، قد لا يكون للفئات المشتركة في الحكومة علاقة به، وقد لا يكون نظام الديموقراطية التوافقية محطته النهائية بل - كالعادة - محطته الموقتة. * كاتب لبناني