كانت الأيام الثلاثة لمؤتمر الحوار العالمي بمدريد بالنسبة إليّ، وأظن لعشرات من الحاضرين ايضاً، تجربة نادرة المثال. فقد اجتمع مئات الممثلين لعشرات الأديان والعقائد والأخلاقيات والثقافات وحاضروا، وتحادثوا، وشعر كل منهم بالحرية والندية، ومضى الى اكتشاف الذات من خلال الآخر، بحيث تنفي المعرفة العداء بعد ان تنفي الجهل، وبحيث تسود العلائق قيم أخلاقية مشتركة تستوعب خلافات وتمايزات العقائد والمقولات والآراء. بدأ الأمر في الحقيقة - بالخطوة الشجاعة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والمتمثلة في زيارته للفاتيكان للقاء البابا الجديد، بعد محاضرته الشهيرة ضد الإسلام بجامعة رغنسبورغ في 12 أيلول سبتمبر عام 2006. فالزيارة وما دار فيها من حديث كان وراءهما مغزى واحد هو أن الإسلام لا ينبغي ان يبقى في قبضة المتطرفين، ولا رهينة الصور النمطية والانطباعات السيئة. وقال البابا في محاضرته ان الإسلام يعادي العقل، ويقول بالعنف والسيف، وجاء خادم الحرمين ليقول: تعالوا لنخرج معاً من قبضة التطرف والعدوانية والصور النمطية. وبعد الزيارة الملكية بشهور جاءت كلمة الملك عبدالله في مناسبة للعلاقات مع اليابان، حيث دعا صراحة الى حوار الأديان. وكي يكون المسلمون جاهزين للحوار، انعقد مؤتمر مكة الذي حضره مئات العلماء المسلمين، وتناقشوا في مفاهيمهم للحوار، تجاوباً مع دعوة الملك، أو توجساً من الآخر الذي يعرفونه أو لا يعرفونه. والواقع ان العقدين الأخيرين شهدا مزيداً من الغربة والاغتراب بين الأديان، وبخاصة بين الديانات السماوية أو ديانات التوحيد. فقد شهدت البروتستانتية ثوراناً إحيائياً وأصولياً، واتجه في وجه من وجوهه ضد الإسلام والأديان الأخرى، من دون ان يكون بشوشاً إلا مع اسرائيل. وتزامن ذلك مع اطروحات نهاية التاريخ وصدام الحضارات، ومخاوف العوام الأوروبيين من المهاجرين العرب والمسلمين. والمسلمون من جانبهم ظهرت لديهم تيارات الثوران ايضاً، والتي أخفت حساسياتها الجديدة / القديمة من خلال الحملة على الغرب. لكنّ هناك كثيرين صرّحوا بإقامة جبهة ضد اليهود والصليبيين المسيحيين. وفي كل الأحوال ما ظهرت مبادرة ذات معالم واضحة من جانب المسلمين، بشأن الأصوليتين المتواجهتين، واللتين زادتا من الحساسيات، بحيث وصل الأمر الى محاضرة أكاديمية للبابا، وبحيث وصل الأمر من قبل الى إغارات للسلفية الجهادية بالطائرات على المرافق الرمزية للقوة الأميركية. وما بقي أحد إلا وتحدث عن"خطف"المتطرفين للإسلام، والذي ينبغي ان يستعيده"المعتدلون"من المسلمين. لكن"المعتدلين"من العرب والمسلمين كانوا قد حوصروا في معازل من جانب الولاياتالمتحدة، التي شنت حرباً على الإرهاب الإسلامي، كان من نتائجها احتلال افغانستان والعراق، وزعزعة الاستقرار في بلدان عربية وإسلامية عدة، ونشر القواعد العسكرية في الخليج، وعلى مدى العالم الإسلامي، وشنّ"حرب افكار"ضد التطرف الإسلامي نالت كثيراً من الإسلام نفسه. وما كانت تلك السنوات، وما سبقها، ايجابية لجهة رؤية المسلمين للغرب، والعلاقة معه ايضاً. فباستثناء دعوة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الى حوار الحضارات، صدرت مئات الكتب والمقالات من جانب المسلمين في الرد على اطروحات صِدام الحضارات، ونهاية التاريخ. وعاد الفصل القاطع لدى المتشددين بين تكنولوجيا الغرب وحضارة الغرب. وتبادل المهاجرون المسلمون الى أوروبا الهواجس والتشكك مع الأوروبيين الذين يعيشون بين ظهرانيهم، في الوقت الذي كان الخراب يعم أفغانستان والعراق، ويمتد الى باكستان وفلسطين وبقاع أُخرى. وأذكُرُ ان الملك عبدالله نفسه، وكان ما يزال ولياً للعهد، طرح المبادرة العربية للسلام في مؤتمر القمة ببيروت عام 2002. فقد كنا جميعاً نعرف ان المسألة ليست صراعاً بين المسيحية واليهودية من جهة، والإسلام من جهة أخرى. وإنما هو صراع وحروب الأحادية القطبية من اجل الموارد والهيمنة. وردةُ فعل أسامة بن لادن وأمثاله هي ردة فعل الضعفاء، وهي دائماً غير ملائمة، وتحقق عكس ما تقصد. وقد انتهز شارون عدم التلاؤم هذا، ليأخذ ضوءاً أخضر من الولاياتالمتحدة لإنهاء النضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية، باعتبار ذلك كله إرهاباً إسلامياً! ويزيد الطين بلة في هذه الظروف، ان الطرفين - وبخاصة الطرف الأضعف - يميلان الى استخدام المخزون الرمزي الديني والتاريخي من اجل التحشيد ضد الخصم. وقد رمى الملك عبدالله من وراء المبادرة العربية للسلام، وبعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001 بالذات، الى إعادة النزاع الى طبيعته الحقيقية رغماً عن بوش وشارون وبن لادن. وزار الملك السعودي الولاياتالمتحدة مرتين إبان حربها العالمية على الإرهاب، مدركاً انها ليست غير حرب على العرب متطرفين ومعتدلين، لكن الولاياتالمتحدة بقيادة المحافظين الجدد، والإنجيليين الجدد، كانت حزمت امرها، ورتّبت تحالفاتها، ومضت عبر نشر الاضطراب في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، الى إلغاء الهوية العربية والانتماء العربي، وصنع الشرق الأوسط الجديد على أنقاض الأجنحة المتكسّرة للوطن العربي. وهكذا دخلت الى المشرق العربي، المتحول تحت وطأة الضربات، الى شرق أوسط جديد أو كبير، كل من ايران وتركيا. ومن أجل تجديد فكرة الدولة والشرعية بالداخل السعودي، ونشر الوعي بالمخاطر المندلعة، انتهج الملك عبدالله بن عبدالعزيز، منهج الحوار الفكري والثقافي والسياسي. وترحّل شرقاً وغرباً، وعقد مؤتمرين للقمة، أحدهما إسلامي والآخر عربي. واستقدم للمملكة العراقيين والفلسطينيين كي يتحاوروا ويتصالحوا، فلا يبقون رهائن الحروب الأهلية والرهانات الأميركية والإيرانية. وبلغت هذه الحركة الحوارية ذات الأبعاد الاستراتيجية ذروتها بحوار الأديان الذي بدأنا هذه المقالة برواية وقائعه. حضرت في مؤتمر مدريد وفود من سائر الديانات والعقائد والثقافات في العالم. وحضر المسلمون العرب، والمسيحيون العرب. وقد عرفنا في العقود الماضية دعوات لنا نحن المسلمين العرب والمسيحيين العرب من جانب المسيحيات البروتستانتية والكاثوليكية. وفيما عدا بعض الدعوات المتواضعة من جانب المعهد الديني بالأردن، كنا دائماً المدعوين وليس الداعين. ولذلك كانت جداول الأعمال تتحدد من جانب الداعين، وكنا نحن نقبل أو نحتج من دون أن يغيّر ذلك في واقع الأمر شيئاً قليلاً أو كثيراً. فالاهتمامات غربية، والنتائج مهما بلغ تواضعها هي شهادة لهم وليست لنا. أما هذه المرة وبفضل مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فقد كنا نحن الداعين، ونحن دعاة الاعتراف بالاختلاف، والسعي للتعارف، حسبما طلبه القرآن الكريم، وذكره الملك عبدالله في خطابه امام المؤتمر. وقد أحسسنا بواقع هذه المبادرة وهذه الثقة، مدى الصلابة والحيوية اللتين تتمتع بهما المسيحية العربية، وكم يكون صوتها قوياً وعالياً في القضايا الأخلاقية، والقضايا الوجودية التي تهمّ العرب، وتهمّ المسلمين، وتهمّ الناس أجمعين. لقد أحسسنا نحن العرب مسلمين ومسيحيين، وللمرة الأولى، اننا نتعامل مع العالم باعتبارنا أمة، ولسنا أقليات متناثرة أو متشرذمة أو متدابرة. ولذلك ما احتاج الأمر الى تنسيق كثير، وعملنا بروحية واحدة رفدتها خبرة المسيحيين العرب، ورفدتها خبرة شخصيات منا مسلمة ومسيحية من الفريق العربي للحوار. وما دمنا قد حددنا التعارف أي الاعتراف المتبادل القرآني هدفاً، فقد اعتنقنا ايضاً المنهج القرآني في الوصول الى الهدف الكبير: الكلمة السواء، والتسابق في الخيرات. وما كان الجديد في المؤتمر مقصوراً على الصوت العربي الجديد، والروحية العربية الجديدة القوية والواثقة. بل سمعنا جديداً كثيراً وكبيراً وواعياً من الهندوس والبوذيين والسيخ، ومن بعض الكنائس البروتستانتية الكبرى، بل ومن بعض الحاخامات اليهود... بيد ان المفاجأة التي تُضاهي المفاجأة العربية، جاءت من الديانات الآسيوية، فهناك أشواق كبرى للقاء بالمسلمين والعمل مع المسلمين، في الوقت الذي ما اهتممنا نحن في العقود الماضية، بل ومنذ قرون، إلا بلقاء الغربيين مسيحيين وغير مسيحيين. فمنذ ثمانية قرون نحن نتجاور مع الديانات الآسيوية في شبه القارة الهندية، وفي الهند الصينية، وفي آسيا الوسطى والقوقاز، وفي تركستان والصين. وهم يقولون لنا الآن اننا تجاورنا ولكننا لم نتحاور، وهم يريدون حوارنا وعيشنا وصداقتنا وتعاوننا. وقد قال لي احد ممثلي البوذيين الحاضرين: لقد ذكرتَ في محاضرتك ان هنتنغتون خشي من لقاء ممكن بين الكونفو/ بوذية والإسلام، لكن ما لم يعرفه داعيةُ صراع الحضارات، ان اللقاء إن كان فلن يشكّل سعياً للصدام، بل سيكون عملاً من اجل الشراكة والإسهام في سلام العالم وأمْنه. وأنتم المسلمون امم كبرى، وثقافات كبرى، فلماذا اقتصر الأمر على تعاملكم معنا قديماً بعقلية الفاتحين، وحديثاً بعقلية الخائفين أو المتوجّسين! وقال لنا ممثلو الكنائس البروتستانتية الكبرى: نحن نريدكم شركاء لمنافسة الانشقاقيين والإنجيليين الجدد في أوساطنا. انتم دين عالمي كبير، فتعاملوا معنا باعتباركم كذلك، وليس باعتباركم أقلية تواجه أقلياتنا الانشقاقية! ومن بين جميع الحاضرين لمؤتمر الحوار العالمي، بدا الحاخامات اليهود المدعوون متحيرين وضائعين. فقد دعوا باعتبارهم ممثلين لدين كتابي بحسب القرآن، لكن لأنهم يعتبرون مشكلتهم مشكلة عالمية وهم"أقلية مضطهدة"، فقد انتظروا كما اعتادوا طوال القرن العشرين المنقضي، ان يحظوا برعاية خاصة باعتبارهم طالبين غير مطلوب منهم ان يقوموا بشيء، ووجدوا ان ممثلي ديانات العالم وثقافاته يتوجهون الى العرب والمسلمين، باحثين في العلاقة والشراكة معهم باعتبارهم ديناً وثقافة عالميتين. فشكوا من الإهمال في اليوم الأول، وتوجهوا الى المشاركين من غير المسلمين في اليوم الثاني محتجين ومستغربين هذه"العادية"التي قوبلوا بها. وقال أحدهم لهندوسي كان يتحدث عن القرابة مع الإسلام من خلال روحانية التصوف: حتى السيخ اكتشفوا قرابة مع العرب والمسلمين، فماذا عنا نحن؟ وتدخل هندي مسلم في الحديث فقال للحاخام روزن: نحن نتعامل معكم على قدم المساواة مثل الديانات الكبرى المسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية، لكنكم تفضلون التعامل باعتباركم اقلية مضطهدة ذات حقوق خاصة بداعي التمييز والاضطهاد! لقد انقضى القرن العشرون، وانقضت الظروف التي راعاكم فيها من اجلها الغربيون والمسيحيون، وليس لكم على المسلمين والعرب شيء، بل لهم عليكم في التاريخ والحاضر، أما نحن الآسيويين فلا علاقة لنا بكم حسنة أو سيئة، ولديكم إمكانيات جيدة لإقامة علاقات معنا اذا تصالحتم مع المسلمين، الذين شاركوكم في الميراث والثقافة والتاريخ، حتى اخترتم مفارقتهم والاصطفاف مع الغرب ضدهم! الحوار الإسلامي / العالمي مبادرة كبرى، ورسالة تقتضي التحمل والأداء والمسؤولية. فهذه هي الصيغة الجديدة للدعوة التي عهد إلينا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه في خطبة الوداع بحملها وأدائها تجاه العالم. وقد كانت العقود الماضية عقود جمود وتخثر وضياع بالنسبة الى العرب والمسلمين، وانتهت بالاصطدام بالعالم، والارتداد الى الانشقاقات والنزاعات الداخلية، في الوقت الذي كنا نتعرض فيه - وما نزال - لحملة أميركية صارت حملة عالمية. ولهذه الانطلاقة متطلبات أولها يتصل بنا. فقد كنا نفتقد القيادة والاتجاه. ولدينا نحن العرب القيادة الآن، ونريد ان نخرج نحن وإسلامنا ومنطقتنا من الانعزال والانحصار وغزوات الأصدقاء والأعداء وهواجس الإخافة والتخويف. ونحن محتاجون في ذلك الى النخب الدينية والمدنية التي تتحمل المهمة، وتخرج من الانحسار ومن الاستقطاب بين الغرب وخصومه. وما تحركت النُخب بعد في اتجاه التغيير والانسياح في العالم. وما تزال مصر العروبة والإسلام تتقلب على جمر الغضب والحسرة، ونحن محتاجون الآن الى وجود الأزهر وريادته وإصلاحيته. قال لنا الآسيويون، وقال لنا المسيحيون الغربيون، وقال لنا المسلمون في الشرق العظيم، وفي المهاجر: لقد اشتقنا إليكم ايها العرب مسلمين ومسيحيين، وإن ما تقومون به اليوم من عودة الى المسرح العالمي للديانات والثقافات ومن الباب الملائم، باب القيم والمشتركات، ليس مفيداً لكم ولنا وحسب، بل إنه مهمة وتكليف. ألم تقرأوا في القرآن الكريم:"وإنه لذكْرٌ لك ولقومكَ وسوف تُسألون". * كاتب لبناني