عنوان هذا المعرض هو ما لفت انتباهي اليه في الأساس : "شعر الصمت"، العنوان الذي يقود الى اسم الفنان فيلهلم هامرسوي كواحد من أهم الفنانين التشكيليين في البلاد الاسكندنافية برز في أواخر القرن التاسع عشر وتوفي عام 1916. شاعرية العنوان التي تبنتها أكاديمية الملكية للفنون في بريطانيا لمعرض يضم 71 لوحة، تنبه الى أننا أمام فرصة نادرة للاطلاع على أعمال هذا الفنان الذي بالكاد تجاوز إنتاجه الإجمالي 300 لوحة، لأنه كان يرسم بتأن ونفس طويل ولأنه توفي وهو في بداية الخمسينات من عمره. المعرض سينتقل الى طوكيو بعد ذلك، وقد لا تتاح للزائر في بريطانيا فرصة رؤية هذا الكم دفعة واحدة مرة أخرى لسنوات طويلة قادمة، كما نوه منظمو المعرض صبيحة العرض الخاص بالإعلاميين فالمعارض والمتاحف لا تغامر كثيراً في إعارة أعمال نادرة مثل أعماله. لكن من هو فيلهلم هامرسوي الذي ظهر اسمه عالمياً مطلع القرن العشرين وخفت قليلا بموته ليعود الآن الى واجهة عالم الفن التشكيلي في لندن، رغم مرور اكثر من تسعين سنة على وفاته؟ ولد هامرسوي في كوبنهاغن عام 1864 لأب تاجر وأم آمنت بموهبته فدعمته طوال حياتها لينجز ويكون فناناً متميزاً بعد ان لاحظت موهبته المبكرة، وكان أخوه رساماً أيضاً اسمه سفين هامرسوي لم يحصل على شهرته. تلقى وهو في سن الثامنة دروساً خاصة في الرسم، ثم التحق بالأكاديمية الدنمركية للفنون الجميلة وهو في الخامسة عشرة، إضافة الى مدرسة خاصة بتعليم الفنون حررته من الأفكار المسبقة للفن. وجعله هذا يستوعب العصر الذهبي للفنون في الدنمارك، فرسم البورتريهات التي لا ينظر أصحابها الى المتلقي موجهة عيونها بعيداً عنه، منشغلة في تتمة عمل ما، أو تعطينا ظهرها، ليكون حيز وجودها في المكان وعلاقتها معه هو المهم. بدأ الفنان ينتج اعماله بالوان هادئة محايدة مختصراً اللوحة الى بضعة عناصر فقط، سواء في المناظر الطبيعية او في البورتريهات او اللوحات التي تركز على الداخل، وهو الأمر الذي سيسم انتاجه طوال حياته. حقق هامرسوي شهرة وهو في سن الحادية والعشرين عندما عرض لوحة"بورتيه شابة صغيرة"في معرض الربيع السنوي عام 1885. اللوحة التي رسمها لأخته التي تصغره بسنتين كشفت عن أصالته وخصوصيته كفنان. ترشيح اللوحة لجائزة أكاديمية الفنون تسبب في جدل حاد بين الأكاديمية ومدرسة الفنون، ولم يفز رغم دعم أستاذه وپ41 من الطلبة زملائه. وتكرر الجدل مرة أخرى بعد ثلاث سنوات في المعرض عندما رفضت لجنة التحكيم منحه الجائزة عن لوحته المعنونة باسم"شابة صغيرة تحيك"، لكن العمل حصل على برونزية المعرض العالمي في باريس في العام التالي. وانضم هامرسوي الى مجموعة من الفنانين الشباب الذين رفضت أعمالهم من قبل التقليديين وقدموا معرضاً احتجاجياً في كوبنهاغن حيث عرضت اللوحة المعروضة ولفتت انتباه جامع اللوحات طبيب الأسنان الفريد برامسن الذي اشتراها منه. ومنذ تلك اللحظة اصبح برامسن من ابرز المعجبين والمشجعين له يطلب أعماله ويكتب سيرة ذاتية عنه، يستقبل في بيته جامعي الأعمال الفنية ومنظمي المعارض الخاصين به، ويساهم في تنظيم معارضه خارج الدنمارك ويكتب المقالات عنه في الصحف، وأخيراً يصدر كتالوغا لأعمال هذا الفنان المتميز بعد وفاته بسنتين. استمر هامرسوي في إثارة الجدل في الأوساط الفنية عندما استفزت لوحته المستوحاة من غرفة نومه شعوراً بالفضيحة بين لجنة التحكيم عام 1890، ، ورغم ان وقوف المرأة أمام النافذة ليس بالأمر الجديد فقد استلهم ببعض التحوير لوحة"امرأة عند النافذة 1822" للرسام كاسبر ديفيد فريدريش، إلا انه للمرة الأولى تقدم غرفة النوم في اللوحات الاسكندنافية. وكما حصل مع لوحته السابقة المرفوضة من العقلية التقليدية، فقد عرضت لوحته "غرفة النوم"في المعرض الموازي للمعرض الرسمي، واعتبرت مقدمة للتيار الطليعي. ان المرأة الواقفة أمام النافذة لا تنظر الى منظر واضح للعين كما رأينا في لوحات فنانين آخرين. ان نوافذه المفتوحة على الفراغ أو على جدار آخر قريب من مبنى مجاور، تؤكد الشعور بالعزلة والوحشة، وكأن المكان الداخلي هو مملكة الروح الوحيدة بكل وحشته وهدوئه الساحر. في أعماله عناصر حداثية سبقت التيار السائد في منطقته، مثل استغلاله المبالغ به للضوء في بلاد لا تعرف الشمس كثيرا، لكأنه يرسم الغبار في مساقط ضوء الشمس. الى استخدامه عدة طبقات من الألوان فوق بعضها للوصول الى لون هادئ محايد. ويعتقد النقاد انه تأثر بأعمال الفنانين الهولنديين في القرن السابع عشر ولكنه لم يستنسخ أسلوبهم . وتأصل الاتجاه الفني عند هامرسوي الذي صدم مشاهده في المرحلة المبكرة من أعماله برسم ما هو غير متوقع. غير ان الوسط الفني بمن فيهم فنانون معروفون في الدنمارك رفضوا توجهه الذي احتُفي به خارج بلاده. ولكن الفنان يوليوس الياس كتب بعد وفاة هامرسوي عام 1916 انه مع بعض زملائه الفنانين اعتبروه الملك السري للرسم الدنماركي، وان لم يجرأوا على التصريح بذلك وقتها. تزوج هامرسوي من إيدا أخت زميل دراسته وكانت سنداً له في حياته الفنية، ولم ينجبا وعاشا بهدوء في كوبنهاغن بعيداً عن ضجيج الحياة العامة، فلم يشاهدا في مسرح او حفل إلا نادراً. غير انهما تنقلا وسافرا خارج الدنمارك الى باريسولندن فرسم القطع الاثرية الإغريقية والرومانية الموجودة في المتاحف وقدمها في معرض خاص مستوحى من التاريخ القديم. رغم عزلته، عرف عنه اطلاعه على الحركة الفنية في زمنه بشكل عام، من خلال رحلات الى هولندا والمانيا وايطاليا وبلجيكا. غير ان تردده الى لندن كان الأكثر أهمية من بين رحلاته، فمنذ عام 1897 قام بعدة زيارات الى هذه المدينة حيث كان لديه صديق حميم هو عازف البيانو ليونارد بوريك الذي تعرف عليه أثناء حفل موسيقي في كوبنهاغن عام 1903، وزاره في بيته واطلع على أعماله واعجب خصوصاً بلوحاته"الداخلية"أي التي استلهمت التصاميم داخل الغرف. في الصيف التالي زاره الزوجان في بيته في منطقة ساسيكس الإنكليزية. وبالإضافة الى شرائه بعض أعمال الفنان، فان بوريك روج له في بريطانيا وساهم في تنظيم معرض شخصي له عام 1907 عرّف به البريطانيين. ينقسم المعرض الى خمسة أجزاء تبين مراحل الحياة الفنية لفيلهلم هامرسوي، لكن الأكثر إثارة بينها القسم المعنون ب"ستراندغيد"وهو حي تجاري في القسم القديم من كوبنهاغن سكنه الفنان مع زوجته في المبنى رقم 30 قبل ان ينتقل الى مبنى مجاور في الشارع نفسه، وفيه استلهم اكثر من ستين عملاً من أعماله الفنية، يجول في غرفه ويعيد ترتيب القطع من أثاث ولوحات بطريقة غير منطقية أحياناً"من وجهة نظرنا لا من وجهة نظره كفنان"، كأن تختفي إحدى أرجل الكرسي أو البيانو فيبدو انه يستند الى الحائط، أو يرفع اللوحات الى أعلى الحائط لتتلاءم مع الاسقاطات الهندسية للمكان. ولا يوجد في اللوحات سوى الحضور النسائي، في حالة ترتيب للبيت أو رفو ثوب تحت مسقط ضوء النهار، بحضور زوجته إيدا بثوبها الأسود الطويل تقرأ رسالة أو تكتب، بعد ان استلهم سابقاً حضور والدته وأخته. علماً ان غالبية تلك اللوحات رسمت من الخلف، الفنان يراقب بطلة لوحته تتحرك من الخلف، ربما لأنها ليست موضوع اللوحة، إنما يشكل حضورها عنصراً من عناصرها. هذا بالإضافة الى لوحات تسبر فضاءات غرف البيت وهي فارغة من الأثاث، أو باستخدام متكرر لقطع الأثاث لكن بترتيب مختلف، ويعتقد ان السبب في هذا التكرار هو شهرة لوحاته الداخلية عند المعجبين بأعماله ومقتنيها. أما في لوحاته المستوحاة من الطبيعة والمناظر الخارجية أو العمارة، فهناك استمرارية داخلها لحالة المكان المهجور تقريباً، يضاعف هذه المزاج ان السماء مكفهرة وقاتمة أو ممطرة على الدوام بما في ذلك الرسوم التي رسمها في الصيف، حتى قيل"انك لن تجد أبداً طقساً جيداً في لوحات هامرسوي!". يذكر هذا المزاج الصامت الشاعري بأعمال المخرجين السينمائيين الاسكندنافيين الذين ربما استوحوا من أعماله هذا الميل الى الصمت وغياب الحوار إلا بتعبيرات الجسد وحركته الخفيفة في المكان، أو كأنهم جميعاً غرفوا من المعين نفسه، البحث عن الشعري في الصمت، بمعنى انه أسلوب خاص بتلك المنطقة في رواية الحكاية بطريقتهم الخاصة التي لا تعج بالضجيج!. توفي فيلهلم هامرسوي عام 1916 بعد إصابته بسرطان الحنجرة. وكانت آخر لوحة رسمها عام 1915، تظهر فيها زوجته إيدا تجلس على كرسي أمام طاولة وجنب كرسي فارغ لينفتح المشهد على ممر يقود الى غرف لا اثر لإنسان آخر فيها. هل كان يتنبأ بغيابه وبوحدة موحشة لايدا هذه المرّة؟ ترافق المعرض الذي يستمر حتى السابع من أيلول سبتمبر المقبل محاضرات ولقاءات تناقش حياة هامرسوي وأعماله.