الأرجح أن غموضاً كبيراً لا زال يلفّ السبب الذي يقف وراء إصدار إسرائيل التي تتمتع مراكز الرصد فيها بقدرات علمية كبيرة، بيانها الشهير الذي حذّرت فيه، بلسان وزير الصحة، من احتمال حدوث"زلزال كبير"في جنوبلبنان بعد سلسلة الهزّات الخفيفة التي ضربت قراه، وخصوصاً بلدة صريفا والقرى المجاورة لها. وران ذلك"الغموض"في كثير من النقاشات الجانبية، التي استمرت لفترة طويلة بين الإعلاميين والاختصاصيين الذين حضروا المؤتمر الصحافي الأخير في"مجلس البحوث العلمية"في لبنان. وحضر المؤتمر الدكتور جورج طعمة، رئيس المجلس، والأمين العام للمجلس معين حمزة واختصاصيون لبنانيون في الزلازل والمدير العام للدفاع المدني العميد درويش حبيقة، إضافة الى البروفسور الفرنسي بول تابونييه، الخبير بنشاط الفوالق الزلزالية في لبنان. "الحياة"في 9 تموز يوليو 2008. "غموض" إسرائيلي لم يشأ حمزة الخوض كثيراً في ثنايا تلك الخطوة الإسرائيلية التي ربما كان لها أكثر من دافع"وربما خارج النطاق العلمي"، بحسب حمزة الذي قال:"من المعروف علمياً أن فالق"اليمّونة"يتصل بشمال إسرائيل، ولهذا تهتم به تلك الدولة... وقد تركّزت الهزّات الراهنة في فالق سطحي متفرع عن فالق صريفا". وشدّد حمزة على أنه تابع بدقة الحركة الإسرائيلية التي تلت الإعلان. ولاحظ أنها لم تتخذ أي خطوة على الأرض تنسجم معه، كما أن وسائل الإعلام الإسرائيلية أقلعت عن الحديث عن زلزال وشيك يضرب لبنان وإسرائيل، في أقل من 48 ساعة. ونبّه أيضاً إلى افتقاد الإعلان الإسرائيلي السند العلمي كلياً، الى أن من البديهيات المعروفة أن لا وسيلة متوافرة راهناً ولا حتى لدى الدول الكبرى لمعرفة قدوم الزلازل، سوى قبل حدوثها بدقائق قليلة". فلماذا أصدرت إسرائيل ذلك الإعلان الذي يفتقر الى أي سند علمي؟ هل لعبت السياسة دورها في هذا الأمر؟ الأرجح أن الوقت كفيل بإعطاء الأجوبة المناسبة. ويشير حمزة الى أن الوقت الذي حدّده الإعلان الإسرائيلي وقد صدر في أواخر حزيران يونيو الفائت انقضى من دون حدوث شيء سوى... انخفاض وتيرة الهزّات في الجنوباللبناني، بصورتها العمومية، بداية من 13 حزيران الفائت! ولفت أيضاً إلى أن"المركز الجيوفيزيائي"التابع لپ"المجلس الوطني للبحوث العلمية"رصد ما يزيد على 800 هزّة منذ 12 شباط فبراير الماضي، تراوحت قوّتها بين 3.2 و5.1 درجة على مقياس"ريختر". والحق أن ذلك العدّد يمثل زيادة كبيرة في معدل الهزّات في تلك المنطقة الذي يتراوح بين 50 و75 هزّة شهرياً. وكذلك فقد لاحظ المركز أن بعض موجات الهزّات جاءت أعلى من سابقتها، ما يشكّل ظاهرة غير مألوفة. ويرى حمزة أن الوصول الى تفسير علمي شاف لهذه الظاهرة يحتاج الى بعض الوقت، وخصوصاً أن كثيراً من الإجراءات العلمية تستغرق وقتاً مثل إجراء مقطع جيولوجي في تلك المنطقة وتحليله بعمق. وأشار إلى أن بلداناً مثل تركيا واليونان وقبرص والأردن وفلسطين وإيران وإيطاليا والجزائر، تسجل فيها هزّات أرضية بقوة 5.5 و6 درجات في شكل منتظم، كما أنها تعيش هواجس زلزالية أخطر بكثير مما عرفه لبنان خلال ال130 سنة الماضية. صعود الجبل اللبناني من البحر في المؤتمر عينه، شدّد البروفسور الفرنسي بول تابونييه، الاختصاصي في علم فيزياء الطبقات الجيولوجية "جيوفيزياء" Geophysics من"معهد الأرض"في باريس، على أن العلم لم يتوصل حتى الآن الى وسيلة تُحدّد الزلازل قبل انطلاقها، سوى بدقائق معدودة. ولفت إلى أن هذا الأمر يشكّل معضلة عالمية، لأن كثيراً من المدن الكبرى تقف فوق فوالق زلزالية ضخمة وخطيرة، تفوق حال نظيراتها في لبنان بمئات المرّات وأوضح:"تعيش ولاية كاليفورنيا كلها فوق فالق"سان اندرياس"الشهير، الذي يُعرف عنه أنه قد يسبب خراباً كبيراً في كل تلك الولاية إذا تحرّك، ولكن أحداً لا يستطيع معرفة التاريخ المتوقع لذلك الزلزال. ولا يمنع ذلك سكان كاليفورنيا، التي تضم بعضاً من أضخم مدن أميركا وأهمها، من متابعة حياتهم اليومية... إن الوعي بطرق التعامل مع الكوارث الطبيعية، التي قد تأتي من الزلازل أو غيرها، هو أمر ضروري... والأهم منه اتخاذ الاحتياطات المناسبة، خصوصاً في هندسة المباني والمنازل. ويفعل أهالي كاليفورنيا هذا الأمر، وكذلك الحال مع سكان اسطنبول وأسمرة ومدن الساحل الصيني واليابان وغيرها". ولم يتردّد لحظة في القول إنه لو كان من سكان صريفا، لبقي في منزله. ويزيد:"الشيء الوحيد الذي كنت لأهتم له هو متانة البناء، وهذه مناسبة للقول بأهمية نشر ثقافة التعامل مع الكوارث... في لبنان يعني ذلك ضرورة أن يضغط المواطن على الحكومة والمؤسسات الرسمية لتجعل من مقاومة الزلازل عنصراً أساسياً في المباني على الأراضي اللبنانية كافة... هناك اهتمام راهناً بفالق صريفا، على رغم أنه صغير نسبياً، ونشاطه الزلزالي محدود... لا أتوقع في مثل هذا الفالق أن تحدث هزة تفوق 5.2 درجة على مقياس"ريختر"، على رغم صعوبة الجزم في مثل هذه الأمور، ولكني أتحدث بناء لخبرتي الطويلة في الفوالق اللبنانية التي سأستمر في التعامل مع معطياتها علمياً وعملانياً...لقد انحصرت الهزّات التي تتالت منذ 12 شباط في مساحة لا تزيد عن عشرين كيلومتراً مربعاً، ولعل ذلك ما أنسى كثيرين أن لبنان كله يقف على تقاطع من فوالق متفاوتة الأهمية، وهذا جزء من طبيعته الجيولوجية. هناك فوالق لبنانية أكثر أهمية، وخصوصاً البقاع اللبناني والفالق البحري، ويجدر التعامل مع هذه المسائل بروية. لقد خرج الجبل اللبناني كله من البحر. من المعروف أن آخر"تسونامي"ضرب الساحل اللبناني كان في عام 551 للميلاد. وكذلك فإن الهزّات الكبيرة تركزت في المنطقة شمال الليطاني، ولعل آخرهها زلزال 1956". ونفى تابونييه أي صلة بين الهزّات في الجنوباللبناني والقصف الوحشي الذي تعرضت له تلك المنطقة إبان عدوان تموز يوليو 2006. وأوضح:"هذه مناسبة لإعادة تأكيد أهمية الوقاية من الزلازل. لنفترض أن منزلاً تصدع نتيجة القصف الاسرائيلي، فالأرجح أنه سيتضرر بشدة إذا حدثت هزّة خفيفة أو متوسطة... أنا شاهدت الكثير من الأضرار في الجدران في القرى الجنوبية... لنتذكر أيضاً أن الفالق النشط راهناً هو فالق صغير وسطحي، لذا تتحرك موجاته بطريقة أفقية عبر سطح الأرض، وهذا ما يجعله مؤثراً في الجدران الضعيفة أو المتصدعة". سنوات 551 و2051 و2301 ونفى تابونييه أن تكون منطقة الهزّات تتعرض لضغط قوة تتجه الى الأعلى. وشبّه الموجة الزلزالية بالپ"راسور"الذي يرتخي من جهة، إذا شُدّ من الجهة الأخرى، ملاحظاً أن الهزّات الراهنة أتت من هذا النوع من الپ"ارتخاء"في باطن الأرض. وأعاد التذكير أيضاً بأن سهل البقاع يقع في مسار"الصدع الأناضولي"الذي يمتد من تركيا ويمر في سهل حوران السوري ويعبر البقاع متجهاً الى البحر الميت ليسير صوب العقبة وپ"يغطس"في البحر مُعاوداً الظهور في افريقيا. ومن المعلوم أنه مصدر دائم للقلق من احتمال حصول زلزال ضخم فيه يشمل تلك الدول كلها ويصل الى أطراف منابع النيل. وفي المقابل، شدّد تابونييه على كفاءة الكادر العلمي اللبناني الذي يعمل في"مختبر الجيوفيزياء". وركّز على دور ذلك الكادر في اكتشاف"الفالق البحري"السنة الماضية، وخصوصاً الاختصاصي عطا إلياس الذي استخدم موجات الراديو ليتغلب على وعورة التضاريس البحرية. وحينها، اهتمت مجلة"ناشيونال جيوغرافيك"المرموقة علمياً بتوثيق ذلك الاكتشاف. ويمتد"الفالق البحري"بطول 150 كيلومتراً بين صور وطرابلس، ويبعد مسافة 100 كيلومتر عن الساحل اللبناني. ويعتقد إلياس أنه مصدر التسونامي الشهير الذي يعتقد أنه زلزل بيروت الفينيقية وأغرق طرابلس في عام 551 للميلاد. وقد فاقت قوة ذلك الزلزال الضخم 7.5 درجة. ومال تابونييه للرأي القائل بأن حدثاً مماثلاً قد يعاود الظهور في فترة تتراوح بين 1500 و1750 سنة أي ربما في عامي 2051 أو 2301، ما يعني أنه يجب الاستعداد جيداً لملاقاته. ولكنه شدّد على أن هذا الأمر يقع أيضاً في دائرة التخمين وليس اليقين. وهكذا عاد الحديث الى الوقاية باعتبارها الدرع الأساس لمواجهة المستقبل. [email protected]