هديل الحضيف مدونة سعودية شابة غيبها الموت في السادس عشر من أيار مايو الجاري عن عمر ناهز الخامسة والعشرين. عرفت هديل باحترافها الكتابة، لا سيما عالم التدوين البكر الذي سبرت أغواره وتألقت في فضائه. نالت شهادة البكالوريوس في رياض الأطفال، وعملت في المجال نفسه، وبعد برهة من الزمن اكتشفت أن مكانها بين الكتب فانتقلت للعمل في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة. لكن هديل لم تكن مجرد مدونة تسجل مشاهداتها وانطباعاتها فحسب، بل كانت مثقفة وقارئة نهمة ومتابعة لوسائل الإعلام، وهذا ما أكسب تدويناتها ثراءً وعمقاً. كان الشأن العام حاضراً بقوة في معظم كتاباتها بدءاً من قضايا غزة المحاصرة والعراق المحتل، وانتهاءً بقضايا المرأة السعودية ومشكلاتها وهمومها. دافعت هديل دفاعاً مستميتاً عن فلسفة التدوين وممارسته، ومدت يد الاتصال إلى عدد من المدونين على امتداد العالم العربي، ونقلت في مدونتها نماذج من إنتاجهم، بل تبنت الدفاع عن الذين تعرضوا منهم للاعتقال أو التوقيف، ناشرة صورهم ومطالبة بتحريرهم. فهمت هديل فكرة التدوين بوصفها وسيلة جديدة للتعبير، أو قناة من قنوات إعلام المواطن أو الإعلام البديل الذي يوفر مساحة للرأي غيبها أو تجاهلها الإعلام القوي المهيمن. تقول في المقابلة التي أجراها معها المدون المغربي محمد سعيد أحجيوج إن"المدونات كانت فرصة السماء بالنسبة لمستخدم الإنترنت العربي، ضاقت المنتديات بالجدل العقيم، وقمعت الحريات في منتديات أخرى، فكان لا بد من فضاء"، مضيفة أن"مستخدم الإنترنت العربي سئم من لغط المنتديات، وتجاوز مراهقة بدايات التعامل مع الشبكة، وربما تشكلت لديه رؤية حول الحياة، فأراد أن يرفع صوته بها". ربما تقوم المدونات بدور تكميلي وتحليلي لما تصفه هديل"بالصحافة التقليدية"، ومن هنا تستمد المدونات قوتها، من جوانب للأخبار تم إغفالها، ومن منظور لا يتفق بالضرورة مع الرأي السائد. حقق التدوين العربي قفزات مهمة في السنوات القليلة الماضية، لأن حال التداعي الرسمي العربي هي حال شاملة أصابت الإعلام أيضاً. من دلائل نجاح التجربة، بحسب هديل، انزعاج الرسميين العرب من التدوين، والإجراءات التي اتخذتها بعض الحكومات العربية ضد المدونين. تؤمن هديل أن المدون يستطيع أن يطلق صوتاً في البرية، كما ترى أن التدوين وسيلة للتغيير السياسي، مشيرة إلى تجارب المدونين في مصر والكويت والبحرين ولبنان، وإسهامهم في إحداث تغييرات سياسية حقيقية في تلك البلدان. إعلام التدوين شكل من أشكال التمرد على الإعلام القديم الذي يرفض التكيف مع الحقائق الماثلة. جاء التدوين ضمن حزمة من قنوات إعلام المواطن الذي اضطر لأخذ زمام المبادرة بيده. الإعلام السائد، بحسب تعبير هديل،"دونه حجّاب وأبواب"، ولذا لم يبق"للعربي غير صفحة ضئيلة، يضعها على الشبكة على أمل أن يُسمع صوته". الإعلام الرسمي يسلط الضوء على المشهور وصانع الأخبار والغني والفاتن، مغفلاً أو مهمشاً المثقف والأديب والمبدع المنتمي إلى الجذور. تشير هديل في مدونتها إلى أن هذا السلوك ليس بدعاً في التاريخ العربي والإسلامي الذي حفظ لنا أسماء الحكام والقادة والخلفاء، وغيَّب أسماء كثير من العظماء والمفكرين. حياد وسائل الإعلام إذاً حياد أسطوري، وهو النسخة المحدثة من حياد المؤرخين. تقول:"وجدنا أن الحضارة الإسلامية الزاخرة، الممتدة ما بين الصين شرقاً حتى الأطلسي غرباً، لم تخلّد في أوراق تاريخها أولئك الذين بقيت آثارهم حتى الآن، لم يذكر التاريخ من خطّط بغداد، ووضع طرقاتها، ولم يشفع جمال الجامع الأموي في دمشق لبنائه، فتذكر أسماءهم ولو على عجل. لا يذكر التاريخ من رفع منارات الأزهر في القاهرة، كما أسقط من ذاكرته تماماً كل من وضع لبنة في قصر الحمراء الخالد، بينما التاريخ الأوربي على رغم سوئه، وظلاميته قد خلّد فنانيه، وأدباءه، وشعراءه، وعلماءه، مبقياً الهوامش للحكام والملوك والأمراء". تؤمن هديل أن تجربة التدوين تصنع"نجوماً"في وسط موازٍ للوسط العام الذي تصنع رموزه النخب وقوى النفوذ عبر وسائل إعلامها. التدوين بوصفه جزءاً من الفضاء التخيلي يوفر صوتاً لمن لا صوت لهم. بيد أن الإعلام الكبير اضطر إلى التنازل عن كبريائه، كما تشير هديل، واستطاع المدونون العرب أن"يجذبوا أنظار مؤسسات إعلامية ضخمة إلى صفحات شخصية". لكن هديل لم تكن مدونة فحسب، بل قاصة وكاتبة نصوص مسرحية. صدرت لها عام 2006 مجموعة قصصية بعنوان:"ظلالهم لا تتبعهم"، وفازت مسرحيتها"من يخشى الأبواب"في مسابقة النص المسرحي بجامعة الملك سعود، وتم تمثيلها على مسرح الجامعة عام 2007، كما قدمت محاضرات عن تجربة التدوين السعودي داخل المملكة وخارجها. امتنعت هديل عن كتابة الرواية في وقت راج فيه هذا اللون من الأدب، وأصبح أشبه بالموجة التي يتوق كثيرون أو كثيرات إلى ركوبها. تتساءل مستنكرة:"هل تصدق أنهم أصبحوا 46 روائياً؟"مضيفة أن الرواية لم تكن صنعتها يوماً، ولا تريد أن تدعيها. تزعم هديل أن الرواية السعودية لن تحظى أصلاً بالشهرة والانتشار ما لم تتناول"التابوهات بطريقة مستفزة، تفتح شهية الناشرين العرب". على المستوى الشخصي كانت هديل فتاة محبوبة من زميلاتها. أكثر ما كانت تتسم به الهدوء والدعة واللطف ودماثة الخلق. امتنعت عن الزواج على رغم من تقدم عدد من الشباب لخطبتها. يروي والدها الدكتور محمد الحضيف أنه فاتحها قبل غيبوبتها التي توفيت فيها بالأمر، وأخبرها بقلقه على مستقبلها، فأجابت:"أنا زعلانة منك، لأنك رفعت سقف تطلعاتي في الرجال.. إذا وجدتُ رجلاً يدللني كما تفعل فسأتزوجه". هديل تؤكد هذا الإعجاب بأبيها في مدونتها حيث تقول:"أبي صديقي ووالدي وسندي وكل رجل في حياتي". رحلت هديل وهي في الخامسة والعشرين من ربيع عمر لم يطل. كان التدوين لها عشاً تقصده، وملاذاً تهرب إليه. تتحدث عن مدونتها"باب الجنة"قائلة إن هذا الباب"كان ملاذاً أخضر صغيراً ونائياً، اعتمدته وطناً لي في مساحات msn، دون أن أعرف أني أدوّن، ثم انتقلت إلى blogger، وفتح انتقالي باب الجنة على صخب الشارع، وكادت الأصوات تقتلني، وخشيت فقداني، فبنيتُ غرفتي الخلفية، لأودع أشيائي الصغيرة، وتفاصيلي التي لا يأبه بها أحد.. ولئلا أموت". حديث الموت كان حاضراً في خطاب هديل، وكانت أكثر تدويناتها قرباَ إليها"رسالة إلى الله"، التي صدرت عن أزمة نفسية عصفت بها ذات مرة. تقول:"كتبتها والموت يقف على بابي تماماً، والحياة تأفل، وتتلاشى، ولم يبق لي سوى استسلام يأخذني للنهاية مباشرة. كان نهاراً أخيراً، لولا أن الله قرر أن يمنع ملك الموت قبل العتبة الأخيرة للمقصلة". أما الرسالة نفسها فتقول:"لم تكن المرة الأولى التي أشعر بك قريباً إلى حد أن تحيط بي، وأن أكون في عينك، وما استغربتُ أن تفتح الأبواب لصلواتي التي ما فتئتُ أرفعها إليك منذ أن تشعبت بي الطرق، وغدا اختيار أحدها موتاً لا مهرب منه. كلما حذفتَ من أمامي خياراً، وقلصتَ مساحات الحيرة المترامية، آمنتُ بك أكثر، وآمنتُ بأن دربي الذي أسير فيه صحيح، لأن ما من أحد غيرك يستطيع أن يتدخل في اللحظات الأخيرة، ليحول بيني وبين ملك الموت. اليوم كنت أبكي، وكانت عشرات الوجوه في المرايا الصغيرة الموزعة على جدار السلّم المهجور تبكي معي، ساكبة دمعها في قلبي، وبينما أنا أحاول صنع دعوات تليق لأرفعها إليك، مضت تلك الوجوه الكثيرة تتوسل إليك... أن تلهمني نوراً أسترشد به قبل أن يحيق بي الظلام. كنتُ أعرف يا الله أنك لن تتركني، وأنك ستكون معي كما تفعل دائما، لكن أن... تغمر روحي بالماء دون سابق إلهام، فهذا ما لم أخطط له، ولم تكن سجادتي المكرسة للدعاء تطلبه، أو تطمح إليه. أنا هنا يا الله، مجردة من كل شيء، إلا من مطر ينهمر من سمائك، ومن شكر لا يليق إلا بك، ولا أفيك حقك على رغم كل ذلك. شكراً لك يا الله، لأني في كل مرة أحاول الصعود إليك، تنزل إليّ، وتهمس في أذني:"لستِ وحدك"، وما كنتُ يوماً وحدي يا الله وأنت معي". أحاط كثيرون هديل بالحب، وشيعوها بالدعاء. لم تكن وحدها أبداً. كان الله معها. * أكاديمي وصحافي سعودي