ينسى كثر لدى الحديث عن الفيلم الذي حققه مارتن سكورسيزي، عام 1999، في عنوان"إيقاظ الموتى"ان الفيلم مبني على رواية من نوع السيرة الذاتية أصدرها عام 1998 الكاتب الأميركي جو كونللي لتحقق فور صدورها نجاحاً كبيراً دفع أهل السينما على الفور الى شراء حقوق أفلمتها في مقابل 100 ألف دولار. في البداية لم يطرح اسم مارتن سكورسيزي لإخراج الفيلم. ولا طرح قبله اسم بول شرايدر لكتابة السيناريو. غير أن هذا الأخير، ما أن علم بالمشروع وبأن ثمة نية لتحويل الرواية الى فيلم بموازنة ضخمة، حتى سارع الى قراءتها ليجد، من فوره، قدراً كبيراً من التشابه بين عالم الرواية والعالم المشترك بينه وبين سكورسيزي. ونعرف أن هذا العالم كان تجلى في أفلام عدة تعاون الاثنان على الاشتغال عليها، ويدور معظمها في شوارع نيويورك وأزقة حثالتها. فنيويورك القاع هي دائماً القاسم المشترك بين شرايدر وسكورسيزي اللذين أوصلا ذلك"القاع"الى"الذروة"في فيلم"سائق التاكسي". لكن الذي حدث هو أن سكورسيزي حين فاتحه شرايدر بأمر الفيلم وموضوعه تردد بعض الشيء، ما جعل شرايدر يحس أنه يمكنه هو أن يتولى الإخراج بنفسه، حتى وإن كان يعرف أن عالمه الإخراجي لا يلتقي تماماً مع هكذا عمل، إذ من المعروف أن ثمة بوناً واسعاً يفصل بين الأفلام الاجتماعية - السيكولوجية - النيويوركية التي كتبها شرايدر لسكورسيزي، وبين النمط الأكثر قسوة وفردية وانتقائية الذي سيطر على أفلامه هو من"الياقات الزرق"الى"الجيغولو الأميركي"... ثم حدث أن أنجز شرايدر كتابة السيناريو. وهنا ما إن قرأه سكورسيزي حتى شعر، كما سيقول هو نفسه لاحقاً، أن"هذا النص إنما وجد أصلاً من أجلي... ويتماشى تماماً مع كل الهواجس والاحباطات التي كنت أعيشها خلال تلك الفترة من حياتي". وعلى الفور وافق سكورسيزي على تبني العمل الذي، من دون أن يحدث عليه أية تعديلات، صار كأنه فيلم سيرة ذاتية خاص به. ومن هنا نظر كثر الى الفيلم على أنه يدخل في صلب تلك الأفلام التي تعتبر سيرة متواصلة لصاحب"فتية طيبين"وپ"بعد الدوام"وپ"نيويورك نيويورك". وفي خضم هذا كله نسي كثر ? أيضاً ? أن للرواية الأصلية مؤلفاً خاصاً، وأن الفيلم بالكاد يختلف عن الرواية شيئاً. حين نقول عن"إيقاظ الموتى"انها رواية سيرة ذاتية، فما هذا إلا لأن كاتبها يصف فيها، عبر قناع الشخصية المحورية فرانك بيرس، ثلاث ليال نيويوركية يقضيها فرانك وهو يمارس مهنته: إنه مسعف نصف طبيب يدور ليلاً في شوارع المدينة العملاقة، في سيارة إسعاف مع سائق، ليحاول في الشوارع وعند الزوايا إنقاذ من هم في حاجة الى الإنقاذ، من الجرحى أو فاقدي الوعي أو المتناولين كمية زائدة من المخدر، أو المضروبين حتى القتل، وهم كما هو معروف كثر في ليالي نيويورك. وخلال تلك الليالي التي توصف في الكتاب وفي الفيلم لاحقاً، يقوم فرانك بهذا العمل. ونحن سنعرف خلال السياق أن فرانك يقوم بهذا العمل الإنساني، على خطورته، منذ زمن، وأنه يمكن أن يواصل القيام به خلال زمن مقبل... لكن تلك الليالي بالذات تحمل همها الخاص. ذلك أن فرانك، الذي يتغير رفيقه في الرحلة مرة كل ليلة، يشعر في شكل مباغت منذ الليلة الأولى الموصوفة لنا، أن ثمة في حياته ونشاطه وهواجسه أموراً ليست على ما يرام. يشعر في شكل مباغت أنه عاجز في الحقيقة عن إنقاذ أي إنسان، عن"إيقاظ أي ميت"بحسب تعبيره الخاص. ويتجلى هذا العجز لديه بصورة خاصة من خلال ظهور مباغت يقض ليله ويبئس حياته: ظهور الفتاة الصامتة روز التي تكتفي عند كل ظهور لها بأن تنظر إليه بحزن وعتب. هل هي حقيقية هذه الفتاة أم ان خياله المكتئب هو الذي اخترعها؟ لا هو يعرف الإجابة ولا نحن نعرفها. كل ما في الأمر أن ظهور روز يوقظ لدى فرانك، بدلاً من الموتى، أشجانه وإخفاقاته. بل أكثر من هذا: عجز الإنسان في شكل عام عن إيجاد عزاء للآخرين، حتى ولو نجح للحظة في إنقاذهم أو إيقاظهم. وهذا يصعد أمام ناظري فرانك عبر جمهرة من ذكريات سالفة عن جرحى وقتلى ومشوهين، كانت حياته اليومية قد رمتهم خارج ذاكرته... هم الذين يمثلون بالنسبة إليه، صور إخفاقه في التعامل الحقيقي مع الحياة وفي درء الموت عمن كان يمكن ألا يموتوا. لقد كان من نتيجة هذا كله أن غرق فرانك في قلق وأرق تامين، خصوصاً منذ كشفت لنا علاقته بروز، أنها الصبية التي عجز ذات يوم عن إنقاذها وها هو يشعر الآن أن عجزه لم يكن قدراً... بل كان في إمكانه تفاديه. ترى أوَلسنا نرى في هذه العلاقة مع روز، تلاقياً طردياً مع علاقة تريفس بيكل، في فيلم"سائق التاكسي"مع العاهرة الطفلة التي لعبت دورها جودي فوستر؟ في"سائق التاكسي"الذي كتبه أيضاً بول شرايدر يقترف بيكل جرائم عدة كي ينقذ تلك المراهقة من السقوط، ثائراً في طريقه على مجتمع بأسره بات يراه رمزاً للانحطاط بعد أن عاد متمرداً من خوضه حرب فيتنام وفشل في الحصول على الحب والحنان. أما الآن في"إيقاظ الموتى"فها هو فرانك بيرس، الوجه الآخر لتريفس بيكل، عاجز حتى ضمن إطار مهنته وإمكاناته. لقد بدت روز أقل حظاً من عاهرة"سائق التاكسي"فكيف حدث هذا؟ لعلنا لا نبتعد كثيراً عن جادة الصواب إذا قلنا أن الفارق بين الحالتين: حالة تعود الى عام 1976 "سائق التاكسي" وحالة الى عام 1999 "إيقاظ الموتى" هو فارق التغير الذي طرأ على أميركا وليس على نيويورك وحدها، مسرح الفيلمين -، بالنسبة الى شرايدر - سكورسيزي، على الأقل. هذه المرة الأمل لم يعد متوافراً... وليس ثمة من ملجأ سوى الإيمان ونظرة الفرد الى ما يحدث، في نهاية الأمر، على أنه مشيئة الأقدار... والإيمان يأتي هنا في شخص ماري، الصبية الحسناء التي تبدأ ظهورها لاحقاً، في الرواية وفي الفيلم، والتي ستعرف أن فرانك كان، قبل أزمته الصارخة قد أنقذ أباها الذي يرقد الآن في المستشفى حيث يوصل فرانك الحالات ليلياً في سيارة الإسعاف. إن ماري التي تشعر بالامتنان لفرانك تحدثه، خلال لقاءاتهما، وحين يقول لها كل بأسه وإخفاقه في مساعدة الآخرين وإنقاذ حياتهم، تحدثه عن أن المهم هو أن يسعى المرء الى ذلك. المهم تلك الإرادة في الإنقاذ لأن الخلاص هو هنا. الصورة الإنسانية التي تقدمها ماري هنا تتناقض مع استنتاجات فرانك. والغريب في الأمر أن منطق ماري هو الذي ينتصر في النهاية... حيث أن شيئاً من الحب وشيئاً من البعد الروحي يقودان خطى بطلنا الى ما يشبه الخلاص الذي ينتهي عليه الفيلم، ما يعيدنا مرة أخرى الى"سائق التاكسي": ترى لو استجابت فتاة الحملة الانتخابية التي لعبت دورها في الفيلم سيبيل شيبرد، لحب تريفس، أما كانت أنقذته وحالت بينه وبين الجرائم الدامية التي ارتكبها؟ وأما كان وجد طريقة أخرى لإنقاذ المراهقة العاهرة من قواديها، غير القتل؟ ترى هل يقول لنا سكورسيزي في هذين الفيلمين غير الشيء الأساس والذي يكاد كثر ينسونه: حاجتنا الى الحب... كدرب للخلاص؟ حين حقق سكورسيزي"إيقاظ الموتى"كان يعيش أزمة حادة من تجلياتها الإخفاق الجماهيري لآخر أربعة أفلام كان حققها من قبله، لا سيما فيلم"كازينو"الذي كان يعوّل عليه كثيراً. وهو حقق"إيقاظ الموتى"فقط لأن انتاج"عصابات نيويورك"كان قد تأخر. ومن المعروف أن"إيقاظ الموتى"كان خاسراً أيضاً، لكنه لم يتسبب في أزمة لسكورسيزي لأنه كان في ذلك الحين قد شرع ينجز"عصابات نيويورك"وقد بات واثقاً أنه سيحقق من النجاح ما ينسيه كل إخفاقاته السابقة. وهذا ما كانت الأمور عليه بالفعل، حيث أن"عصابات نيويورك"كان الأول في سلسلة نجاحات متتالية، لم تبارح سكورسيزي منذ ذلك الحين. [email protected]