في غمرة التهاء العرب بالحروب والأزمات التي تتوالى فصولاً ليكتووا بنار الظلم الإسرائيلي والتمادي في الغي والتجبر واضطهاد الشعب الفلسطيني والدماء النازفة من الاحتلالات من فلسطين الى العراق والصومال ومشاريع الحروب والفتن... جاء من يدق نواقيس الخطر ويحذّر من الأوضاع المتردية في العالم العربي وتفشي الأمية وانتشار الآفات وتضاعف أزمة البطالة وما ينجم عنها من مشاكل وتعقيدات بعد تفاقم أزمة الغلاء الفاحش التي تضرب العالم. فالحروب التي شهدتها المنطقة منذ بدايات القرن الماضي حتى يومنا هذا استنزفت الطاقات والثروات وهدمت البنيان الذي تقوم عليه الدول، ودمرت أسس المجتمعات العربية وولدت مشاريع فتن وأزمات تكاد تدخل في عداد المشاكل المستعصية غير القابلة للحل. هذه الحرب وأولها حروب العدو الإسرائيلي على العرب والفلسطينيين وحرب العراق والحروب العربية - العربية تركت بصمات إجرامية قاتلة وكادت تأكل الأخضر واليابس وتنشر الفوضى والدمار وتترك وراءها تلالاً من الأطلال وركام الدول والمؤسسات وعدة الحاضر والمستقبل وتهدد مصير الأجيال الصاعدة. فالحروب لا تخلف إلا اللصوص وعتاة الإجرام وتجار الدم والسلاح وجيوش المقعدين والمرضى النفسانيين والمتسولين واليتامى والعاطلين من العمل. وكلهم يشكلون في شكل أو في آخر قنابل موقوتة تنذر بالانفجار في أية لحظة، ويكفي القول ان عدد ضحايا الحروب الأخيرة في فلسطين ولبنان والعراق والصومال قد تجاوز المليون، وأن عدد الأميين تضاعف مرات ومرات عبر السنين بسبب ظروف الحروب والفوضى الأمنية وعدم قدرة الأهالي على إرسال فلذات أكبادهم الى المدارس لتلقي مبادئ العلوم الأولية. أما الجامعات ومراحل التخصص فحدّث عنها ولا حرج لأنها أصبحت من المستحيلات أمام غالبية المواطنين. صحيح ان الحروب أحدثت كل هذه الآفات وتسببت بتدمير المجتمعات، إلا أن هناك مسببات أخرى ونتائج قاتلة للسياسات الخاطئة والإهمال المتمادي والخلافات السياسية والصراعات الداخلية مع الاعتراف بتأثيرات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتنامي المطامع الدولية بثروات الأمة ومقدراتها. في ظل هذه الصورة البانورامية القاتمة أطل علينا اخيراً من قرع نواقيس الخطر وحذّر من سلبيات مؤسفة في أوطاننا لا ندري إذا كان هناك من يسمع ويتحرك ويشعر بمخاطر إهمال هذه الصرخات المدوية أم ان مقولة"لا حياة لمن تنادي"ما زالت هي المسيطرة على عقولنا وممارساتنا وسياساتنا الخاصة والعامة. ففي وقت واحد، وفي صدفة بلا ميعاد وتنسيق، جاءت هذه الصرخات من جهات علمية وشخصيات علمية فذة ومستنيرة لتدق نواقيس الخطر من تفشي الأمية وتدني المستوى العلمي في الوقت الذي نتابع تطورات الثورة التكنولوجية والعلمية في العالم والتوصل الى اكتشافات علمية وطبية متقدمة وقرب انطلاق ثورة تكنولوجية جديدة تتمثل في استخدام الأجهزة والحواسيب بمجرد اللمس أو ببصمة الصوت. فالدكتور احمد زويل العالم المصري العربي الحائز جائزة نوبل في الكيمياء حذّر من ان المجتمع يحتاج الى مبدع ومتعلم وليس الى حامل شهادة فقط، وتساءل عن مكان العالم العربي في خريطة العالم مبيناً أن حالة الضعف تعتري التعليم بسبب المناهج المتخلفة وعدم السعي الى التطوير والتحديث إن لم نقل الثورة التعليمية. أما المنظمة العربية للثقافة والتربية والتعليم الكسو فقد أعطت صورة سوداوية أكثر تشاؤماً عندما أعلنت ان نسبة الأمية وصلت الى 30 في المئة ثلث سكان الوطن العربي، أي حوالي 100 مليون أمي عربي يرزحون تحت نير الأمية والفقر والتخلف ويشكلون قنابل متفجرة داخل أوطانهم وخارجها. وفي المقابل أعلن ان 50 في المئة من الأدمغة العربية وأصحاب الخبرة، أطباء ومهندسين وعلماء وأيدي عاملة من المهرة والفنيين، أُجبروا على الهجرة من أوطانهم لتستوعبهم الدول المتقدمة وتستفيد من قدراتهم وإمكاناتهم وخبرتهم. أما الدكتور محمد البرادعي المدير العام لهيئة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة فقد دق ناقوس خطر آخر في حديثه للزميل غسان شربل ونشرته"الحياة"قبل أسابيع عدة، حذّر فيه من أننا لم نتعلم شيئاً من الحروب، مما أدى الى غياب التسامح والمحبة واختفاء الشعور بالأمن والطمأنينة الى حد كبير في العالم العربي الذي انقلب على نفسه ولم يحدد أولوياته ولا يود ان يعترف بوجود مشاكل أساسية. فلدينا القدرات الإنسانية والبشرية والطبيعية كافة، والإنسان العربي كما تراه في كل مكان قادر وذكي وجدّي، ولكن يجب ان نخلق له بيئة مواتية. وكي نتمكن من بناء انفسنا، لا بد من ان نعترف بأننا وصلنا الى مستوى متدن يجب ألا نصل إليه. ليس هذا عيباً، ويجب ان تكون لدينا الأمانة مع النفس للاعتراف بالخطأ. فنحن نحاول إخفاء رؤوسنا في الرمال وندعي ان ليست هناك مشكلة. لا، هناك مشكلة ولا بد من ان نعالجها، وهي مشكلة فقر وجهل وتخلف، وليست مشكلة اختلاف أديان، بدليل أننا لم نكن نراها قبل 50 سنة. وهنا بيت القصيد، فمن خلال ما تقدم يمكن تشخيص الحال العربية المزرية ووضع الإصبع على الجرح وتحديد أصول العلل ووسائل الحل. وليس عيباً ان نعترف بأن التخلف قد ضرب في الأعماق والجذور وأن علينا ان ننطلق من مبدأ الاعتراف أولاً ثم السعي الى البحث عن الحلول وأولها: - معالجة مشاكل الأمية ومسبباتها ونتائجها. - إصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتأمين فرص عمل. - خفض نسب البطالة المرتفعة. - رعاية العلم والإبداع ومراكز الأبحاث. - إيجاد حلول لتقليص آفة الهجرة وهروب الشباب من أوطانهم بعد ان عاشوا سنوات الإحباط واليأس من الحاضر والمستقبل. - فتح منافذ للعقول والأدمغة المهاجرة لكي تبدع وتعمل بحرية وتحقق النجاح في أوطانها بدل ان تستمر علة استنزافها وصب ناتج الإبداع العربي في المجتمعات الأجنبية والدول التي فتحت أبوابها للمبدعين وأصحاب الخبرة ومنحتهم جنسياتها وأتاحت لهم فرص عمل تحقق مطامحهم وتتناسب مع قدراتهم العلمية والفكرية. - حل مشكلة الغلاء المستشري ومراقبة الأسعار وتقديم الدعم للفئات المحتاجة. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة أولية ضرورية وهي إصلاح مناهج التعليم البالية وفرض التعليم الإلزامي المجاني وتحميل أولياء الأمور مسؤولية عدم إرسال أولادهم الى المدارس، كما يجري في الدول المتقدمة حيث تحاسب السلطات الأهالي المهملين حساباً عسيراً وتلاحقهم حتى يرضخوا ويكفوا عن جريمة حرمان أطفالهم من نعمة العلم والتعليم ولو في مراحله الأولية والإعدادية والثانوية وتشجيع التعليم المهني. أما البطالة فهي آفة الآفات والمصنع الطبيعي للمشاكل والأزمات وتصدير الإرهاب والتطرف والعنف والفقر والأحقاد الاجتماعية والجرائم على اختلاف أنواعها. وكنت لاحظت خلال زياراتي للجزائر وجود آلاف الشبان في الشوارع يمضون ساعات النهار والليل في اللهو والثرثرة وهم يسندون ظهورهم الى الجدران مما أدى الى إطلاق تسمية"الحيطيست"عليهم. وقد أرعبتني هذه الظاهرة وحذّرت منها ومن مثيلاتها في العواصم العربية الأخرى من رواد المقاهي والأماكن المشبوهة وغيرها... وبعد فترة من الزمن برزت المشاكل الاجتماعية العنيفة وما تولد عنها من إرهاب وتفجيرات وجماعات متطرفة، وهو ما تعانيه الآن مختلف المجتمعات العربية يقابله هروب الشباب من الفراغ وشجونه الى الانحراف بتعاطي المخدرات أو بارتكاب أفعال مشينة، أو على الأقل باللامبالاة وغياب روح المواطنة ومسؤولية المشاركة في خدمة المجتمع وحب الوطن. واليوم نشهد طفرة مالية واقتصادية كبرى في بعض الدول العربية الغنية بسبب ارتفاع اسعار النفط، كما نشهد نهضة تعليمية وعلمية محدودة نأمل ان تتطور. لكن الخطر قائم في حال عدم التخلي عن الإنفاق على المشاريع غير المنتجة والتي لا تؤمّن فرص عمل دائمة ومستمرة والتركيز على ما يسمى بالحجر والعجل أي بناء ناطحات السحاب والأبراج والقصور واقتناء السيارات الفارهة وإهمال بناء البشر وهم عماد المستقبل. لقد نجحت الفورة في استيعاب عشرات الآلاف من الشبان العرب في أوطانهم أو في هجرتهم إلى دول الخليج، ولكن هذا لا يكفي لمعالجة المشاكل التي أثارتها الجهات العلمية ودقت بسببها نواقيس الخطر، بل لا بد من تعميم الفائدة على مستوى الوطن العربي كله والتركيز على مشاريع متعددة ومتكاملة في دوله للحد من آفتي البطالة والهجرة. فأمة تفقد عقلها بسبب هجرة الأدمغة لا مستقبل لها ولا أمان. وأمة تخسر شبابها في استنزاف خطير للخبرات ستداهمها الشيخوخة المبكرة والنهاية الحزينة والمؤسفة في حال عدم المسارعة لوقف هذا النزيف اليومي المتعاظم. فهل من مستمع لنواقيس الخطر من أهل العلم والاختصاص والخبرة والإخلاص؟ تلك هي المسألة! * كاتب عربي