لا أحد يدري كيف بدأت الحكاية على وجه التحديد، إلا أنّ الفكرة الاستثمارية البسيطة التي خطرت لأحدهم ذات يوم غدت ظاهرة اجتماعية ومدخولاً رئيسياً للمعيشة، إذ مكّنت القائمين على المشروع من العيش بمستويات مادية جيدة، بل يمكننا القول ممتازة، عوضاً عن تجميد ممتلكات كبيرة في انتظار سقوطها النهائي نتيجة العمر الذي تقدم بتلك البيوت العربية القديمة بعد صدور قرار حكومي يمنع الهدم. في البداية، قامت الفكرة على تحويل البيوت القائمة في مناطق دمشق القديمة والمميزة بنظام عمارة خاص إلى مقاه بسيطة تقدم المشروبات الساخنة وبعض المأكولات الخفيفة. لاحقاً تطور المشروع الاستثماري إلى مجموعة كبيرة من المطاعم مختلفة الدرجات، وصولاً إلى المقاهي الليلية التي تتنوع مستوياتها وكذلك أسعارها حتى غدت منطقة"باب توما"، وخلال عقد من الزمن تقريباً، واحدة من أكثر المناطق ارتياداً للشباب والعائلات السورية وحتى السيّاح، وأصبح من الصعوبة بمكان المرور في أحد أزقّتها الضيقة إلا ويصادف المرء مطعماً أو مقهى أو شاخصات ملونة تدل إلى تلك الأماكن. أمّا الظاهرة القديمة المتمثلة باستئجار غرفة للسكن في أحد هذه البيوت لتكون مرسماً ومسكناً، كما كانت منتشرة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي مع طلاب كلية الفنون من أمثال يوسف عبد لكي وسواه، نجدها وقد عادت إلى الانتشار بشكل جديد. فبعد أن ارتفعت الأسعار هجر الطلبة غرفهم، وأفسحوا المجال لتلك البيوت أن تمسي غاليرهات ومراسم نحتية وتصويرية لأبرز أسماء الفن التشكيلي المعاصر في سورية، متناثرة في زوايا المنطقة بدءاً بغاليري مصطفى علي ونذير نبعة وصولاً إلى بعض الهواة القادرين مالياً على دفع إجار ما يتطلبه البيت العربي في تلك المنطقة التي تستقطب السياح والشباب السوري بنفس الكثافة نسبياً. في الآونة الأخيرة أخذت ترتسم ملامح ظاهرة ربحية الطبع كسابقتها، لكن مداها الاجتماعي أتى أكثر ملامسة لإشكالات المجتمع السوري. إذ انتقلت الفكرة الاستثمارية من حدود الترفيه إلى مساحات الأزمة السكانية، فلا يغيب عن بال أحد ما عرفته البلاد في العامين الماضيين من ارتفاع كبير في أسعار البيوت والشقق السكنية، كنتيجة للتضخم السكاني واستقبال الأشقاء العراقيين أو سواهم وثبات دخل الفرد اليومي مقابل غلاء الأسعار عموماً، أو ما يمكن أن يعرّفه البعض بهبوط قيمة العملة السورية. بناءً عليه توجه البعض إلى استثمار ما أمكن من البيوت الدمشقية ذات الغرف الكبيرة والموزعة على شكل المربع غالباً حيث تقوم البحرة التقليدية في أرض الدار الواسعة، عبر تأجير كل غرفة إلى واحد من الشباب الأجنبي الذي قصد سورية ساعياً وراء تعلم اللغة العربية وثقافتها الشرقية. قام نجاح الاستثمار الجديد على سببين: الأول ارتياح كل من الشباب الأجانب إلى فكرة العيش المشترك وفق نظام"الروم ميت"، وكذلك ارتياح المحيطين إلى طبيعة المنزل كمكان للشباب الأجنبي الذي يدرس العربية. السبب الثاني هو الأجور المرتفعة نسبياً التي يتقاضاها المستثمر، ففي الغرف العلوية التي تتمتع بما يشبه المطبخ والحمام الصغير يصل الاجار إلى 300 - 400 دولار في الشهر الواحد أي ما يعادل 15 - 20 ألف ليرة سورية، وهو اجار منزل كامل في مناطق أخرى من ضواحي دمشق، على أساس خمس أو ست غرف وربما أكثر في المنزل الواحد الذي تؤجر غرفه بما لا يقل عن 100 - 200 دولار، أي ما بين الخمسة إلى العشرة آلاف ليرة سورية. اللافت للانتباه في الأمر هو السعي الحثيث لعدد من الشباب السوري إلى استئجار واحدة من هذه الغرف، على رغم سوء وضعها كبناء قديم بحاجة إلى مجموعة من التصليحات والترميمات المكلفة. وتتنوع دوافع التوق الشبابي بدءاً بما يوفره المنزل من فرصة التقاء وتعارف مع النظير الغربي إلى ما يؤمنه من أجواء أكثر استقلالية لحياة الشاب السوري الشخصية مقارنة بأي شقة سكنية يقطنها كشاب سوري خرج من منزل أهله، وبالتالي يطرح الجار السوري سؤالا: لماذا؟ ناظراً، معلقاً، سائلاً وحتى معترضاً في بعض الأحيان. شكلت منطقة"باب توما"ظاهرة اجتماعية غريبة في ثنايا الواقع السوري، فأسعار مقاهيها ومطاعمها ولوحاتها لا تتوافق، غالباً، مع متوسط دخل الفرد السوري شهرياً، وبالتالي يُعد قاصدوها من شريحة اجتماعية تتمتع ببعض الرفاهية، ومنهم أولئك القادرون على استئجار غرفة في أحد هذه البيوت. فهل تشكل الحرية النسبية التي عرفتها منطقة"باب توما"مهرباً للشباب السوري من قيوده الاجتماعية ذات الطابع التقليدي، أم هذا مجرّد سعي إلى استقلالية مكانية وحياتية وفق النموذج الغربي؟.