يتميز النص الشكسبيري بقدرته على الانتقال والارتحال، غير آبه بوعورة الجغرافيا أو أسئلة التاريخ الطارئة. فالقضايا التي طرحها هذا المسرحي والشاعر الإنكليزي المعروف تتجاوز الزمن الذي كتبت فيه وتصلح مقياساً لقضايا مماثلة جرت وتجري في هذا العالم على مر العصور، من قبيل: السياسة وألاعيبها ودسائسها، الاستبداد والطغيان، الاستحواذ على العرش... فضلاً عن قدرة شكسبير 1564 - 1616 على قراءة سيكولوجية شخوصه وإبطاله عبر الغوص في أعماقها ألأكثر عتمة وخفاء، والكشف عما يجول فيها من غيرة، وخيانة، وتردد، واستسلام، وهشاشة، وتحد، وجبروت، ومكر، ورغبة... هذه الإمكانات الدرامية التي تنطوي عليها مسرحيات شكسبير جذبت المخرج الكويتي سليمان البسام الذي قدم مسرحيته"ريتشارد الثالث: مأساة معربة"في دار الأوبرا الدمشقية في إطار احتفالية"دمشق عاصمة للثقافة العربية"، بعدما عَرَضها، العام الماضي، في إطار مهرجان أعمال شكسبير الكاملة، في مسقط رأس شكسبير في مدينة سترانفورد، بدعوة من الفرقة الملكية الشكسبيرية، وكان عرْض البسّام واحداً من 17 عرضاً قدمت بلغات مختلفة، وبرؤى تتناسب والأوضاع التي يعيشها كل بلد يأتي منه العرض. من المعروف ان أحداث مسرحية شكسبير"ريتشارد الثالث"تدور في بريطانيا في القرن الخامس عشر حين سادت نزاعات دموية على عرش المملكة، أفضت إلى حرب أهلية سميت"حرب الوردتين"بين قبيلتين هما"يورك"، وپ"لانكستر". كان الوزير غلوستر طاغية يسعى إلى المُلك بأي ثمن، فيبدأ بإغواء"آن"أرملة الملك الذي قتله، ثم يتخلص الوزير الانتهازي من أخيه كلارنس، وكل من يعرقل زحفه نحو العرش. وبعد سلسلة اغتيالات ومؤامرات بالتواطؤ مع مستشاريه يتمكن من الوصول إلى سدة الحكم، لينتزع لقب الملك ريتشارد الثالث وينتزع معه كل وطأة الاستبداد. هذه الشخصية المستبدة، المفتقرة إلى أية نزعة إنسانية، التي تسيرها شهوة السلطة، هي التي استعارها البسام في محاولة لتوليف نسخة عربية تحاكي، بهذا القدر أو ذاك، تلك التراجيديا التي تجد ما يماثلها في الزمن العربي الراهن. ولئن ذهبت التأويلات إلى أن الشخصية المعنية هي صدام حسين، لكنّ المخرج ينفي ذلك، مشيراً إلى أن ما دفعه إلى اختيار النص انه يقدم"دراسة عن كيفية صعود"عبادة الشخصية"، فريتشارد ديماغوجي لكنه يظن انه لا يقهر. مشوه الخلقة لكنّه ذو ذكاء مخيف. وتذوب كل الشخصيات الأخرى أمام طاقته الوحشية الصرف". وما يقوم به هذا المتعطش إلى الحكم ينتج آليات فظيعة للقمع، فهو ينتهك القوانين، ويصنع الحرب الأهلية العاصفة، ويشيع بممارساته الملتوية جواً من الاضطراب، والفوضى والخوف ليمثل بذلك"الوحش الذي يلتهم الديموقراطية"كما يعبر البسام الذي يسعى إلى إسقاط مفردات ومقولات النص الشكسبيري على الواقع العربي الذي لا يخلو من نماذج مماثلة، استطاعت أن تنتزع الحكم، وتنشر الرعب بين صفوف"الرعية"تماماً كما فعل ريتشارد الثالث. لا يتخفى البسام خلف أية رمزية، ولا يدع مجالاً لأي قراءة خاطئة، فمفردات عرضه تجهر بهذا المنحى بدءاً من العنوان الذي يعلمنا بأن ما نراه هو"تراجيديا معرّبة"، وهو يعزز ذلك عبر الديكور، والأزياء الدشداشة والعقال والعباءة والحجاب، واللغة التي تزاوج بين الفصحى والعامية الخليجية والعراقية مع ترجمة فورية إلى الإنكليزية تظهر على لوحة في أعلى الخشبة. وأكثر من ذلك فإن القصر الملكي يبدو لنا مزيناً بالنقوش والتصاوير العربية، فضلاً عن اقتباسات من القصائد والحكم والأمثال العربية التي تتداخل مع شعرية النص الشكسبيري، ناهيك عن إيراد نصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة في سعي إلى مسرحة هذا النص بما يتناسب مع الذائقة الثقافية العربية. لكن المفارقة أن المخرج أبقى أسماء الشخصيات الشكسبيرية كما هي، ما منح العرض مذاقاً ساخراً بين اسم أجنبي ثقيل الإيقاع يحمله شخص"عربي الوجه، واليد، واللسان". ولا يجد البسام غرواً في استخدام شخصياته الشكسبيرية للخليوي، وتقنية البث المباشر على شاشة التلفزة في محاولة للذهاب بالتهكم إلى أقصاه. لم يستمر حكم ريتشارد الثالث سوى عامين بعدما قتل في معركة مع خصمه المطالب بالعرش، ولعل صيحة ريتشارد الثالث الأخيرة في النص المسرحي:"حصان، حصان... مملكتي لقاء حصان"، تفصح عن تلك الروح الأنانية المهووسة بالسلطة فحسب، وتحيلنا إلى حادثة مماثلة، معروفة جرت في بلد عربي غزاه الأميركيون، غير أن المخرج ينأى بنفسه دوماً عن هذه الإحالة، فلدى تعداد أحد الممثلين لضحايا ريتشارد الثالث العربي تطول القائمة لتغطي التاريخ العربي - الإسلامي حتى اللحظة الراهنة. فهي تبدأ بحمزة بن عبدالمطلب، والحسين بن علي، والحلاج، وصولاً إلى فرج فودة، وحسين مروة، وغسان كنفاني، وكمال ناصر، وسمير قصير وكثيرين آخرين دفعوا حياتهم ثمناً لكلمة لم يستسغها الطاغية. ومع أن ديكور العرض بني على عجل لتأخر وصوله من باريس، فإن البسام اجتهد في صوغ مشهدية بصرية حافلة بالرموز والدلالات، واستثمر فضاء الخشبة إلى أقصى حدود. ففي عمق الخشبة ثمة غرفة يفصلها عن مقدمة الخشبة ستار رقيق يجري خلفه الكثير من الأحداث في رمزية تشير إلى ما يطبخ من دسائس ومؤامرات سياسية في الغرف الخلفية ومن وراء الكواليس، وكيف تتدخل القوى العظمى في سياسات المنطقة دفاعاً عن مصالحها. وكانت هذه الغرفة موضعاً خصباً للتشكيل البصري عبر الاستعانة بثنائية الظل والنور. ولجأ المخرج كذلك إلى عرض شرائح ضوئية سلايدات تخدم الموضوع. وكان للموسيقى المستمدة من التراث الكويتي، دور مؤثر في تصاعد الأحداث، وإذا أضفنا إلى كل ذلك سعي المخرج إلى إبراز حركات الجسد عبر الرقصات والإيماءات الموحية نجد أنّ العرض كان أميناً لزخم النص الشكسبيري، وثرائه، على رغم تحويره. شارك في العرض ممثلون من سورية فايز قزق، أمل عمران ومن الكويت جاسم النبهان ومن لبنان كارول عبود ونادين جمعة، ومن العراق مناضل داوود ونايجل باريت من بريطانيا. ولئن تعددت الملامح، واللهجات، والتقنيات، والرؤى فإن البسام استطاع أن يمزج كل ذلك في شكل متجانس ومركب، ويقدمه وفق إيقاع متوازن نجح في معالجة نص أوروبي كتب قبل قرون ليوائم حاضرنا الذي نعيش.