هو، بالنسبة الى كتاب "غينيس" للأرقام القياسية، الفيلم الذي استخدم، في مشهد واحد، أكبر عدد من الكومبارس في تاريخ الفن السابع 300 ألف لمشهد الجنازة أول فيلم، وبالنسبة الى تاريخ السينما، واحد من الأفلام التي نالت عدداً كبيراً من جوائز الأوسكار ثماني جوائز مقابل 11 ترشيحاً، وبالنسبة الى الهنود الفيلم الذي صور زعيمهم الوطني والقومي بأعين غربية ولم يجدوا غضاضة في ذلك، وبالنسبة الى الباكستانيين الفيلم الكريه الذي صورهم وصور نضال مسلميهم من أجل الاستقلال بصورة غير لائقة. أما بالنسبة الى دايفيد لين، فإنه الفيلم الذي انتزع منه لقبه واحداً من أعظم الذين حققوا السينما التاريخية، لمصلحة ريتشارد آتنبورو. الفيلم الذي نتحدث عنه هنا هو"غاندي"الذي حققه آتنبورو عام 1982 انطلاقاً من السيرة الذاتية لزعيم حركة اللاعنف. و"غاندي"، منذ عرضه العالمي الأول في نيودلهي خريف ذلك العام، كان الفيلم الذي أحدث تجديداً اساسياً في سينما السيرة القائمة على تقديم حياة كبار عاشوا حقاً. غير أنه لم يضاهَ بعد ذلك، نجاحاً وضخامة، على رغم كل المحاولات. يبدأ فيلم"غاندي"بمشهد يحمل كل التناقض الأساسي الذي يمكننا رصده في حياة غاندي ومقتله. بمشهد العنف الذي وسم نهايته: ففيما يكون غاندي خارجاً من صلاة المساء، عجوزاً هادئاً راضياً عن نفسه بما حقق سياسياً لبلاده من استقلال نالته من دون عنف مع المحتل على الأقل ومن دون إراقة دماء وحتى وإن كان الثمن باهظاًَ كما نعرف يتحلق من حوله الانصار والمحبون ليقدموا اليه التحية المعتادة. وفجأة يبرز من بين هؤلاء شاب يطلق عليه الرصاص ويرديه. غاندي يتمتم"يا إلهي"ثم يسقط. لم يكن غاندي ليتوقع أن نهايته ستكون على هذا النحو، ولكن نتوقع نحن أن يكون وداعه، في الجنازة الشعبية الرسمية، وداعاً مذهلاً ومحزناً. مئات الألوف يُجمعون من أجل ذلك الوداع. من أجل بطل النضال والاستقلال الذي نعرف جميعاً أن حياته كانت مثالاً يحتذى. والحقيقة أن فيلم آتنبورو، ينطلق من مشهد الجنازة الهائل ليعود الى الوراء راوياً لنا فصولاً من حياة غاندي. والفيلم كان، على أية حال، قد نبهنا الى أن من المستحيل على ساعات أي فيلم حتى وإن استغرق عرضه أكثر من ثلاث ساعات كحال"غاندي" ان تختصر حياة شخص كغاندي. ومن هنا فإن ما سنراه هو فقط، بعض الفصول الأساس في تلك الحياة. وواحد من أول هذه الفصول هو الذي تنتقل اليه الكاميرا، بعد مشهد الجنازة في رجوع الى الوراء يجتاز ما يقرب من نصف قرن: تحديداً الى عام 1893، حين كان غاندي شاباً يعيش في جنوب افريقيا، مثل ألوف الهنود المهاجرين. ففي ذلك العام يحدث المشهد الذي سيغير لغاندي كل حياته ويحوله من شاب هادئ محايد يعيش حياته بدعة، الى مناضل ضد الاحتلال... ثم لاحقاً ضد العنف. وهذا المشهد يدور في قطار يرمى منه غاندي الشاب، لأنه هندي وجرؤ على أن يركب الدرجة الأولى المخصصة للإنكليز من رعايا الامبراطورية. هنا، وللمرة الأولى في تاريخه، أدرك غاندي عملياً كيف أن القوانين مجحفة في حق السود والهنود في ذلك البلد، وبدأ نضاله ضد تلك القوانين. وقد تبدى نضاله هناك ناجحاً ولكن جزئياً، حيث أسفر عن منح الهنود بعض الحقوق... ولكن السود ظلوا كما هم مضطهدين. على أثر النجاح الذي حققه غاندي، كما يقول لنا الفيلم، في بلد الهجرة، كان لا بد له من أن يستجيب الدعوات التي وجهت اليه والى أصحابه للعودة الى الهند من أجل النضال في سبيل استقلالها. وهكذا ينتقل بنا الفيلم الى شبه القارة الهندية، ناقلاً نضال غاندي وجماعته الى مستوى أكثر اتساعاً. فإذا كان النضال في جنوب افريقيا نضالاً للحصول على حقوق مهضومة، فإنه في الهند سرعان ما سيتحول نضالاً في سبيل الاستقلال. فهل ينفع اسلوب غاندي القائم على اللاعنف، وعلى العصيان المدني في معركة لها تعقيد المعركة الاستقلالية في شبه القارة الهندية؟ هذا هو فحوى الاسئلة التي يطرحها غاندي على نفسه... ويحاول الفيلم، استناداً الى التاريخ الحقيقي أن يجيب عنها، ويرينا بالتالي حجم تعقدها. والفيلم كي يوضح هذا، يتابع اختياره لحظات حاسمة وذات دلالة من حياة غاندي ومن حياة الهند، ولكن في أحيان كثيرة منظوراً اليها من وجهة نظر أجانب أحاطوا بغاندي، مؤيدين ومعجبين مثل المصورة مرغريت بورك وايت وقامت بدورها كانديس برغن أو خصوماً معادين مثل الجنرال ريجنالد دايدر وقام بدوره ادوارد فوكس، وأحياناً اخرى من وجهة نظر زعماء من المنطقة سواء أكانوا هندوساً نهرو أم مسلمين محمد علي جناح... كل هذا العالم كان جزءاً أساساً من ذلك التاريخ. والتاريخ نفسه، كما يرينا الفيلم في كل لحظة من لحظاته كان تاريخاً شديد التعقيد، ذلك أن الصراع لم يكن صراعاً بسيطاً بين القوى الاستقلالية والقوى الاحتلالية... فلو كان الصراع كذلك لكانت الأمور سهلة في زمن كان العالم كله يتغير والامبراطورية البريطانية كلها تنهار لمصلحة صعود قوى جديدة. لكن الصراع كان في جزء أساس منه صراعاً بين المسلمين والهندوس سيؤدي في النهاية الى انفصال المناطق الشمالية - الغربية لتشكل دولة باكستان. ثم، وبخاصة، داخل صفوف الهندوس أنفسهم، بين حمائمهم وصقورهم. والحمائم كانوا طبعاً من المقربين من غاندي، فيما كان الصقور من المتطرفين الذين كانوا يؤمنون بالعنف وبأن المطلوب"كل شي أو لا شي". ومن الأمور ذات الدلالة هنا أن يتم اغتيال غاندي، بعد مسيرته النضالية الطويلة على يد متطرفي أبناء جلدته الهندوس، لا على يد الانكليز أو المسلمين، الذين كانوا خصوماً له. والحقيقة أن جزءاً أساساً من منطق الفيلم وسياقه يغوص في الصراعات"الداخلية"التي خاضها غاندي. وتحديداً لأنه اتبع مبدأ اللاعنف وهو كلي الايمان بأن هذا المبدأ وممارسته قادران أكثر من أي نضال آخر على ايصال الهند الى استقلالها. وما سياق الفيلم، وما المحطات التي يتوقف عندها من حياة غاندي، سوى تشديد في كل لحظة على أهمية ذلك الصراع الداخلي الذي عاشه غاندي. ومن نافل القول هنا إن الفيلم يتبنى تماماً مواقف غاندي، سواء أكانت ضد الانكليز، أم ضد المنشقين الهندوس، أم ضد الذين سيؤسسون دولة باكستان، وإن كان - أي الفيلم - يرينا كيف أن واقعية غاندي وإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها، جعلاه لا يعارض في مشاريع انفصاليي المسلمين سوى نزعة العنف. كان يفضل لهم أن ينفصلوا بهدوء. ومن الواضح، أن هذا الموقف هو الذي كلفه غالياً، ثم قضى عليه، إذ اعتبره متطرفو الهندوس"متواطئاً"مع المسلمين. على رغم ان ريتشارد آتنبورو لم يكن يُحسب بين كبار المخرجين، هو الآتي أصلاً من التمثيل، نراه في هذا الفيلم حقق ما كان يشكل أملاً سينمائياً لكثر من كبار المبدعين، ولا سيما منهم دايفيد لين الذي كان آخر سنوات الخمسين من القرن العشرين يسعى - مع المنتج سام شبيغل - لتحقيق فيلم عن"غاندي"يقوم سير اليك غينيس بدور الزعيم الهندي فيه، لكنه آثر في اللحظات الأخيرة أن يحقق"لورانس العرب"بدلاً منه. فسينمائيون كثر رأوا دائماً في سيرة غاندي موضوعاً سينمائياً محترماً. لكن آتنبورو حقق الحلم... ووفق خصوصاً في اختيار بن كنجسلي، الهندي الأصل، ليلعب دور غاندي. والحقيقة ان هذا لم يتبين شبيهاً جسدياً فقط بغاندي، بل روحياً ايضاً. وكانت هذه النقطة نقطة أساسية من مميزات هذا الفيلم، الذي يحسب عادة بين أعظم الافلام التاريخية وأفلام السيرة في تاريخ الفن السابع. [email protected]