يتفق مؤرخو الأدب على أن الرواية هي التحام عناصر متعددة مستنبطة من مقولات أرسطو. فمن تقاليد التراجيديا تأخذ موضوعها الأساس، وهو صراع الفرد مع قوى أكبر منه، ومن تقاليد الملحمة تأخذ الرواية موضوعات مثل اصطدام الفرد مع المجتمع، والخيانة والحسد والفروسية، ومن تقاليد الدراما تأخذ حرصها على تصوير الوضعيات والعواطف، وخصوصاً رسم الشخصيات من طريق الحوار. لكنّ مفهوم الصراع الذي تحدث عنه أرسطو في التراجيديا، والملحمة، والدراما، تغيّر مع التحولات الاجتماعية التي نقلت مسرح الصراع من مكانه الأصلي في الغابة والقلعة، الى مكانه الجديد وهو المجتمع والمدينة، وذلك بفعل تعاظم الدور الذي لعبته الطبقة الوسطى في سعيها الى التحرر من سطوة القيم والعادات والتقاليد. فمنذ لحظة ديكارت كما هو معروف أصبح الإنسان يستمد يقينياته من ذاته. ولكن مع ظهور الرومنطيقية رفعت الرواية لواء قضية حرية الفرد والعدالة الاجتماعية، وبفعل تعزيز مبدأ الذاتية مع ظهور الحداثة، تحولت نقطة الارتكاز من تحري أوضاع المجتمع وصراعاته الى متاهة معقدة هي دواخل النفس الإنسانية. وبدأ الروائيون يتحرّون دواخل النفس الواعية واللاواعية. لا شك في أن القصاصين في أيامنا، ورشيد الضعيف من بينهم، في روايته"أوكي مع السلامة"منشورات رياض الريس، 2008 ينزعون التحرر من ربقة القصص التقليدية القائمة في بلادنا منذ فجر النهضة مع سليم البستاني وجرجي زيدان، وتوفيق يوسف عواد على قضايا الإصلاح، إصلاح الأخلاق، وقضايا تحرر المرأة في الزواج ومن دونه، وقضايا التحرر الوطني، قضية فلسطين وأشباهها، وقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. ولعل تحرر الروائيين العرب على رغم نسبية هذا التحرر عند هذا أو ذاك ظهر أول ما ظهر في أحد ثوابت الحداثة المتمثل في إرادة المعرفة، التي تعني الجرأة على اقتحام كل الميادين، وكل تمظهرات الحياة وتعابيرها لمعرفتها على حقيقتها. ورشيد الضعيف في هذا المجال جريء في ارتياد مجاهل الجسد لمعرفتها. فالإنسان عند رشيد الضعيف قبل أن يكون بطلاً صنديداً، أو إشكالياً، أو شبه بطل، هو حيوان بيولوجي وليس حيواناً ناطقاً على ما يقول أرسطو، لا بل هو طفل حالم على ما يقول فرويد، ودّعته أمه، ولم يودع الحرمان الذي زرعته فيه. تعتبر الناقدة الفرنسية مارت روبير تلميذة فرويد النجيبة أن الرواية في شكلها الحديث هي تعبير عن"الرواية الأُسرية"، موحدة بين عقدة أوديب وولادة الرواية، والجسد محور العالم، والانتهاكات كلها تتم باسم الجسد. وما الكتابة الروائية إلا تصعيد للرغبات وصدّ لعنف الغرائز العدوانية، كما لو كان الإنسان يكتب رواية الجريمة قتل الأب كي يعصم نفسه عن اقترافها. تَطرُق روايات رشيد الضعيف، وبخاصة روايته"أوكي مع السلامة"أبواب الجسد من كل جوانبه، الجسد الفتيّ والجسد الشائخ، الجسد القوي والجسد المتهاوي تحت مطارق السنين. الجسد المتدثر بالملابس والجسد الذي يفتقد ورقة التين، الجسد البارد، والجسد الذي لفحته نار الشهوة. الجسد الذكر والجسد الأنثى، جسد بأجساد وأجساد بجسد... يكتب رشيد:"كنت في هذه الأثناء قد حلقت ذقني، وغسلت أسناني، وتدوشت، وتعطرت، وأتممت استعدادي، حتى أصبحت في كل جهوزيتي، فجذبتها إليّ ورحت أقبّلها...". ويكتب في مكان آخر:"بالفم وما يحويه ينقضي الأمر، وبأصابع اليد، وباللهاث شهيقاً وزفيراً". إن الجسد عند رشيد الضعيف هو عصب الرواية لا بل عصب الروايات عنده حتى عندما يدخله في الحرب، فهو جسد الحبيبة الذي لا يشبع منه، وهو جسد الأخت التي لا تأبه كثيراً لضرورات الزواج. وهو الجسد الذي يتحدث عنه أصدقاؤه عباس وحسن وإياس. يلغي رشيد الضعيف كالطفل اللقيط والديه وينتظر أسرته الملكية التي تفتش عنه، وكالطفل غير الشرعي الذي يدرك أن أمه تلوث جسدها بالخيانة، فيخرج الى العالم غاضباً ومنتقماً. فلا شيء يردعه عن انتهاك المحرمات والتعبير عنها من دون خجل أو وجل، بعد أن أعلن ذاته ابناً للخطيئة. وعوّد نفسه على اشتهاء الثمرة المحرّمة، يكتب:"وأذكر أن هامة كانت ملتصقة بي حين كنا نشاهد هذا الفيلم أول أيامنا معاً. كانت ملتصقة بي بصمت ومن دون حراك. وكانت حابسة أنفاسها. وجاءني في تلك اللحظة أن أسترق النظر اليها وهي على هذه الحال، لأرى كيف كانت شاخصة الى هذا المشهد، كنا نتلصص بالسر لئلا يرانا العاشقان اللذان يمارسان الجنس والخيانة في آن ". إن الجسد عند رشيد الضعيف في قصة"أوكي مع السلامة"هو جسد الجنس والخيانة وليس جسد الطهارة والتصعيد كما هو حاله عند العذريين. هو الجسد المخزون الذي يعبّر عن مأساة إنسانية لا سبيل الى شفائها. فالحياة خطيئة أولى، والرواية محاولة للتحرر منها. وبكلام آخر إن العمل الفني عند الروائي اللبناني وهو هنا رواية"أوكي مع السلامة"هو صراع مع الكبت والرقابة بهدف إزاحتهما من الوجود. من هنا كان انتهاك المحرم عند كل الشخصيات التي تلعب على مسرح القصة قدرها ومصيرها. المحرّم كما يتجلى في الزواج، والخيانة، والهجر واللقاء، والبعد والقرب. وكما يتبدى في القناع والتمويه، وفي غبار الواقع، وعادات الليل الكاسحة. ولهذا يكون منطقياً أن يرحل كاتب الرواية في قصص تضمنتها قصة مع هامة بطلة القصة، مقارناً أحياناً، ومستخلصاً العِبر. فلأبيه قصة في معاشرته لأمه، ولصديقه حسن قصة ولإياس أيضاً، ولأخته قصة مع زوجها في الخليج، ولصديقته المهاجرة قصة في سكنها ببيروت، ولحسن صديقه قصة موت أدمته. عندما يختار رشيد الضعيف الروائي ضمير المتكلم ليروي قصة حبه لهامة، وقصة تقدمه بالعمر، فإنما يفتش في هذا الشكل اللغوي عما يحقق له حيزاً من التمايز إزاء بناء روائي درامي موروث وتقليدي قيل فيه، ومن خلاله أشياء مماثلة ومشابهة للذي يزمع قوله. ذلك أن ضمير المتكلم في القصة بقدر ما جاء ليخدم ظاهرياً مضموناً سردياً تكونت ملامحه سلفاً في ذاكرة الكاتب وخياله، جاء أيضاً ليقلب اللعبة الروائية الواقعية بنقله زاوية النظر من الراوي المراقب الذي تحدث عنه بلزاك بقوله:"على الرواية أن تتنافس في دقتها مع سجل الأحوال المدنية". فإلى الراوي المراقب لذاته من الداخل. لم يعد السرد يتطور عند رشيد الضعيف بحسب منطق سببي وزمني خارجي، بل صار تقدمه يتم بوتيرة نزاع الذات مع الذاكرة وصورها المتداعية. يتم نزاع الذات الراوية مع الذاكرة المخزنة في"أوكي مع السلامة"في ما تنقله من صور الجسد المملوء بالحب والجسد المملوء بالخيانة، في لغة تنزع لتكون ما يشبه لغة اللمس، أو الرائحة أو النظر أو السمع. لغة تكاد أن تكون كلمات أشياء وصفات وأفعال في ما تقوله وما تعبّر عنه. لغة تذكر بالمحكي، تذكر بلغة القلب التي لا تعرف التفاصح ولا تلبس زينة الفصحى الجاهزة. ينظر هايدغر الى اللغة باعتبارها"مسكن الكينونة"أي باعتبارها المكان أو المجال الأول الذي ترقد فيه والذي تتجلى من خلاله حقيقة العالم. إنها ليست مجرد أداة للتواصل، أو مجرد وسيلة ثانوية للتعبير عن الفكر الإنساني، بل إنها الكيان الحقيقي الذي يأتي بالعالم الى الوجود أصلاً، والمكان الذي يكشف فيه الواقع ذاته. ويرى هايدغر أن الإنسان ليس هو الذي يقول الكلمات، بل الكلمات هي التي تقول ذاتها من خلال الإنسان. يتحصل من كلام هايدغر أن الأشياء تكشف نفسها من خلال اللغة. وأشياء رشيد الضعيف عن الجسد في"أوكي مع السلامة"تكتب بلغة بسيطة تنقل الجسد بكل تلاوينه، وتصوّر أفعال الجسد بكل وقاحاته، المحرّم منها والمسموح. وهي بنقلها وتصويرها للجسد تبعثه بأقل أسلبة، وأقل تنميق، وأقل زينة. ذلك أن الجسد وكما روته شهرزاد في"ألف ليلة وليلة"ليس بحاجة الى لغة الفصحاء والعلماء ليُدرك، وإنما هو بحاجة الى لغة الناس، اللغة التي تقرّب المنظر من العين وتوصل المغزى الى الشفة حيث يرقد في اللاوعي الحب الأول، والمحرّم الأول، كما يكتب فرويد عن عقدة أوديب، ويكتب رشيد الضعيف عن عشيقته هامة:"وكنت مرات أؤلمها، ولكن مرة آلمتها فوق ما تحتمل بكثير، فصرخت معتذرة وفترت رغبتها على الفور، فأحسست بالذنب وانزويت في نفسي كهرة ضُربت بقوة وبلا سبب". إن المسافة بين الفعل والتعبير عنه لغوياً عند رشيد الضعيف ليس في حاجة الى صور براقة وفصيحة لتؤديه، وإنما الى أبسط الكلمات المأخوذة من حقل الفعل في المعيوش واليومي، كلمات تقرب من كلمات في السينما والمسرح حيث الكلمة صورة، والصورة كلمة، وحيث لا حاجة أو ضرورة لخيال يبعد الفعل على لحظة تحققه. قارئ رشيد الضعيف في روايته"أوكي مع السلامة"يكتشف أن رشيد بجرأته في التعبير عن خطوط الطول والعرض التي تغشى الجسد، يقدم رؤية جديدة للجسد تغني معرفة الإنسان بأعز ما يتشكل منه كيانه.