استشهاد أربعة فلسطينيين في غارة إسرائيلية على مدينة غزة    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    العضلة تحرم الأخضر من خدمات الشهري    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض سكانه يعيش بين جدارين بعد سنة من النزوح . ركام مخيم البارد في شمال لبنان يجثم على أسرار المعركة ... وإعادة بنائه غير وشيكة
نشر في الحياة يوم 27 - 05 - 2008

تفاصيل كثيرة ووقائع متباعدة أحياناً تلتقي في لحظة لتشكل عناصر المشهد الفلسطيني في مخيم نهر البارد شمال مدينة طرابلس، وترسم تشظياته التي أصابت بقية المخيمات الفلسطينية في لبنان وأولها مخيم البداوي المجاور. وتعود تلك المعطيات وتتناثر تحت مسميات تقنية منفصلة من واقع عسكري- ميداني ووضع إنساني حياتي وبيئات تعيد تشكيل ذاتها.
تلك التفاصيل والوقائع متشابكة ومركبة بقدر تشابك مكونات تنظيم"فتح الاسلام"نفسه، هو الذي طفا بالمخيم وأهله إلى سطح المستنقع اللبناني ذات فجر من أواسط شهر أيار مايو 2007.
اليوم، وبعد عام على حرب امتدت ثلاثة أشهر خاضها الجيش اللبناني ضد التنظيم المسلح، ثمة أسئلة لا تزال مطروحة من الجانبين وعليهما في آن، واتهامات انطلقت في الاتجاهات كلها، لتنصب على واقع إنساني بائس فلا تزيده إلا بؤساً وتشرذماً.
وإذا كانت تنظيمات"جهادية"كثيرة ولدت في السابق من رحم تلك المخيمات وتغذت على أوضاعها السياسية والاجتماعية المتأزمة، يبقى أن تنظيم"فتح الاسلام"واقع خارج هذه المعادلة، سواء سعى إلى بناء إمارة إسلامية انطلاقاً من الشمال اللبناني بحسب التهم الموجهة إليه، أو أراد تحرير القدس والعراق بحسب ادعاءات جند الشبان على أساسها. فلا عمره القصير ولا عناصره الأجانب الذين دلفوا إلى المخيم وتشكلوا بسرعة قياسية، ولا حتى قدراته المادية والعسكرية الكبيرة، قامت على متلازمتي التدين والقهر الاجتماعي- السياسي.
سوى أن تلك المكونات مضافة إليها خصائص أفرزتها الحرب الأخيرة في المخيم بين الجيش اللبناني وتنظيم"فتح الاسلام"، لا تزال قائمة وفي شكل أكثر ضراوة وحدة بما لا يحصن"البارد"أو البداوي من تشكل بيئات جديدة أكثر خصوبة وإنتاجاً لتنظيمات مشابهة.
دخول المخيم محظور على الإعلام إلا بموجب ترخيص صادر من وزارة الدفاع، وقد لا يكون من المجدي، ربما، الخوض في تفاصيل الاجراءات المطلوبة للحصول عليه، لكن لا بد من الإشارة إلى أن الترخيص المذكور يتيح التجول في ما تعارف على تسميته"المخيم الجديد"برفقة عسكري وبإشراف منه على كيفية التقاط الصور، وذلك"حفاظاً على سلامتنا".
أمام حاجز الجيش اللبناني الواقع بين بلدة المحمرة ومدخل المخيم تراصفت سيارات ومارة راجلون شهروا تصاريحهم ليسمح لهم بدخول ما تبقى من المخيم وتفقد منازلهم. استحدثت في الموقع العسكري، غير بعيد من الحاجز نقطة تفتيش للسيدات أيضاً تشرف عليها مجندات في الجيش. فحالما تصل العائلة عند نقطة العبور تنفصل النساء عن الرجال ليخضع كل من افرادها للتدقيق في الاوراق الثبوتية وتراخيص الدخول ثم يعودون لاستئناف السير سوية بعد الحاجز."هذه حالنا أينما كنا في العالم"قالت أم إياد التي تضطر للخضوع لهذه الإجراءات بشكل يومي في انتقالها المكوكي بين"البارد"حيث تساعد زوجها على ترميم المنزل والبداوي حيث تقيم مع أبنائها والأحفاد.
وبدا أن الناس اعتادوا على تلك الإجراءات، أو ربما فقدوا الأمل بتغييرها، فصاروا يقومون بها بطريقة ميكانيكية لاشعورية، فيما الجنود ألفوا بدورهم بعض الوجوه فراحوا يتوجهون الى اصحابها بالاسم. لكن ثمة شعوراً دائماً بالعزلة عن المحيط وكأن المخيم تحول سجناً كبيراً ممنوعة زيارة سكانه.
مباشرة بعد الحاجز، وعند مشارف المخيم، يحيلك مشهد المساحات الواسعة المجروفة بين الأبنية إلى الضاحية الجنوبية لبيروت بعد حرب تموز يوليو 2006. فالدمار الذي نزل بالمنطقة أقرب ما يكون إلى ذلك الذي تخلفه الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات. مربعات كاملة من الابنية تحولت ملاعب مغبرة ومكبات خردة.
المخيم القديم، وهو عملياً المخيم الفعلي، لم يبق منه شيء سوى جبل اسمنت هائل خرجت منه نتوءات حديدية وبقايا نوافذ وأبواب. لا شيء يذكّر بالسوق النابضة بحركة البيع والشراء، حيث كانت تطغى أصوات المنجدين والبناءين والباعة المتجولين على أبواق السيارات المتزاحمة. لا عرائس مراهقات تجرهن حموات سمينات إلى دكاكين الصاغة، ولا شبان يجلسون في محل"الديسكو"يستمعون لأغان رائجة ويلعبون"الفليبرز"تمريراً للوقت.
لم يبق من ذلك كله إلا رائحة نتنة وغبار ثقيل يزكم الأنوف. تلك منطقة عسكرية محصنة لا يدخلها إلا الجيش.
"سنبني البارد ونعود إلى فلسطين"تقول لافتة زاهية علقت فوق مستودع، تبين لاحقاً أنه أحد مراكز اللجنة الثقافية في نهر البارد. يستغرب العابر اللافتة بقدر ما يستغرب مركزاً ثقافياً في وضع من هذا النوع. في عتمة دامسة داخل المستودع جلس آمن 21 سنة وهو طالب علوم اجتماعية وإحسان 18 سنة التي تركت الدراسة يسجلان أسماء الأطفال حديثي الولادة لتزويد أمهاتهم بمياه شفة نقية يحصلان عليها من منظمة اليونيسيف.
فحالات الإسهال والتقيوء والإعياء كثيرة بين الأهالي سواء بين من عادوا أو من بقي في البداوي، ولا بد من توزيع ماء نظيف للرضع على الأقل تفادياً لانتشار الأوبئة والأمراض.
سمر أبو رجب 24 سنة جاءت تأخذ الماء لفرح ذات الأشهر الثمانية، والخامسة بين اخوتها. قالت سمر إن زوجها يعمل في مشتل زراعي قريب، وهو محظوظ لأن صاحب العمل اللبناني لم يطرده كما حدث مع كثيرين غيره. حملت طفلتها وقالت وهي تهم بالمغادرة"هذه جاءت في الحرب لذا سميتها فرح".
الطرقات هنا لا تزال شبه مقفرة، لا يسلكها إلا المتوجه إلى كومة خردة أو بقايا منزل. والسير صعب فوق الردم. بدت لافتة"برادي القدس"ذات اللون الوردي الفاقع كأنها وحدها التي نجت من كل ذلك القصف ولم تخدش. هي احد الشواهد القليلة على حيوات كثيرة شهدها هذا المخيم وناسه الذين عززوا ارتباطهم بقراهم الفلسطينية عبر أسماء محالهم التجارية والدكاكين والافران.
منازل قليلة جداً تخضع للترميم، فالمال غير متوافر إلا عبر أبناء وأخوة مهاجرين. ثمة حلقة مفقودة بين المال الذي تعلن الجهات المانحة على شاشات التلفزة عن ضخه وتحويله الى الجهات المعنية وأصحاب العلاقة المباشرين.
فالمبالغ التي حصل عليها النازحون وهي عبارة عن ألف دولار أميركي في بداية الحرب ومليوني ليرة لبنانية في وقت لاحق أي اقل من 1400 دولار تقريباً بالكاد تكفي لسد الرمق وتأمين سقف لعائلات سكنت مداخل الابنية في البداوي و"الكاراجات"والمدارس. وهذه بدورها يتم إخلاؤها خلال ساعات الدوام لتستقبل التلامذة على دفعتين قبل الظهر وبعده. ويرجع السكان في المساء فيعيدوا تحويل الصفوف غرفاً ومنازل.
وهناك في البداوي، حيث أعلام"حزب الله"وصور أمينه العام السيد حسن نصرالله تجاور لوحات ضخمة ل"شهيد السنة"الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إضافة إلى شعارات معادية لأميركا وإسرائيل، يحتك ابناء المخيمين بغير ود ظاهر.
فأبناء البداوي ينتابهم شعور بأنهم يدفعون ثمن أخطاء أهالي"البارد"اقتصادياً وسياسياً، إذ فجأة اكتظ مخيمهم الصغير والهادئ نسبياً والذي تتمتع فيه حركة"حماس"بنفوذ كبير بالوافدين الجدد ذوي الميول"الفتحاوية". أحاديث من نوع أن شباب"البارد"يدخنون ويشربون ويتعاطون المخدرات تسري بصوت خافت، تقابلها أحاديث أخرى من أن مناصري الحركات الأصولية في البداوي أمنوا غطاء لمقاتلين جاؤوا من مخيمي عين الحلوة والبرج ليستقروا في"البارد". لا يعني ذلك أن الشباب من الطرفين نقلا انقساماتهما السياسية والمعيشية إلى المخيم في شكل واضح لكنهم ضمناً يتبادلون التهم بما آلت إليه أمور المخيمين ويتقاسمون النواصي على هذه الخلفية. ومن يذهب منهم إلى"البارد"لتفقد منزله ومحله، فلا يجد لهما أثراً يعود أكثر غضباً وسخطاً إلى البداوي الذي انتعشت فيه الحركة التجارية والعقارية.
والخردة أكثر ما هو متوافر في البارد. الجميع يبيعها ويشتريها ويبحث بين ركامها. أوان نحاسية، فرن، غسالة، حتى المعلبات القديمة كله قابل للمقايضة وسط انعدام البدائل. سميرة اسماعيل التي طلقها زوجها وأخذ أولادهما جاءت إلى"سوق"الخردة تستطلع. تمنت لو أنها إحدى زوجات عناصر"فتح الإسلام"لأنها بحسب رأيها كانت حظيت هي وأبناؤها بمعاملة حسنة ولكانت الآن"معززة مكرمة في عين الحلوة أو سورية كالأخريات".
أم عبيدة التي لم تبلغ الثلاثين، وهي لبنانية متزوجة من فلسطيني لم تخف أيضاً ندمها على أنها"لم تتعاطف مع فتح الإسلام كما يجب". قالت إنهم عندما جاؤوا إلى المخيم"لم يؤذوا أحداً بل كانوا أتقياء يصلون ويتدربون على السلاح شأنهم شأن الجميع". وأضافت:"ماتوا شجعاناً ونساؤهم لم يتعرضن لما تعرضنا له نحن". وتسكن أم عبيدة مع أبنائها الاربعة في غرفة من منزل العائلة الذي كان مكوناً من طبقتين تضم كلاً منهما 4 غرف ومطبخ وحمامين. هي اليوم تستتر بجدارين أكملتهما بشراشف ليشكلا غرفة، فيما يتشاطر حمواها الممر المؤدي إلى الحمام وقد تحول مطبخاً أيضاً. وكانت السيدة متنازعة بين اللجوء إلى أهلها في بلدة المحمرة القريبة، وبين العودة إلى المخيم حيث يمكنها الاعتماد على بعض المساعدات الغذائية والعينية تعيل بها أسرتها. فزوجها الذي خسر محله وسط السوق يعمل اليوم في محل فروج في طرابلس.
وتشكو أم عبيدة كغيرها من السكان العائدين من فقدانها أثاث بيتها كبيراً كان أو صغيراً. فهي لم تجد شيئاً من أغراضها السابقة إلا فرشة اسفنجية طارت وحطت على سطح جيرانها فذهبت واستعادتها"للذكرى". وتتهم السيدة الجيش اللبناني ب"تنظيف البيوت قبل عودة أصحابها". وهي تهمة يتقاسمها معها كثيرون ومنهم أبو محمد وهو رجل ستيني كان مقاتلاً في صفوف"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". قال أبو محمد:"تفقدنا المنزل فور وقف إطلاق النار وقبل السماح بالعودة فوجدناه بحالة جيدة. وصوره حفيدي على هاتفه. ثم عدنا في شهر 11 الماضي عندما سمحوا لنا بالدخول فوجدته مفجراً وخالياً من أي شي وأشار أبو محمد إلى عبارات نابية كتبت على جدران الحمام وتحتها عبارة"المغاوير مروا من هنا". وعن سبب اعتقاد الرجل بأن التخريب متعمد وليس نتيجة المعارك قال إنه مقاتل سابق ويعرف أن يحدد أين وضعت القنبلة وكيف انفجرت. فالجدران كما أوضح قذفت إلى الخارج أي ان ضغط التفجير جاء من الداخل، كما أن لا بقايا حرائق ولهب على الجدران الخارجية. ولم يبق من منزل أبو محمد ذو الطبقات الاربع وقاعات الاستقبال الفسيحة إلا عواميد الاساس وثريات تدلت من السقف."حتى الاثاث طار ولا أعرف كيف"قال الرجل ضارباً يداً بيد.
الأبنية المواجهة لمنزل أبو محمد سويت بالارض فوقف على شرفة مستحدثة كانت غرفة ذات يوم، وقال:"صار المنظر كاشفاً على البحر... هناك موقع صامد الذي اشتهر بعد المعارك. لا شك أن ثمن العقار هنا ارتفع، تماماً كما النكات التي أطلقت على الضاحية الجنوبية بعد حرب تموز".
وبعد محاولات عديدة للتقليل من شأن هذه الاتهامات وتجاهلها ما عاد بإمكان الجيش اللبناني التغاضي عن هذه الاتهامات خصوصاً انه حرص على"إخراج عائلات الإرهابيين بكل احترام وإنسانية"حسبما قال ل"الحياة"مصدر عسكري مأذون. وأضاف المصدر:"هل رأوا شاحنات الجيش تحمل برادات وغسالات وأسرة من المخيم؟ لم لا يكون الارهابيون أنفسهم كتبوا على الجدران وخربوا المنازل عندما احتلوها لقتال الجيش؟".
وقال المصدر أنه كان ورد تقرير"حول انتهاك الجيش لحقوق الإنسان في مخيم البارد، من خلال سرقة ممتلكات وتدمير منازل، وكتابة عبارات بذيئة عن الفلسطينيين موقعة باسم قوى عسكرية، مع افتراض حصول ذلك بين تاريخ 2/9 و10/10/2007، أي بعد انتهاء المعارك. إضافة الى إحراق متعمد لبعض المنازل وتدميرها، وتوقيف رجال فلسطينيين وتعذيبهم، ومضايقة النازحين العائدين الى منازلهم، إضافة الى عدم السماح لوسائل الإعلام بالتصوير في المخيم". لكن المصدر العسكري نفى تلك الاتهامات جملة وتفصيلاً واعتبرها"بعيدة كل البعد عن الحقيقة، لأن الجيش كان يرد على مراكز إطلاق النار بدقة متناهية، فيما كان المسلحون يعمدون الى إطلاق النار بصورة مستمرة من أماكن مختلفة ومن ضمنها أماكن سكنية، متسببين بالإصابات بين العسكريين الذين كانوا يضطرون الى الرد على مصادر النيران، وهذا ما تؤكده الخسائر الكبيرة في صفوف العسكريين ...."واعتبر المصدر"أن جهة ما قد تكون أقدمت على كتابتها العبارات المسيئة بهدف الإساءة الى العلاقة بين الجيش والنازحين".
في"البركسات"حيث الوحدات السكنية الجاهزة الصنع تستقبل عائلات وافدة من البداوي ناهزت الألف ممن دمرت منازلهم بالكامل في المخيم القديم، تتدكس العائلة المؤلفة من 5 أشخاص في علبة بطول 6 أمتار وعرض 3 فيها مجلى وحمام. ونظراً إلى أن غالبية العائلات يفوق عدد أفرادها الخمسة، فإنهم يتوزعون على"علبتين".
"البركسات"تلك كما يسميها أهالي المخيم عادت بهم إلى عهد الزينكو الذي فرض عليهم في بداية لجوئهم إلى لبنان. في ذلك الوقت، لم يتوقع أحد ان يبقى الفلسطينيون لاجئين جيلاً بعد جيل، ولم يحسب حساب لأبناء يتزوجون ويبنون أعشاشاً فوق منزل الوالدين. كانت السقوف المسموح ببنائها هي"الزينكو"ولا شيء غيره خوفاً من"الاستقرار"ودرءاً له.
واليوم، وبعد عقود على تلك التغريبة الأولى عادت مادة مشابهة ولكن أكثر حداثة تشكل السقف الوحيد فوق رؤوس جيل جديد من اللاجئين وتمنع"استقراره"مرة اخرى.
حسين عاطف وعلاء خضر وقفا على درابزين الطابق الثاني من البركسات ينفثان دخان سيجارتيهما. المراهقان اللذان لم يتخطيا عتبة العشرين طبعا أوشاماً على سواعدهما ولونا خصلاً في شعرهما منها الأشقر ومنها الأحمر. يعمل حسين وعلاء بما تيسر لهما من أعمال، ويقفان بقية النهار وجزءاً من الليل هنا، يحدقان في المارة."البركسات"تمنع أي خصوصية. فالأبواب المفتوحة على العلب المقابلة، تجعل الغرفة- المنزل امتداداً للممر العام والمارة ورجال الاستخبارات اللبنانيين. راضية خليل التي بدت أربعينية رغم سنواتها ال 28 وصلت مع عائلتها منذ أسبوعين واستلمت غرفتها. راحت تشرح ظروف عيشها فيما تحضر الشاي، وفجأة دخل رجل غريب وسأل:"من الزائرين". لم يكن من راضية وأختها نسرين إلا أن سوتا حجابيهما وأعلنتا بتململ"صحافة".
حسين وعلاء يغتاظان من تلك"الغارات"ويقولون أنها تتكرر ليلاً ونهاراً، لكنهما عاجزان عن الرد. ينفسان غضبهما في التدخين والعراك وأحياناً بضرب السكاكين. ولا يرى الشابان وغيرهما من سكان"البركسات"أفقاً لمصيرهم. فالخطط المنمقة التي أعلنتها لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني والتي يجب أن ينتهي العمل بها بحلول 2010بعيدة عنهما كل البعد. وكان السفير خليل مكاوي المكلف متابعة الملف أوضح في حديث الى"الحياة"إن التصميمات وضعت بالتنسيق مع لجان محلية لإعادة المخيم"أفضل مما كان"مع الحفاظ على خصوصية الأهالي. وأشار مكاوي إلى رسوم بيانية وخرائط تفصيلية زينت جدران مكتبه في السراي الحكومية حيث بدا المخيم مقسماً إلى أحياء وقطاعات بحسب العائلات تماماً كما كان المخيم السابق، لكن بظروف حياة وبنية تحتية افضل بكثير. فهنا حي الصفوري وهناك سعسع وصفد والدامون وغيرها. وجاء هذا التقسيم نزولاً عند رغبة السكان في الحفاظ على تقسيم سابق، ورفضهم الاقتراح الاول ببناء مجمعات سكنية. فتلك برأيهم قد تغير النسيج الاجتماعي والعلاقات العائلية والتوازنات المناطقية.
علاء تمنى لو أنه"قاتل واستشهد"، على الأقل كان سيجد لنفسه دوراً ومكانة. فهو وإن كان يكره"فتح الإسلام"عندما جاء عناصره إلى المخيم، خصوصاً بعدما وبخوه على مسلكه وشكله، إلا أنه يجد اليوم فيهم مصدر وحي وعزيمة. ويعتبر علاء أن"ما يحدث اليوم هو اختبار لقوة السنّة كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، لذا لا بد من الصبر". المشاعر المتناقضة حيال تنظيم"فتح الإسلام"تجعل أبناء"البارد"كارهين له حيناً، متعاطفين معه أحياناً. فهم يجدون في عناصره"شباناً أتقياء انجروا إلى معركة لم يختاروها". وإن كان الأهالي مجمعين على وقوفهم إلى جانب الجيش طوال فترة القتال، خصوصاً بعدما تعرض للهجوم إلا أنهم يلومونه على اتهامهم بإيواء الإرهابيين. يقول علاء:"دخل مسلحو"فتح الإسلام"بعدما وضع المخيم تحت سلطة الدولة". وتأتي التهمة المقابلة بأنهم جاؤوا تحت مظلة فتح الانتفاضة وهو شأن داخلي بين الفصائل لا علاقة للسلطات اللبنانية فيه.
ويؤيد علاء الفكرة القائلة أن الخلاف العقائدي بين"ابي هريرة"وشاكر العبسي هو ما يفسر مقتل الأول واختفاء الثاني ليبقى مجهول المصير. فبحسب الرواية المحلية أن رجال"أبي هريرة"هم من اعتدوا على الجيش عند مدخل المخيم وأشعلوا الشرارة الأولى للحرب، فيما العبسي كان يرمي إلى التجنيد في لبنان وإرسال الشبان إلى العراق من دون استفزاز السلطات اللبنانية وربما بشيء من الاتفاق الضمني معها على عدم إشعال فتيل لبناني- فلسطيني.
لكن ما حدث قد حدث، وبعد عام لا يزال مخيم نهر البارد ينتظر أن يبرد جمره، عساه لا يخرج أجيالاً جديدة من"المجاهدين".
الجيش يرد ... ويبدأ تحقيقاته
في سياق التحقيق في مخيم نهر البارد, وعلى أثر اتهامات الأهالي لأفراد في الجيش اللبناني بارتكاب تجاوزات خلال الاشتباكات وبعدها وإحراق منازل لم تتضرر في المعارك, وكتابة شعارات عدائية على الجدران, التقت"الحياة"الجهات المعنية في مديرية التوجيه في وزارة الدفاع للوقوف عند تلك الوقائع, فخص المصدر العسكري المأذون"الحياة"بالرد الآتي:
"غادر المدنيون كافة، باستثناء الإرهابيين، مخيمي نهر البارد القديم والجديد، وبالتالي يفترض عدم إطلاع أي منهم على الأضرار والدمار والأعمال التخريبية التي قام بها المسلحون قبل اندحارهم، ليتمكن من المقارنة، مما يعني أن كل الاتهامات هي محض افتراء، خصوصاً أنها تستند الى أقاويل بعض الأشخاص الذين يكنون العداء للجيش.
واكتشف العسكريون آثار سموم استخدمها الإرهابيون ضدهم، فقضت الضرورة بعد انتهاء المعركة بحرق بعض الأماكن للقضاء على هذه السموم. يضاف الى ذلك استعمال الإرهابيين لقناني الغاز المنزلي في عمليات التفخيخ والنسف والحرق.
أما عن سبب عدم السماح لوسائل الإعلام بالدخول الى المخيمين، فهذا يعود الى حرص الجيش على سلامتهم، من الألغام والتفخيخات والسموم حيث لا يزال الجيش يعمل على إزالتها لتسهيل عودة النازحين.
ولا يمكن اتهام الجيش بتعذيب أحد، وهو الذي ساهم في إجلاء عائلات الإرهابيين ومعاملتهم بكل لياقة واحترام، على رغم أن أزواج تلك العائلات غدروا بعناصر الجيش من دون سبب.
أما الأضرار الحاصلة في الأبنية والأثاث والمفروشات، فإنها ناتجة من تبادل إطلاق النار مع المسلحين أثناء ملاحقتهم داخل المنازل، ومن أعمال التفخيخ الكثيفة التي قام بها هؤلاء المسلحون، الذين لم يتورعوا عن تفخيخ الجثث، وفقاً لما صرح به الكثير من النازحين، وأكبر دليل على ذلك سقوط 169 شهيداً وأكثر من 2000 جريح وحوالى 167 معوقاً من الجيش، وهذه الأعداد تتجاوز بكثير ما تكبده التنظيم الإرهابي والمدنيون الفلسطينيون.
يضاف الى ذلك أن قوى الجيش ضبطت مبالغ مالية كبيرة ومتنوعة مع المسلحين الذين أُسروا، وهذا دليل على سرقتهم للأموال.
أما الكلام على أوامر قيادة الجيش بالتدمير المنهجي والمنظم لمباني المخيم، فإنه بعيد كل البعد من الحقيقة، لأن الجيش كان يرد على مراكز إطلاق النار بدقة متناهية، فيما كان المسلحون يعمدون الى إطلاق النار بصورة مستمرة من أماكن مختلفة ومن ضمن أماكن سكنية، متسببين بالإصابات بين العسكريين الذين كانوا يضطرون الى الرد على مصادر النيران، وهذا ما تؤكده الخسائر الكبيرة في صفوف العسكريين المشار إليها آنفاً. وخلال سوق تلك الاتهامات لم يؤخذ في الاعتبار احتمال قيام هؤلاء المسلحين بنهب البيوت وحرقها، والكتابة على الجدران، وذلك قبل استسلامهم، بحيث يظهر وكأن العسكريين ارتكبوا هذه الأعمال للإساءة الى العلاقة بين الجيش والفلسطينيين.
ويشير الجيش إلى العمل الانساني والفرص التي أعطاها للاتصالات السياسية حفاظاً على الأرواح والممتلكات، والتي تضمنت:
- توجيه 23 نداء لعناصر التنظيم الإرهابي بواسطة مكبرات الصوت بصورة مباشرة، وعبر وسائل الإعلام المختلفة بصورة غير مباشرة، للاستسلام وإفساح المجال أمام الكثير من الوساطات التي قام بها رجال الدين ومسؤولون من المنظمات الفلسطينية المختلفة، ومندوبون من بعض الدول الشقيقة والصديقة للغاية نفسها، إنما من دون طائل، وقد ظهر الحرص على سلامة المدنيين الفلسطينيين بصورة جلية في بيانات قيادة الجيش المتكررة، وفي تأخر عمليات الحسم العسكري لتجنب إيذاء هؤلاء، مما حدا ببعض السلطات السياسية، وبعض أهالي الشهداء، الى اعتباره تلكؤاً مقصوداً من جانب الجيش.
- السماح للصليب الأحمر الدولي واللبناني، والهلال الأحمر الفلسطيني، بإدخال المؤن الى المخيم حتى انتهاء خروج المدنيين، ومعالجة الجرحى، ومعاملة الأسرى بأفضل الطرق، في الوقت الذي عمد المسلحون الى مصادرة بعض آليات الأمم المتحدة التي أدخلت المؤن.
- المساهمة في شكل فاعل وسريع في توفير الشروط الأمنية السليمة، وتأمين المستلزمات الحياتية والإنمائية لعودة النازحين، وتنظيم هذه العودة من خلال منح الراغبين في العودة تصاريح مسبقة لتجنب الفوضى ومنع التجاوزات من جهة، ولإرشادهم الى المناطق الآمنة من جهة أخرى، مع الإشارة الى أن هذه التصاريح لم تهدف الى الضغط على هؤلاء أبداً.
- رصد كتابات مسيئة على الجدران، قام بها مجهولون، إضافة الى قيام بعض الأشخاص بأعمال استفزازية من خلال شتم عناصر الجيش، واستبدال أعلام فلسطينية بالأعلام اللبنانية بعد عودة النازحين. أما في ما يتعلق بالشعارات العنصرية والمسيئة الى الفلسطينيين، فإن جهة ما قد تكون أقدمت على كتابتها بهدف الإساءة الى العلاقة بين الجيش والنازحين، مستغلة الحالة النفسية لهؤلاء من جراء أحداث المخيم.
في الختام، تؤكد هذه القيادة أنها حرصت على تذكير العسكريين دائماً، خلال المعارك وبعد توقفها، بضرورة تقيّدهم بالقوانين والمناقبية العسكرية من جهة، وعلى مراقبة تنفيذها من جهة أخرى، مع إقامة الحواجز لضبط المخالفات المرتكبة من جانب العسكريين، والفلسطينيين العائدين، على السواء، ما بين القيادة ومسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية.
في أي حال يقتضي لفت المعنيين الى ضرورة توخي الدقة والشفافية عند إصدار تقاريرهم، خصوصاً أن ما حصل من نتائج مأسوية ناجم عن تصرفات الإرهابيين، الذين قدموا الى المخيم من جنسيات مختلفة، عربية وأجنبية، وتجمعوا في داخله وسيطروا عليه، متخذين من الفلسطينيين رهينة بأيديهم وغطاء لهم للقيام لاحقاً، وعن سابق تصور وتصميم، بذبح عسكريين على قارعة الطريق، معظمهم من أبناء القرى المجاورة، في حين كان الجيش يقاتل على أرضه ودفاعاً عن كرامته وكرامة شعبه، باذلاً أقصى الجهود لتوفير الحماية للفلسطينيين من ردود فعل الأهالي ومن سريان شريعة الغاب".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.