يشبه كثير من المراقبين العلاقة بين مصر والسودان بالزواج الكاثوليكي، إذ أن الخلافات بين البلدين الجارين على الصعيد السياسي، سرعان ما تطوى مهما اشتدت، لاعتبارات المصلحة المشتركة التي تحكمها عناصر متشابكة. ومن أبرز الأحداث التي عكرت صفو تلك العلاقة في العقدين الأخيرين الخلاف على مثلث حلايب الحدودي والذي كاد يشعل حرباً بين البلدين، فضلاً عن تعرض الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا العام 1995 تردد أنه كان للاستخبارات السودانية دوراً فيها، على الأقل في ما يتعلق بإيواء المتورطين في تلك المحاولة ورفض تسليمهم إلى القاهرة لمحاكمتهم، إلا أن ذلك التوتر بدأ في الزوال بعد محاولات مصرية للتوفيق بين حكومة السودان وعناصر الانفصاليين في الجنوب السوداني وهو ما وصل إلى توقيع اتفاق بين الجانبين لإنهاء الصراع بينهما برعاية مصرية. وفي عهود مختلفة أعقبت استقلال السودان في أواسط الخمسينات عن الحكم المصري - البريطاني المشترك، كانت هناك دائماً محاولات لتحقيق تكامل اقتصادي بين البلدين. ومن أحدث تجليات ذلك التوجه الذي يعتبر الوجه الآخر للتأزم السياسي، الذي يطفو بين الحين والآخر على سطح العلاقة بين القاهرةوالخرطوم، تأسيس مجلس رجال الأعمال المصري السوداني في عام 2000 وتوقيع اتفاقات عدة في العام التالي 2001 لتشجيع الاستثمار المشترك، وتدشين"ملتقى الاستثمار المصري السوداني". ويتذكر المصريون، خصوصاً من ذوي الدخل المحدود، اتجاه حكومتهم قبل نحو 4 سنوات إلى السودان لاستيراد اللحوم في محاولة للسيطرة على ارتفاع أسعارها محلياً، وهي المحاولة التي فشلت بعد تعثر عمليات الاستيراد تلك لأسباب غامضة. وفي أوائل نيسان أبريل الماضي زار وزير الاستثمار المصري محمود محيي الدين السودان حيث وقع على تسع اتفاقيات في مجالات عدة، في مقدمها اتفاقية للتعاون في المجال الزراعي ما يعيد إلى الأذهان نظرة مصرية قديمة متجددة إلى السودان باعتباره مهيأً بأراضيه العالية الخصوبة لأن يسد النقص الذي تعانيه في إنتاج محاصيل عدة، أهمها القمح الذي يعد العنصر الأساسي في إنتاج الخبز الذي كادت أزمته الأخيرة أن تطيح الحكومة المصرية الحالية. ومن المقرر أن تستضيف القاهرة يومي 25 و26 أيار مايو الجاري اجتماع اللجنة العليا المصرية ? السودانية المشتركة برئاسة علي عثمان طه نائب الرئيس السوداني وأحمد نظيف رئيس الوزراء المصري. وسيزور وزير التعاون الدولي السوداني التيجاني فضيل مصر في غضون أيام للإعداد مع وزيرة التعاون الدولي المصرية فايزة أبو النجا لذلك الاجتماع. ويذكر أن حجم التجارة بين البلدين وصل العام الماضي إلى نحو 750 مليون دولار من الجانب المصري و100 مليون دولار من الجانب السوداني. إلا أن الحكومة السودانية أكدت في وقت سابق أنها تلقت عروضاً من مصر وقطر والإمارات لاستثمار ما يقرب من 6 ملايين فدان من القمح، مشيرين إلى أن كلفة استصلاح واستزراع أراض تكفي لإنتاج مليون طن من القمح سنوياً لا تتعدى 2 بليون دولار وان زراعة القمح في السودان بتقنيات حديثة ستصل بسعر طن القمح إلى نصف ما هو عليه الآن في الأسواق العالمية. ويشار في هذا الصدد إلى تصريح لأمين لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم في مصر جمال مبارك كشف فيه عن أن مصر قررت التوجه إلى السودان لحل مشكلاتها الغذائية من طريق زرع مساحات من الأراضي السودانية على أن يتم إمداد السودان بجزء منها وتخصص الجزء الأكبر لتأمين إمدادات مصر الغذائية. وفي الإطار نفسه أكد وزير الزراعة المصري أمين أباظة أن هناك محاولات جادة تبذل بالتعاون بين مصر والسودان والسعودية وليبيا لتحقيق"التكامل الزراعي العربي وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب للمنطقة العربية". ودلت تصريحات المسؤولين المصريين على التوجه المصري إلى السودان والتي توصف ب?"سلة غذاء العالم"لمحاولة الاكتفاء الذاتي من إنتاج الحبوب في ظل ارتفاعات متسارعة في أسعارها عالمياً وصلت إلى تحذيرات أطلقها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة كون ارتفاع أسعار المواد الغذائية قد يؤدي إلى تعاظم التهديدات التي يطرحها الجوع وسوء التغذية وتجعل الملايين من الناس الأضعف حالاً في العالم معرضين للخطر. ويؤكد خبراء مصريون في المجال الزراعي على وجود نحو مليوني فدان على الحدود المصرية ? السودانية، منها 1.3 مليون على الجانب السوداني و700 ألف في الأراضي المصرية"يمكن من خلالها البدء في تحقيق الحلم العربي بالاكتفاء الذاتي من الحبوب ومواجهة ارتفاع أسعارها عالمياً". ويرى رجل الأعمال المصري خالد غندور أن التوجه المصري الجديد نحو السودان خصوصاً في ما يتعلق بالاستثمار الزراعي المعتمد في شكل أساسي على جهود القطاع الخاص يختلف عن المحاولات السابقة في المجال نفسه لجهة أنه كان ذا طابع حكومي، ومن ثم واجهته عقبات روتينية حالت دون نجاحه المرجو. ويصف أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة الأزهر الدكتور محمود منصور ذلك التوجه بأنه مجرد"استهلاك محلي"لأنه لا بد من الاهتمام أولاً بالداخل لوجود مساحات من الأراضي الزراعية داخل القطر المصري لم يتم استغلالها كذلك توخي الفرص لترشيد الري من طريق استخدام المكننة الحديثة وبالتالي"لدينا الإمكانية لتوفير الأمن الغذائي من طريق استغلال مواردنا الداخلية أولاً". وأوضح منصور أن الاتجاه إلى السودان يجب ألا ينظر إليه كحل عاجل، فلا بد من دراسة العديد من التفاصيل أولاً قبل الدخول في تلك التجربة، كذلك لا بديل عن تكامل عربي، فعلى رغم توافر التربة الصالحة للزراعة إضافة إلى كميات كبيرة من المياه إلا أن السودان في حاجة إلى رأس مال كبير للاستثمار في البنية التحتية إضافة إلى عمالة مدربة، مشيراً إلى حاجاتنا إلى جهد عربي مخلص قبل الدخول إلى ذلك الأمر". ويتفق رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل في"مركز الأهرام للدراسات"هاني رسلان وهو سوداني الأصل مع كلام منصور في اعتبار التوجه المصري نحو السودان نوعاً من الحماسة الدورية والتي تأتي كرد فعل بعد كل أزمة موقتة وتنتهي بعد انتهاء الأزمة. ويقول رسلان:"لا بد من وجود رؤية إستراتيجية لبدء مرحلة جديدة من الشراكة المخططة مع السودان فدور مصر الإقليمي يتضاءل ولا بد من إعادة صياغته وتوجيهه إلى حوض النيل وبالتالي الى السودان". وأوضح رسلان أن مساحة الأراضي المزروعة في مصر تبلغ 6 ملايين فدان وهي المساحة نفسها منذ تولي محمد علي الحكم، ويتوافر في السودان 200 إلى 240 مليون فدان صالحة للزراعة، والخرطوم أعلنت في وقت سابق عن سياسة جديدة للاستثمار وهي بحاجه إلى التواصل مع العالم المحيط. وشدد رسلان على أن التوجه المصري لا بد من أن يكون تحت عنوان الشراكة الإستراتيجية وليس على أساس فكرة التكامل ذلك لأن الشراكة تقوم على الندية والتكافؤ في العوائد وحتى لا يشعر الطرف السوداني بشبه استغلال أو تعالٍ وتلك تحفظات لدى الجانب السوداني على الدور المصري السابق. أما أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتور إبراهيم محمد حجازي فشدد على ضرورة التكامل الاقتصادي بين مصر والسودان وهو يرى انه لا بد من الاهتمام بالتوجه إلى دول حوض النيل وعلى رأسها السودان لأن اتحاد مصر مع السودان يمثل قوة للعالمين العربي والأفريقي كطريق أول لتدشين سوق عربية مشتركة إلا أنه أوضح في الوقت نفسه أن ذلك المشروع لا بد من دراسته جيداً بحيث يكون متكاملاً ذلك لأن السودان لديها 90 مليون فدان من أجود أنواع الأراضي في العالم وهو ما يعرف"بمثلث الخرطوم"، ومصر لديها خبرات نوعية وعلمية وتتوافر لها الأيدي العاملة المدربة، إضافة إلى أن دول الخليج عليها أن تقوم بضخ أموال لتمويل مشاريع في الأراضي السودانية بدلاً من استيراد القمح والمحاصيل الزراعية من أميركا والدول الأوروبية، مشيراً إلى أن العائد الذي سيعود على تلك الدول سيكون كبيراً وخلال سنتين فقط بعد ذلك ستكون مصر والسودان سلة الغذاء العربي بل والعالمي أيضاً. وعن دخول القطاع الخاص المصري لضخ الأموال اللازمة لبناء البنية التحتية في السودان وإقامة مشاريع زراعية أكد حجازي فكرة التكامل بين الحكومة والقطاع الخاص بمعنى أن يقوم القطاع الخاص بضخ أمواله في المشاريع وتقوم الحكومة بحماية تلك الأموال من طريق وضع التشريعات التي تنظم العلاقة بين القطاع الخاص والحكومة إضافة إلى المحافظة على تلك الأموال وحفظها ضد اي تقلبات في أسعار الصرف، وذلك من طريق ربط تلك الأموال بما يعرف ب?"السلة الرئيسة للعملات"مثل الدولار واليورو والين الياباني حتى لا تنهار تلك الأموال في حال انخفاض أسعار العملات كذلك لا بد من إقامة مشاريع تخدم بعضها ويتم التنسيق في ما بينها بحيث تكون مشاريع تكاملية وليست تنافسية. وشدد حجازي على أنه في ظل"التكتلات العالمية الرهيبة"لا بد من تكامل بين مصر والسودان ليكون بداية لتكامل عربي شامل وذلك لا بد من أن يبدأ في أسرع وقت لأن الوقت عامل حاسم، فلا يعقل أن تتكامل الدول الغربية والتي كانت تستعمر الدول الأفريقية في السابق وتظل الدول المستعمرة وحيدة من دون محاولات للتكامل مع بعضها على اقل تقدير. ويعود حجازي ويقول أنه على رغم الضرورة الملحة في التكامل مع السودان فلا بد من الاهتمام بالأراضي المصرية أولاً وترشيد استخدام المياه إضافة إلى الاهتمام بالفلاح المصري وتدعيمه ولا بد من شراء القمح على سبيل المثال من الفلاح بالأسعار التي يتم استيراده بها من أميركا. فالفلاح المصري لا يرى أن القمح يعطيه العائد المناسب الذي يعوضه وبالتالي لا يهتم باستزراعه. ويتساءل حجازي:"هل يعقل أن نركّز المناطق الصناعية داخل الأراضي الزراعية الخصبة ونترك الأراضي الصحراوية"؟ مشيراً إلى أنه لا بد من الاهتمام بالصحراء المصرية والتوسع في استصلاحها، لافتاً إلى أن ثلثي الأراضي المصرية غير مستغل ويوجد أسفلها اكبر خزان مائي في الشرق الأوسط يمكن استخدامه في الزراعة.