عندما تميل الموازين السياسية ببيروت لمصلحة "حزب الله"، يصف بعضهم ذلك انتصاراً لإيران وسورية وهزيمة لحلفاء أميركا. وإذا سيطر"حزب الله"على أوج السلطة، يعتبر معارضوه سيطرته في مثابة تسليم لبنان للمخططات الإيرانية، وإنشاء حلقة وصل بين الخليج الفارسي والبحر المتوسط. والى هذا فالتحالفات المتقلبة ، والانشقاقات الدائمة بين الأحزاب المسيحية المختلفة، والتيارات السنيّة وحتى الشيعية، قرينة على اتجاه لبنان الى صوغ هوية لا تتمتع بالثبات المطلوب. وينتهي طرفا النزاع الى التسليم بحقيقة"لا غالب ولا مغلوب". ومنذ 2006، ومواجهة"حزب الله"الاعتداءات الإسرائيلية على جنوبلبنان بمقاومة شديدة، تحول الحزب عملياً الى محرك الساحة السياسية اللبنانية، وثبت نوعاً من التوازن في لبنان أراد استعماله في رسم خصائص البلد. فدحرُ الجيش الإسرائيلي منحه خاصية أن يكون دولة داخل لبنان، وأن يوظف انتصاره العسكري ورقة سياسية في معادلاته، وفي تقسيم المواقع التنفيذية او الوزارات لمصلحة الأقلية البرلمانية. ووراء وصف الحكومة بأنها غير قانونية أزمات أكبر. ولعل أولها ازدياد دور الشيعة في البنية السياسية اللبنانية، وتثبيت الانتصار العسكري، على خلاف دعوة القرارات الدولية الى نزع سلاحه. والمسألة الثانية استمرار سورية في السيطرة عليه، وسعيها المحموم في الحؤول دون المتابعة القضائية الدولية لاغتيال رفيق الحريري. والمسألة الأهم هي قطع الطريق على مواجهة الحكومة اللبنانية ما يسمى ترسيخ أو توسيع النفوذ الإيراني. وعلى رغم انسحاب وزراء"حزب الله"و?"أمل"، استطاع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الحفاظ على تماسك الحكومة والدولة. وفي المقابل، نجح"حزب الله"، والأقلية البرلمانية، في تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. وعليه، فإن استمرار عمل الحكومة في بلد لا يترأسه رئيس للجمهورية منذ ستة أشهر، وبعد 19 موعداً لجلسة الانتخاب، فجّر أزمة كانت تقترب خطوة بعد خطوة صوب المواجهة العسكرية. ومن وجهة نظر حكومة السنيورة، وتيار 14 آذار مارس، سبَّب اغتيال عماد مغنية انشقاقاً عميقاً في تنظيم الحزب. وفي ضوء هذا، بدأ التخطيط لتوجيه ضربات عملية أخرى لتشكيلات"حزب الله". فأعلن عن توليه تدريب قوات المقاومة الشيعية العراقية بالقرب من طهران، والتأليب عليه وعلى إيران. واشتدت الضغوط في وقت تسارعت فيه وتيرة العمليات العسكرية على القوات الأميركية في العراق، وانقطعت، مرحلياً، الحوارات الإيرانية ? الأميركية على مستقبل العراق. ويبدو أن تراجع علاقات الحد الأدنى بين إيران وأميركا، وتفاوضهما على العراق، ترك أثراً في قرارات الحكومة اللبنانية في الأسبوعين الأخيرين. وحمل حكومة السنيورة على الإعلان عن تركيب"حزب الله"جهاز تصوير للتجسس على مدرج مطار بيروت، وعن تبعية قائد جهاز أمن المطار له، وقيامه بمراقبة تحركات المسؤولين والسياسيين اللبنانيين. وبعد يومين دخل لبنان عملياً المواجهة. و"حزب الله"بدأ قبل سنتين، ومن غير تنسيق مع الحكومة، إنشاء شبكة اتصالات "فايبر أوبتك" في كل لبنان، شارفت الانتهاء. وتهمش الشبكة الاتصالات الرسمية اللبنانية، وتوسع استقلال الحزب عن الحكومة الرسمية. وخطاب السيد حسن نصر الله كان بمنزلة إعلان بدء حرب داخلية، وإطلاق نار، ومقابلة بالمثل. ووضع السيد حسن نصر الله في موضع إذا لم يزج بقواته العسكرية في الميدان يهدده ذلك بخسارة السيطرة على مطار بيروت، وتنفيذ القرار الدولي 1701، ونزع السلاح. وانتشرت قوات الحزب، واحتلت غرب بيروت، وهو قلب لبنان السياسي والتجاري. وشكل قطع الطرق المؤدية الى المطار رسالة واضحة بأن قرار الحزب لا تراجع عنه، وأن بدء الحرب الداخلية جدي. وهو العمل الذي وصفه السنيورة بانقلاب مشترك قام به"حزب الله"وإيران. ومن أجل قطع الطريق على إمكان التدخل الأميركي، أعلن نصر الله أنه لن يتردد في احتلال مبنى السراي الحكومي أو حتى البرلمان اللبناني. ونشرت الوكالات صوراً لمقاتلين يجلسون وراء السواتر وهم يدخنون النراجيل ويشربون الشاي. وتوحي الصور هذه بأن أحداً لا يهدد الحزب، وأن الإحجام عن القضاء على الحكومة اللبنانية مرده الى أن"حزب الله"لم يرد ذلك. وخوفاً من الانقسامات، لم يتدخل الجيش في مناطق الاشتباك. والجيش مؤلف من ضباط شيعة وسنّة ومسيحيين. ودور الضباط الشيعة في الجيش واضح. وبعض الضباط السنّة والمسيحيين يعارضون الحكومة، ولا يرغبون في التورط في حرب داخلية. ولكن احتلال الحزب البلد لا يعني أنه قادر على تأليف حكومة مستقرة. والحق أن مشاركة لاعبين إقليميين ودوليين أقوياء في السياسة اللبنانية يجعل استقرار البلد عسيراً. وجرب الإسرائيليون، قبل مدة، انتصار"حماس"في الانتخابات الفلسطينية. ومن المحتمل أنهم لن يسكتوا عن لبنان يتمتع فيه"حزب الله"بالكلمة الأولى. وقدرة الحزب على إبداء ليونة تجنبه مصير"حماس"وإخفاقها في إدارة السلطة السياسية والعسكرية، وعلى المساومة الديبلوماسية، قد تحدد مستقبله إقليمياً ودولياً. واستمرار الأزمة بين جبهة أميركا وحلفائها وإسرائيل والدول العربية وبين محور إيران وسورية يؤثر تاثيراً لا شك فيه في مستقبل لبنان السياسي، وفي دور الحزب تالياً. ولا تزال أميركا منشغلة في ترتيب السلطة السياسية بالعراق. وإدارة جورج بوش في اختتام ولايتها. وقد يصرف هذا واشنطن عن التركيز على التطورات اللبنانية. وفي تطور محتمل، قد يفوز باراك أوباما، المرشح الديموقراطي، برئاسة الجمهورية الأميركية، ومعه فريق جديد قد تختلف مواقفه عن مواقف المحافظين الجدد. واتفاق اللبنانيين على إجراء انتخابات حرة يشكل مخرجاً للبنان من الانسداد السياسي الذي شهده في السنتين الأخيرتين. وإذا لم تتفق التيارات السياسية المتنافسة على انتخابات حرة وشفافة، بمراقبة دولية، أو إذا اشترط"حزب الله"شروطاً صعبة التطبيق على الانتخابات، فينبغي أن نتوقع لبناناً من دون حكومة، ولا برلمان، ولا رئيس جمهورية. وربما على دول الشرق الأوسط، أولاً، ترك الشعارات السياسية الكبيرة، والنظر الى التعاطي الراسخ والبسيط مع الديموقراطية في إسرائيل، واتخاذه مثالاً. فأي أزمة سياسية في إسرائيل تنتهي باتفاق على حل البرلمان والحكومة وإجراء انتخابات جديدة. والإسرائيليون، في أشد أزماتهم السياسية والعسكرية، يحملون الانتخابات على نهاية الجدال السياسي. وهذا مشروع للحل قد يساعد على خروج لبنان من الانسداد السياسي. وإلاّ فمصير غزة ينتظر لبنان كله. وهو مصير لا يمكن اللبنانيين، ولا الآخرين، تحمله، والسيطرة عليه. عن فرزانه روستائي،"اعتماد"الإيرانية، 14/5/2008