تحت رعاية سمو ولي العهد.. انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العالمي الثامن والعشرين للاستثمار في الرياض    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    «كل البيعة خربانة»    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل ما زالت عيون أغاتا كريستي وليوبولد "الأسد" وماسينيون صادقة ؟ . بغداد الحية بعد غزو المغول تنتظر التخلص من هستيريا الكلام الطائفي
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 2008

في عشرينات القرن الماضي لم تكن بغداد بعيدة عهد عن السيطرة العثمانية بعد أن تسلمتها الإدارة العسكرية البريطانية في 1917، أي أنها كانت واقعة بين احتلالين وقد زارتها الروائية اغاتا كريستي التي تزوجت من الاثاري ماكس مالوان الذي عمل في خرائب أور ثم عملت معه في الآثار واتخذت من منطقة العلوية مكاناً لإقامتها بناء على نصيحة تلقتها من امرأة أوروبية وانتقلت بعد ذلك إلى فندق في شارع الرشيد قرب نهر دجلة.
لم تكن المنطقتان متباعدتين في ما بينهما، فالرصافة لم تكن أوسع من حي واحد من أحياء ضواحي بغداد الحالية ولكن ملاحظاتها عن العلوية جاءت مختلفة كلياً عن شارع الرشيد والحارات المتفرعة من حوله.
أنهما مركزان لمدينة واحدة لا علاقة لأحدهما بالآخر بحسب انطباع الروائية الشهيرة، ففي الفصل المعنون"ربيع ثان"من كتابها"an outobiography"تسجل ما يأتي:"كان الناس في - العلوية - كرماء جداً معي. لعبت التنس، ذهبت إلى السباقات، شاهدت معالم المدينة، وأخذوني إلى الدكاكين والمحلات، كنت أحس كما لو إنني في انكلترا. جغرافياً أنا في بغداد، وروحيا لا أزال في انكلترا، في حين إن غايتي من السفر هي الابتعاد عنها ورؤية بلد آخر. لا بد إذن من أن افعل شيئاً ما".
نزلت كريستي بعد ذلك في فندق"تايغرس بالاس"واستطاعت التوصل إلى ملاحظتها القاطعة:"إن بغداد - على رغم الحياة الاجتماعية في العلوية - أول مدينة أراها تحمل طابعاً شرقياً أصيلاً، إذ يمكنك أن تترك شارع الرشيد كي تنحدر عبر تلك الأزقة الصغيرة الضيقة المؤدية إلى الأسواق، سوق الصفافير حيث يقرعون ويطرقون والتوابل المكدسة من كل الأنواع في سوق التوابل - الشورجة".
كانت عاصمة العراق الحديث تتمركز بكثافة حول المنطقة الثانية التي ذكرتها الروائية وهي مقر الحكومة الجديدة وبقايا أسوار بغداد والنشاط الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في حين ظل جانب الكرخ الذي هو بغداد المنصور، مرتعاً للحياة الشعبية التي كانت تتعرض رويداً رويداً لتدخل الحكومة وما يصاحبه من تغيير، والذي انفجر عمراناً في الخمسينات وبعدها حول قصور العائلة المالكة قصر الزهور، الرحاب، القصر الرسمي الذي اتخذ قصراً جمهورياً في ما بعد ومزارعها ومعسكر الوشاش ومصفاة النفط في الدورة وإدارة السكك الحديد في الصالحية والشالجية.
حين فكرت الروائية بمغادرة بغداد للمرة الأولى وضعت خطة للعودة إليها لذلك لم تشعر بأسف شديد، بيد إن رحلاتها داخل العراق"كانت مقدمة لنوع شاق من الحياة".
ولا تكفي ملاحظات كريستي الحضرية عن بغداد لإعطاء صورة واقعية بالتمام، ففي السنوات التي أعقبت الاحتلال البريطاني كانت المدينة متأثرة إلى حد كبير بالحياة السياسية، ولو أخذنا نموذجاً واحداً من تلك الفترة وفي الشورجة نفسها وبعين أوروبي آخر معنيّ مباشرة بالسياسة لتقدمنا خطوة نحو مؤشرات الحياة اللاحقة، فقد مر ليوبولد فايس اليهودي النمسوي الذي سمي"محمد أسد"بعد إسلامه، بالشورجة في عام 1924، وبالضبط أثناء الاضطرابات التي نجمت عن توقيع معاهدة التحالف، وشهد الصدام المسلح بين الجنود البريطانيين والمحتجين على المعاهدة، ولم ينج إلا بمصادفة، وأستطيع هنا أن انقل سطراً واحداً من كتابه المؤثر"الطريق إلى مكة":"وها هي ذي امة يائسة تحاول أن تدافع عن نفسها"كان يوم الثلاثين من أيار مايو دامياً، فقد سقط الكثيرون قتلى لإطلاق النار من دون تمييز.
أما وصف"محمد أسد"لسكان بغداد فينطوي على ضبط للمفارقة آنذاك، فقد كانت الوجوه المظللة بالكآبة وقوة كراهية الدولة الأجنبية، سرعان ما ترتدي منظراً مختلفاً حين تكون بعيدة عن المحتلين، وتدخل إلى الأزقة الجانبية الضيقة"ذلك انك إذا أنعمت النظر فيهم عن كثب، تبين لك أنهم لم يكونوا خالين من الفتنة، لقد كان أهالي بغداد يضحكون أحياناً كما يضحك غيرهم من العرب..."الملاحظة الخيرة لمحمد الأسد، وان كان بودّي اطلاع القارئ على تفاصيل وصفه، تتعلق بالوضع العمراني آنذاك:"إن ما بقي من بغداد لم يكن سوى مدينة موحشة كئيبة من مساكن بنيت اعتباطاً من الطوب، ويكاد يخيل للمرء إن ما يراه تدبير موقت بانتظار تبدل ممكن الوقوع". ورأى النمسوي المسلم، والذي عمل مع الملك عبدالعزيز آل سعود، وصار وزيراً مفوضاً لباكستان في هيئة الأمم عام 1952،"إن التبدل كان آخذاً بالحدوث بشكل حقيقة سياسية".
إن معظم الأوصاف ذات الطابع الأدبي الحميم والتي دبّجها عراقيون أيضاً تنم عن تعلق أبناء بغداد بمدينتهم، مع ما يشوب ذكرياتهم بين آونة وأخرى من رثاء أو عدم رضا يصل حد الهجاء، وكل ذلك يكشف عمق التطلعات الحضارية والإنسانية والوطنية، لكن السلام الأهلي لم يكن مفقوداً على كل حال، بفضل التكافل الاجتماعي الذي لم تعتوره حوادث كبيرة كالتي وقعت أثناء العهد العثماني، والذي يظهر إن تماسك المجتمع البغدادي في صورة الحياة اليومية لم تعكره سوى مخالفات طفيفة إذا ما قورنت بحجم ردود الفعل السياسية، وكما يورد أحد رجال الشرطة، فان عمله في بغداد، صادف حادثة سرقة وبعض التحريات والتحقيقات مع"بنات الهوى"في الوقت الذي كان العراق منذ 1929 وهو العام الذي التحق فيه بالشرطة بعد تأسيسها مباشرة مسرحاً للعنف العشائري المتبادل طولاً وعرضاً والذي اختصت به الشرطة العراقية بينما اخذ الإنكليز على عاتقهم مهمة الأمن السياسي عبدالجبار عباس الجسام - 30 سنة في الوظيفة.
آخر حدث مدني عثماني في بغداد
زال سوق الحيدر خانة من الوجود بعد أن فتح الأتراك شارع خليل باشا سنة 1916 شارع الرشيد في الوقت الحاضر هكذا يتمتم كامل الجادرجي، الزعيم السياسي البارز في التاريخ الحديث للعراق، وحين أراد وصف الطريق المؤدي إلى العائلة قبل ذلك العام استدرك لأنه ذكر في دليله إن على الماشي أن يسلك خطاً مستقيماً فقال:"إذا جاز هذا التعبير فلم يكن يوجد في الحقيقة طريق مستقيم في بغداد مهما كان قصيراً"اذن، كان شارع الرشيد هو الطريق المستقيم الوحيد آنذاك، والذي، لكي يمتد زهاء ثلاثة كيلومترات بين الميدان والباب الشرقي، كان يجب أن يستولي على العديد من المباني والمنشآت والمساكن والأسواق وقد سبب ذلك مشكلات مع الأهالي، وهنا فإن ذكريات كامل الجادرجي، لها قيمة إضافية، لان أخاه رؤوف الجادرجي له علاقة مباشرة بذلك، ففي الفصل المعنون"الإنكليز وإبعادنا عن العراق"من الكتاب المسمى"من أوراق الجادرجي"والذي جمع بعد وفاته، يسرد إن أخاه"غادر بغداد قبيل سقوطها بيد الإنكليز إلى الآستانة ومنها إلى برلين بحجة الاطلاع على تنظيمات المدينة بصفته رئيساً لبلدية بغداد وتخلصاً من الوضع الذي نشأ من جراء فتح الشارع العام - شارع الرشيد - الذي فتحه الأتراك... فهدموا من اجل ذلك كثيراً من الدور والمنشآت من دون أن تعوض البلدية أصحابها أموالاً نقدية بل اكتفت بإعطائهم سندات بقيت إلى النهاية ديناً بذمتها، وقد سبب ذلك العمل استياء بالغاً لدى أصحاب العلاقة وغيرهم...".
كانت المنطقة التي اكتسحها شارع الرشيد جزءاً من التكوين الأساس للمدينة، لكن هذا الشارع اعتبر في ما بعد مركزاً مستطيلاً للحداثة الحضارية إضافة إلى تمثيله لطابع مدينة شرقية، أما ما حوله فقد بقي على ما كان عليه وظل محيطه متشعّباً من الناحيتين المعمارية والسكانية والوظيفية، فقد انتشرت خلفه من الجانبين المعامل وورش الصناعات الجلدية والنسيج وتفرعت منه أسواق أشهرها الشورجة، والصفافير، ودانيال للأقمشة والسجاد وسوق السراي للصاغة والقرطاسية...
بدأت المدينة التقليدية تتعرف إلى نفسها مجدداً، مع حسرة لم تدم طويلاً، فقد كان التعويض قوياً، حيث الشعور بالقابلية على مسايرة الحداثة لدى السكان، ساعدهم على ذلك التكرار والتناظر المعماري على حافتي الشارع بوساطة الأعمدة التي تتوج رؤوسها الكؤوس المقلوبة، مع التكامل المفاجئ للشارع الذي كان يستدرج المارة خطوة فخطوة قريباً من"العلوية"التي تكرر موديلها في الضواحي الناشئة في ما بعد، لكن سكان تلك الضاحية وطابعها"الأوروبي"لم يمكن استنساخهما، بسبب تغيير السكان، فاليهود والمسيحيون الذين شكلوا"العلوية"لم يعودوا مستقلين كما كانوا.
وتكررت التجربة الإجرائية مرات عدة في مناطق سكنية أخرى من بغداد القديمة إلا إن المضمون صار شيئاً آخر، فشارع الرشيد كان مدينة بالكامل، من الممكن لسواد الناس أن يولدوا ويعيشوا فيه حتى الموت من دون الحاجة إلى مغادرته، فالأسواق والمساجد والفنادق والمقاهي والمطاعم والمدارس والحمامات ودور السينما والمكتبات والمطابع والحانات ومنازل المسرات الخ... كلها موجودة مع القاطنين من الأهالي، فهو مكان للأحياء وحدهم لأنه يفتقر فقط إلى مقبرة.
أشبه بأكسفورد
عملت الحكومات بعد العهد الملكي على تهشيم أجزاء أخرى من بغداد، فافتتح شارع"الجمهورية"، عريضاً ومحاذياً للرشيد، لكن لا يمكن المقارنة بينهما، ثم في الحكم الثاني ل"البعث"تم العبور إلى بغداد المنصور في الكرخ واقتطع ثلثا المنطقة في شارع حيفا ذي العمارات السكنية العالية، والتي لم يتمكن السكان الأصليون من استيطانها، واضطروا إلى التشرذم.
منذ حرب 1991 ظهرت هشاشة الحداثة في شارع الرشيد وشيئاً فشيئاً تحول بعد الاحتلال 2003 مسرحاً لفوضى الحركة ومكباً للنفايات ومقراً للسراق الصغار والكبار. ولكن بقايا من أجزائه القوية ثبتت كأنها تدافع عن ارث ومصلحة.
رقابة"أخلاقية"
لم يفضِّل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أن يسكن مع الأب انستساس ماري الكرملي تحت سقف واحد حين وفد على بغداد في بعثة آثارية 1907- 1908، وكان له من العمر 24 سنة، واستقل بدار احمد آغا في الحيدر خانة، التي ربما صارت بعد سنوات ضمن جادة خليل باشا شارع الرشيد قريباً من أستاذه محمود شكري الألوسي، وقد أنجز آنذاك عدداً طيباً من الملاحظات، وما يعنينا هنا هو تعليقاته على لهجة بغداد العربية المنشورة عام 1912 والتي ترجمها إلى العربية الدكتور أكرم فاضل 1962 في 80 صفحة، وانتقد لا مركزية اللهجة، واعتبر ذلك في غاية التعقيد إلى حد كونها مشكلة لغوية ليس هناك من طريق إلى حل غموضها، وكان ينصح باللغة الموحدة، وقد يكون ذلك إرهاصاً بالروح الأبوية للاستشراق الفرنسي الذي نعاه في الأخير جاك بيرك، المستشرق الهيغلي إذا جاز التعبير.
في الحقيقة، كانت ملاحظات ماسينيون ملهمة لأكثر من ناحية، وما يهم هنا هو وصفه للطابع اللغوي المميز بين مسلمي بغداد من السنة والشيعة في مناطق معينة، مع استطرادات عن الحي اليهودي ومحلات النصارى، وقد قسم لهجات أهل السنّة إلى مجموعتين، الأولى: متزمتة وكثيرة الانطواء لذلك فإنها آيلة إلى الانقراض الاعظمية والحيدر خانة والأخرى: كاملة الحيوية وتحتفظ بشباب اللهجة التام محلة باب الشيخ لأجناسها المتعددة. أما المجموعة اللغوية المتميزة فهي للشيعة الهيتاويين المحيطين بجامع المصلوب، وهذه المجموعات كلها تقع في جانب الرصافة حيث نزل ماسينيون قريباً من مقر حكومة الولاية. ويعلق باحث فولكلوري قائلاً إن المستشرق"حين وزع مسلمي بغداد على سنة وشيعة، إنما عكس وسجل - بصدق - ما كان عليه الواقع البغدادي في شيخوخة الدولة العثمانية التي كانت تقتات وجودها تحت ظل الشقاق الطائفي، وماسينيون على رغم التعايش الأدبي الذي كان قائماً بين شعراء ومفكري الشيعة والسنة آنذاك، فانه أصر على تشقق اللهجة الدارجة بين الطائفتين المذكورتين وهذا ما لا نقره عليه.. لأن أية محلة لم تكن سنية خالصة ولا شيعية خالصة وإنما هي مزيج من هؤلاء وأولئك"عبدالحميد العلوجي - من تراثنا الشعبي - بغداد 1966. قد يكون هناك ضعف في عمل ماسينيون التقني، ولكن الضعف واضح في المأخذ على أساس التصنيف الذي اعتمده المستشرق، فاللهجة العامية ليست لغة النخبة، كما إن التعدد ليس عدوانياً، عدا أن تغلب لهجة ما في منطقة ما لا يعني إن مستخدميها متجانسون تماماً من جميع النواحي. إن انتقاد العلوجي للتصنيف يمثل نوعاً أخلاقياً للرقابة الاجتماعية التي كانت تشعر بالإحراج إزاء التداول المعلن للطائفية سواء صدر من مواطن عراقي أم من شخص غريب، كأنما يكون المرء إزاء خطر نائم لا ينبغي إيقاظه لأي حجة كانت حتى وان كانت"علموية"، والواقع إن هذا الصنف من المشكلات لا يمكن التستر عليه إلى ما لا نهاية، وخصوصاً في المنعطفات السياسية الحادة، كالذي حصل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبدايات تشكيل العراق الحديث ثم بعد 2003. كما إن إعادة اكتشاف الواقع بكل أعماقه وظواهره لا يعني بالضرورة، أو حسب الخصائص المباشرة، تدميراً للذات الجماعية، ووفقاً لمعلومات وتحليل كامل الجادرجي زعيم"الحزب الوطني الديموقراطي"وسليل عائلة الموظفين الموسرة وذات النفوذ إبان الحكم العثماني، فان الوضع الطائفي المخل بالتوازن كان مقصوداً جانب العثمانيين حين اعتبروا الشيعة أقلية منبوذة وقد دفعت هذه الطائفة ثمن ذلك في بدايات الحكم الوطني ووجدت نفسها هامشية في الوظائف والتعليم والجيش وحاول فيصل الأول متحمساً أن يرد المظالم بسرعة، بينما عمل الإنكليز بعد ثورة العشرين على دق إسفين الطائفية بين مسلمي العراق العرب، وحصل سباق مع الزمن والكفاءة، لملء الوظائف، وقد وصف الجادرجي ذلك في دراسة واضحة، ولكنها غير موثقة، بعنوان"نظرة في تكوين حزبي نوري السعيد وصالح جبر"ضمّنها وصفاً لشخصية صالح جبر واختارها لتكوين نموذج للطائفية عبر تشجيع الإنكليز، والظروف الموضوعية، وختم الدراسة بملاحظاته عن مستقبل الطائفية وهي ملاحظات مثقف حزبي له تطلعات مواطن لا تنتقصه هوية فرعية، وبدأ ملاحظاته بأن الطائفية آخذة بالانكماش بانتشار التعليم وتكافؤ الفرص الذي هو اعتقاد أكثرية العراقيين، كما ان أفراد العشائر يهمهم بالأساس أداء واجباتهم الدينية من دون أن يخلطوا ذلك بالقضايا السياسية التي هي، بحسب اعتقاد الجادرجي، السبب المحرك للطائفية. وأخيراً فان مهنة الطائفية تتولاها فئة انتهازية لكن العلاج الجذري للطائفية السنية والشيعية هو"إحلال النظام الاشتراكي وجعله أساساً للحكم في هذه البلاد"من أوراق كامل الجادرجي.
إن تحليلات الجادرجي تتجاوز بغداد إلى عموم العراق، وللأسف ليس معلوماً تاريخ كتابة هذه الملاحظات، بيد إن مضمونها ما زال يؤخذ مأخذ الجد لدى العديد من العراقيين خصوصاً ذلك الجزء المتعلق بمنشطات الطائفية.
إن التاريخ القديم والحديث بصفته تاريخاً قد يمتنع على التبسيط، ولا بد من اخذ عوامل إضافية فعالة، كالسياسة وتخلخل الانتظام الاجتماعي وإلا فان الرمزين البارزين السني والشيعي في بغداد، وهما: أبو حنيفة وموسى الكاظم لم يكونا متقاطعين من جهة السياسة، وحين مات أبو حنيفة على الأغلب في السجن العباسي وكان على صلة طيبة بجعفر الصادق، أبي موسى الكاظم، لم يكن مصير الثاني مختلفاً على يد العباسيين وربما لأسباب ليست متباعدة كما قد يبدوان الآن لبعض أتباعهما.
ليست خاتمة
اتخذ الرسام والمعلق النظري شاكر حسن آل سعيد من سلسلة لوحات جواد سليم البغدادية، خلفية لخواطره عن بغداد وقد بعثت عام 1965 حين نشرها شيئاً من النشوة النثرية التي كانت نادرة قبل ذلك التاريخ، على ما اعرفه أنا وسماها"بغداديات"وكانت مقاطع خواطره... تبدأ بالحالة الجنينية للمدينة، ثم تدخل الأسواق وتسير في الطرق لتنتهي ب"اللوعة والضيافة"والمقصود تقبّل الآخر.
إنني أسير باتجاه الجملة الأخيرة القائلة:"وفي قلب البغدادي... تستقر بغداد".
لا تختلف ريشة الرسام عن قلمه فهذه المدينة التي بقيت حيّةً بما يشبه المعجزة بعد غزو المغول 1258 تستحق أن يكون لها بغداديٌ موحد بها، وبالفعل فان الكوارث قد دفعت إلى التماسك الاجتماعي في النهاية وإذا وقعت بيد القارئ بعد ذلك الغزو قصيدة سعدي الشيرازي في رثاء عاصمة الخلافة، فانه ولا شك سيسدل الستار على الصورة، وفي عام الفيضان 1954 استمات سكان بغداد من اجل أن تبقى، وحين أراد بعض الكتاب تنشيط الطائفية بأقلام مشحوذة شحذاً، لم يستجب الجمهور لا لمقالات محمود الملاح في جريدة"السجل"ولا لغيرها، فقد كانت الأحزاب مهيأة لانتخابات المجلس النيابي ثم لتداعيات حله بعد النتائج، واستطاعت الحياة الحزبية التي سبقت 1958 ان تستوعب الشرائح المختلفة حول برامج سياسية، قومية وديموقراطية واشتراكية، الخ، كما ان النقابات المهنية والاتحادات السرية والعلنية، استطاعت تمثيل منتسبيها طبقياً ومهنياً، عدا ان التساكن المشترك طائفياً واجتماعياً وقومياً ودينياً لعب دوره في التماسك الشعبي يضاف إليه التزاوج بين أبناء القوميات والطوائف والترحل العشائري من السنة إلى الشيعة، وهذا العنصر الأخير ظل صمام أمان"طبيعي"، ذلك إن العشائر السنية هي التي انفصل جزء منها إلى المذهب الآخر في الغالب وكان اقتسام العشيرة الواحدة لمذهبين يخفف أي احتقان محتمل، عدا ذلك فان نزاعات العشائر لم تكن طائفية بل كانت بين عشائر الطائفة الواحدة ولم نعرف عكس ذلك.
إن الأسواق والتجارة والمدارس والجامعات والأحزاب والنقابات، هي صور يومية للمواطنة الاجتماعية المتماسكة، أما الأعياد والمآتم وشعائر النذور والفولكلور الديني وغيره فقد كان ذلك كله يمارس، وخصوصاً عند النساء والأطفال والشبّان على انه النسغ الذي لا يتوقف لحياة مدنية متواصلة.
بعد الحكم الوطني اتسع تنوع الشرائح الاجتماعية، وخصوصاً فئات الطبقة الوسطى من الموظفين وصار للوقت الاجتماعي دور بارز في ترقية النشاط العام، فالمعلمون والطلاب والجيش والشرطة والأطباء والقضاة والمحامون والمهندسون والإداريون والفنانون أسهموا في إغناء مظاهر المدينة، من السكن والذوق وتزجية أوقات الفراغ بهوايات جديدة إضافة إلى الأزياء والأثاث والتخاطب اللغوي وثقافة السفر وحياة الليل التي أخذت بالانفتاح حتى وصلت الأمور إلى درجات متقدمة حين بدا الحكم الثاني للبعث عام 1968. إن النخب الثقافية كانت تمتلك نوعاً من الحصانة الاجتماعية ممثلة بالاحترام خصوصاً كتّاب الصحافة والشعراء ورجال الدين ومؤلفي الكتب وبعض فئات الموظفين الخ، وأصبح من الواضح تسارع وتيرة فارق الأجيال.
بدأت بغداد بالاتساع منذ المشاريع الاقتصادية الأولى وصار فيها عدد من المراكز الحضرية، فحول مصفى الدورة سكن الموظفون والعمال في بيوت خاصة، كما ان دائرة السكك الحديد أسكنت منتسبيها قريباً من المحطة العالمية في الكرخ وتمت الهجرة العشوائية الأولى في نهاية الأربعينات إلى المنطقة التي عززها عبد الكريم قاسم باسم"مدينة الثورة"والتي تداولتها الأسماء إلى"مدينة صدام"وأخيراً"مدينة الصدر"وهي كتلة سكانية ذات تجانس طائفي إلى حد طاغ ويغلب عليها الطابع العشائري لأهالي جنوب العراق كما لبى قاسم مطالب ضباط الجيش في الإسكان بمناطق خاصة، وبدت ضواحي بغداد في اغلبها أحياء موزعة على الموظفين بشكل منتظم وغير خاضع للهويات الدينية والقومية والاعتبارية. لم تعد المدينة تنمو نموها التلقائي من خلال الجيرة والحاجات الاجتماعية والتطلعات الاقتصادية للأفراد بل اصطبغ توطين الموظفين الكثيف وتشجيعهم بالقروض بصبغة"الهجرات"إذا جاز التعبير، ولم يعد سكان بغداد الأصليون يشكلون نسبة مؤثرة، بل حصل العكس إلى درجة اختلاط العاصمة بالريف من جميع حدودها، وأثناء الحرب العراقية - الإيرانية 1980- 1988 وبعدها لم يكن من السهولة التعرف إلى شخصية المدينة سواء من الناحية البشرية أو من نواحي النشاط العام فقد طغى العسكريون على الحياة اليومية وزاحمهم العمال الأجانب من العرب وغيرهم الذين عوضوا المواطنين الملتحقين بصفوف الجيش، أما الحياة السياسية فقد اقتصرت على حزب واحد وتغلغلت العقائد التعبوية في أدق المفاصل، لكن حملات الإعمار استمرت خلال السنوات الأولى للحرب فأنشئت الطرق السريعة، وفي الهوامش الكثيرة للحرب صعد الى السلم الاجتماعي والاقتصادي الضباط والمقاولون والتجار، وازداد ذلك خلال سنوات الحصار، إلا إن الحياة اليومية للطبقة الوسطى ظلت تتراجع واضمحل معها الأثر الذي أحدثته منذ نشوء الدولة الحديثة.
ومن الممكن القول إن الحياة اليومية لمجتمع بغداد ما زالت متماسكة على كونها مختزلة ومضغوطة، وان عمليات الإسكان حسب الوظيفة في الحكومة ساعدت على تخفيف التوتر الذي صاحب الاحتلال الأميركي مع حالات من فقدان التوازن في ردود الفعل الطائفية على وجه خاص، وليس من السهل التأكد من رصانة البناء الاجتماعي في ظرف يشعر فيه الناس بمن فيهم القيادات أنهم اكبر من الحريات في الوقت الذي لا يبرهنون فيه إلا على كونهم اصغر بكثير من موضوع الحرية وأبعد عنها.
ويحق للبغدادي ذي الأصول المتنوعة أن يقلق ويسأل نفسه والآخرين: هل من الواقعي الرهان على حقائق الماضي التي اختبرت في ظروف مختلفة للحديث عن اشكالات الحالة القائمة أم إن شوطاً جديداً سيبدأ دونما حاجة إلى الرصيد المجرب؟ وهل ما زالت عين الغريب صادقة؟ عين أغاتا كريستي في العلوية؟ أم عين محمد أسد وهو يرصد سحنات ابن البلد المزدوجة؟
وهل تستطيع خرائط الطيارين أن تكون دليلاً ينجد السابلة في دروب بغداد؟
وأخيراً هل ستفلح الأحزاب التي يتصف أكثرها نفوذاً الآن بقلة الاكتراث الوطني، في إضفاء الطابع الاستراتيجي على هستيريا الكلمات الطائفية التي أخذت تشيع بعد احتلال 2003 باعتبارها المسكوكات الناجحة لتداول السلطة وفرض أطلس معتم يضايق أهالي العاصمة الظريفة الذين يتذمرون من واقع لم يكونوا ينزعجون من مساوئه إلى الدرجة التي بدأوا فيها حالياً يحسبون ألف حساب لنوازله العمومية، وهم يرون أنفسهم ومحيطهم على غير الشاكلة التي عهدوها والتي أملوا فيها أيضاً؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.