حين قال الشاعر العربي قديماً: حتى على الموت لا أخلو من الحسدِ ! كان يبدع آنذاك صورة مذهلة ومغايرة للمألوف، وبالتالي صلحت أن تكون صورة شعرية أخاذة، أن يُحسد الإنسان حتى على موته. الصورة هذه لم تعد الآن شعرية بما فيه الكفاية، فالبذخ والشكلانية اللذان بلغتهما المجتمعات الإنسانية الآن أصبحا لا يتصرفان حيال الموت كموعظة أو نهاية مطاف أو محطة توقف. الموت الآن ليس كل تلك الأجواء السوداوية أو الراعشة، لم يعد الموت محطة توقف، بل هو محطة تغيير ملابس! لماذا أصبح الموت جزءاً من البرنامج الاعتيادي للإنسان، تسبقه فقرات كثيرة وتعقبه فقرات أكثر، بعد أن كان في زمن مضى هو الفقرة الأخيرة؟! لم يعد الموت نهاية الحياة كما كان، بل هو الآن جزء من الحياة، هو إحدى فعاليات الحياة. كيف استحال الموت إلى حدث دنيوي مثل: التخرج والترقية والزواج والسفر والاستثمار؟ هل هذا التحول بسبب كثرة الموت الرخيص... بدم بارد أو حتى من دون دم؟! هل هو بسبب الولوغ البروتستانتي في إناء الرأسمالية الشهي والمشوق واللامنتهي؟ تتعاظم الشهوات البشرية يوماً بعد آخر، حتى يكتشف الإنسان أنه يعيش في منظومة شهوة تامة يسميها الحياة. وعندها يصبح الموت جزءاً من هذه الشهوة بعد أن كان مرشداً لها. يصبح الموت عملية استثمارية يتم إدراجها في المحفظة الرأسمالية الفعالة. عند الموت... تنشر إعلانات التعازي بصيغة تكفل أفضل مردود تجاري للاستثمار في مشاعر العزاء. لا أحد رأسمالياً يقبل بصرف آلاف الدولارات أو الريالات اليوم للتعبير عن مشاعره... وبالذات مشاعر الحزن، قد يفعل ذلك على مشاعر الفرح والبهجة والمتعة، لكن مشاعر الحزن لا تستدعي كل هذا البذخ والهدر، فلماذا تصرف أموال طائلة في موقع تغني عنه دمعتان؟! وحين قيل: حتى على الموت لا أخلو من الحسد، فهي أصدق ما تكون الآن في مراتب ومقامات الموت، فليس كل موت موتاً، وليست كل الجنائز سواء، وليست كل مجالس التعازي واحدة. في السنة النبوية الشريفة حث على صنع الطعام لأهل الميت لأنهم شُغلوا عنه بما هو أهم. كان مجتمعنا يطبق هذه السنة الرحيمة بكل بساطة وعفوية وحميمية ترقق أحزان ذوي الميت وتخفّف فجيعتهم. ثم تطورت الفعالية وأصبحت لا تقتصر على ذوي الميت وصانعي الطعام فحسب، بل أصبح صانعو الطعام وهم في الحقيقة جالبوه، في عصر الخدمات! يدعون ضيوفاً فاخرين من المعزين لحضور العشاء، ثم تضخمت المشاعر الرأسمالية فأصبح يقام حفل عشاء فاخر بوفيه مفتوح! بمناسبة"الحزن"على وفاة فلان! ليس جديداً بالطبع أن تتركّز مظاهر البذخ والتنافس هذه في المكان المخصص لعزاء السيدات! آخر الصرعات المقززة التي لم يخطر في البال أنها ستتحقق بهذه السرعة، هو ما قامت به إحدى سيدات المجتمع السعودي أخيراً بطباعة"بطاقات دعوة"إلى نخبة من سيدات المجتمع لحضور حفل عزاء ابنها الفقيد... رحم الله أمه! كانت ليلة عزاء بهيجة، حفلت بنخبة من السيدات المرموقات، مجلوبة بتشكيلة رائعة من الأزياء المتنوعة، وآخر صرعات ماكياج الحزن / المفرح، كما أثرتها تشكيلة من أصناف الطعام المتنوعة من المطبخ الهندي والإيطالي والعربي بالطبع. كانت، بإيجاز، ليلة حزن سعيدة، تفرّق المعزون بعدها وهم يتمنون أن يزداد عدد المتوفين من هذه الأسرة الفاخرة، حتى يحظوا بمثل هذه الليلة البهيجة من الحزن! في الغد، بالطبع سيتحقق الهدف المنشود، وسيصبح حفل عزاء تلك الأسرة المخملية هو مدار حديث النسوة. هل كان عزاؤهم باهتاً يضيّق الصدر مثل عزاء عامة الناس، أم كان مختلفاً ومغايراً وأنيساً؟! لا أحد يطلب من المعزين أن يأتوا إلى بيت العزاء كي يمضوا الوقت في البكاء، فبكاء أهل الميت وحزنهم يكفيهم، ولا حاجة لأن يستضيفوا أحزان الآخرين معهم، ولم يُشرع العزاء لتأجيج الأحزان بل للتخفيف والسلوان. لكن من دون أن يتحول ذلك إلى ليالي سمر وبذخ واستثمار وعلاقات عامة وعقود وصفقات، تُشرب بعدها كؤوس العصير في نخب الميت! هل أنت مدعو الليلة إلى حفل عشاء فاخر أم إلى حفل عزاء فاخر؟! لا تقلق، فلا فرق كبيراً بينهما سوى الجنازة... جنازة"الحي"! * كاتب سعودي