"الصراع على سورية" كان ما وقع عليه اختيار باتريك سيل كعنوان لكتابه المنشور العام 1965 والذي أصبح من أهم الكتب التي تناولت تحليل التطورات الداخلية والخارجية المحيطة بسورية خلال الفترة من 1946 - 1958 وانتهت باندماجها مع مصر في دولة موحدة بإعلان قيام"الجمهورية العربية المتحدة"في 22 شباط فبراير العام 1958. غير أن الأحداث اللاحقة كشفت أن هذا العنوان الدقيق كان نوعا من النبوءة المبكرة لوصف حالة محددة تعكسها خصوصية وضع سورية الإقليمي ونمط تفاعلاتها مع البيئة الدولية المحيطة، وأن هذه الحالة قابلة للتجدد والتكرار. فالصراع على سورية، والذي بدأ في الواقع منذ الحرب العالمية الثانية، لم يكن نتاج أوضاع ظرفية أملتها مرحلة تاريخية معينة، ولكنه يبدو الآن وكأنه نمط عام يميز خصوصية الحالة السورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية. وتلك ظاهرة تحتاج على أي حال إلى تأمل عميق. فكثيرا ما أدت الأحداث العالمية والإقليمية التي تهب على المنطقة منذ أكثر من ستين عاما إلى تحويل سورية إلى"رمانة ميزان"في أوقات مفصلية دقيقة تمكنها من التحكم في خيارات المنطقة في ترتيب البنود المدرجة على جدول أعمالها وفي تحديد وجهة وسرعة الأحداث المتجمعة في سمائها. وأظن أن المنطقة تمر الآن بمرحلة من هذا النوع في ظل الصراع المستمر والمتجدد على سورية. كانت سورية قد استطاعت قبل الغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003 أن تصبح رقما فاعلا في عدد من المعادلات والتوازنات الجديدة التي استقرت في المنطقة في مرحلة ما بعد كامب ديفيد الأولى وثورة إيران إلإسلامية والحرب العراقية - الإيرانية. فقد سمحت لها هذه المعادلات بتدعيم نفوذها في لبنان ثم الانفراد بعد ذلك بهذا النفوذ، وبالمشاركة مع قوات التحالف في حرب تحرير الكويت، وكذلك بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام. غير أن سورية رفضت في الوقت نفسه أن تضع بيضها كله في سلة واحدة، وراحت توظف علاقاتها الودية المتنامية بكل من واشنطن وإسرائيل للإمساك بخيوط أخرى تمكنها من الإبقاء على كل خياراتها مفتوحة، ولم تسمح لأحد بدفع ظهرها نحو الحائط، خصوصا بعد قبولها التفاوض المباشر مع إسرائيل بحثا عن تسوية تمكنها من استعادة أراضيها المحتلة العام 1967. هذا الحرص على الإمساك بخيوط أخرى هو الذي دفع سورية في الواقع لمعارضة اتفاقية أوسلو، برفق ولكن بوضوح وصراحة، بعد أن فوجئت بإقدام ياسر عرفات على إبرامها عام 1993 من دون أي تنسيق مسبق معها، وهو الذي دفعها للحرص على عدم القطيعة مع إيران والإبقاء على علاقات قوية معها رغم اعتراض ايران على التسوية السلمية مع إسرائيل، وهو الذي دفع سورية أيضا للعمل على تقديم كل دعم ممكن ل"حزب الله"ولفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة. إمساك سورية بهذه الخيوط ساعدها على تحقيق عدد من الانجازات كان أهمها:1- تثبيت وضعها في لبنان والانفراد بالنفوذ فيه وربط مصير التسوية على المسار اللبناني بالتسوية على المسار السوري. 2- توثيق العلاقة ب"حزب الله"وتقديم المساعدات اللازمة له، بالتنسيق مع إيران، لتمكينه من الصمود وتصعيد مقاومته المسلحة إلى أن تمكن من دحر الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني عام 2000 من دون قيد أو شرط. 3- فتح مكاتب سياسية وإعلامية لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة لتمكينها من الصمود والاستمرار في رفض الإملاءات الإسرائيلية. ورغم ضيق الإدارة الأميركية بهذه السياسات إلا أن حاجتها الى سورية في المرحلة السابقة على غزو العراق، خصوصا بعد فشل مؤتمر جنيف العام 1999 لتسوية قضية الجولان ثم مؤتمر كامب ديفيد الثاني العام 2000 لتسوية القضية الفلسطينية، جعل واشنطن تحرص على الإبقاء على شعرة معاوية مع دمشق حفاظاً على توازنات إقليمية لا جدال في أنها تحقق مصلحة أميركية. غير أن هذه التوازنات ما لبثت أن انهارت عقب وصول اليمين الأميركي المحافظ بقيادة بوش إلى السلطة في الولاياتالمتحدة ثم أحداث أيلول سبتمبر العام 2001 ثم قرار غزو العراق واحتلاله. وهنا يمكن القول إن معارضة سورية الواضحة والمباشرة للغزو الأميركي للعراق العام 2003 كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر علاقاتها المتردية مع الولاياتالمتحدة. ولأن الجيوش الأميركية التي جاءت غازية للعراق أصبحت جارا مباشرا لسورية، فقد كان من الطبيعي أن تتغير قواعد إدارة لعبة إقليمية كانت قد أفرزتها معادلات وموازين قديمة لم تعد صالحة أو ملائمة لإدارة مرحلة ما بعد غزو العراق. وهكذا تزايد إحساس سورية بأن حد السكين بدأ يقترب من رقبتها وبدا لها واضحاً أنه لم يعد أمامها سوى الاختيار بين بديلين، الأول: التعاون مع السياسة الأميركية الجديدة لفرض تسوية بالشروط الإسرائيلية وإعادة تشكيل خريطة المنطقة بما يتناسب مع رؤية اميركا واسرائيل لعالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر. والثاني: رفض هذه السياسة والاعتراض عليها ومقاومتها بكل ما تملكه سورية من وسائل مهما كانت محدودة. والواقع أن بوسع كل من يتأمل حقيقة هذين البديلين أن يكتشف بسهولة أنه لم يكن أمام سورية أي خيار حقيقي في الواقع. فالقبول بالمطالب الأميركية، وهي مطالب لم تتغير قط من ذلك الوقت، لم يكن له سوى معنى واحد، هو قبول النظام السوري بأن يقوم بنفسه بلف حبل المشنقة حول رقبته والتخلي تماما عن أي دور أو تأثير إقليمي من دون أي مقابل. لقد ظلت الولاياتالمتحدة تطالب سورية على الدوام بقطع علاقاتها بكل من إيران و"حزب الله"وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة من دون أن تكون حتى على استعداد لأن تعطيها في مقابل ذلك ضمانا بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي السورية حتى حدود 4 حزيران يونيو 1967. ولأن سورية كانت تدرك أنها قد لا تكون هي المستهدفة مباشرة وأن الهدف الرئيسي هو إيران وسلاح"حزب الله"، وأن الإدارة الأميركية تعتقد أن الوضع قد استقر لها في العراق وبالتالي آن الأوان للشروع في تغيير خريطة الشرق الأوسط سلماً أو حرباً، فقد توقع النظام السوري أن تتعامل الإدارة الأميركية معه باستخفاف وكأنه لم يعد أمامه سوى أن ينفذ بجلده. ومع ذلك فلم يكن على استعداد للاستسلام منذ الطلقة الأولى وبدا مقتنعاً أن مرحلة جديدة من"الصراع على سورية"على وشك أن تبدأ، وأن هذه المرحلة ستبدأ حتما بمحاولة خلق المتاعب في لبنان. ومن هنا كان قرار النظام السوري بالتمديد للرئيس إميل لحود، بعكس وعود سابقة قيل إنه قطعها لقوى دولية وإقليمية. ربما لم يتوقع الرئيس بشار الأسد أن يتخذ الرئيس الفرنسي جاك شيراك من التمديد للحود ذريعة لمحاولة استرضاء الولاياتالمتحدة والتكفير عن موقفه المعارض للغزو الأميركي للعراق. غير أن هذا هو ما حدث بالفعل. وهكذا تحوّل لبنان إلى ساحة لتجربة واختبار فعالية التعاون الأميركي - الفرنسي والذي أسفر في النهاية عن قرار مجلس الأمن رقم 1559الذي كان بمثابة الطلقة الأولى في مرحلة جديدة من مراحل"الصراع على سورية"لتبدأ سلسلة أحداث درامية كبرى سقط فيها شهداء كثيرون، كان في مقدمهم الرئيس رفيق الحريري، لكنها لم تنته بانسحاب القوات السورية من لبنان. فقد تواصل الضغط لمحاصرة"حزب الله"وتضييق الخناق عليه للتخلي عن سلاحه والتحول إلى حزب سياسي. وحين لم تفلح هذه الضغوط بدأ التفكير جديا في عمل عسكري واسع النطاق بدت فرصته سانحة حين أقدم"حزب الله"على عملية عسكرية قتل وخطف خلالها عدداً من الجنود الإسرائيليين. وهكذا بدأ العد التنازلي لما أصبح يسمى بحرب الصيف في لبنان العام 2006. لم تكن حرب الصيف في لبنان، في تقديري، سوى أحد أهم فصول"الصراع على سورية"حيث كان هدفها الرئيسي خلق أوضاع عسكرية وسياسية في لبنان تفرض على"حزب الله"التخلي عن سلاحه، كمرحلة أولى تقود إلى فك التحالف بين سورية وإيران، تمهيدا لتوجيه ضربة عسكرية قاصمة لرأس الأفعى أي إيران بعد أن يكون قد تم تحييد سورية ويكون"حزب الله"قد خرج نهائيا من المعادلة العسكرية للصراع في المنطقة. غير أن الهزيمة القاسية التي منيت بها إسرائيل من جانب"حزب الله"، والتي لم يتوقعها أحد، دفعت برياح الأحداث الى وجهة أخرى. فقد راح الضغط السياسي على"حزب الله"يتصاعد من الداخل اللبناني بالتوازي مع فتح قناة أو قنوات سرية مع سورية لإغرائها على فك تحالفها مع كل من إيران والحزب، في مقابل إغرائها بالحصول على الجولان كاملة وربما عودة القوات الإسرائيلية إلى خط الرابع من حزيران، وهو ما كانت إسرائيل ترفضه بإصرار، لتبدأ حلقة جديدة من مسلسل"الصراع على سورية"بالإعلان عن قيام إسرائيل بإبلاغ تركيا رسميا استعدادها للتخلي عن الأراضي السورية المحتلة منذ حزيران يونيو 1967 والعودة إلى مائدة التفاوض على هذا الأساس وقيام رئيس حكومة تركيا رجب طيب أردوغان بزيارة معلنة لسورية لاستكشاف آفاق تحريك المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي، وهو ما أدخل"الصراع على سورية"مرحلة جديدة تماما. ويعتقد البعض أن الموقف الإسرائيلي الجديد يشكل تطورا مهما ويزيح عقبة كأداء كانت تعترض حتى الآن سبل الوصول إلى تسوية في الشرق الأوسط، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة. ففي تقديري أنه لم يطرأ أي تغيير استراتيجي على الموقف الإسرائيلي. وإذا صحت الأنباء التي ترددت عن استعداد إسرائيل للانسحاب إلى خط الرابع من حزيران على حدودها مع سورية، فالأرجح أن تعكس هذه الأنباء موقفاً تكتيكياً موقتاً يندرج تحت إطار الموقف الإسرائيلي التقليدي المتلاعب بالمسارات والذي يستهدف الضغط على كل طرف للحصول منه على حدة على تنازلات لا يستطيع تقديمها في سياق آخر. وهذا تكتيك إسرائيلي قديم ومعروف ولم ينجح حتى الآن. وحتى بافتراض وجود موقف إسرائيلي جديد، فمن الطبيعي أن يثير توقيته شكوكا عديدة. لقد جاء هذا الانفتاح الإسرائيلي"الإعلامي"على سورية في وقت بدت فيه المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية والمفاوضات الفلسطينية - الأميركية متعثرة ولا توحي مطلقا باحتمالات التوصل إلى تسوية من أي نوع على المسار الفلسطيني قبل انتهاء فترة ولاية بوش. الأخطر من ذلك أن إسرائيل سارعت منذ مؤتمر أنابوليس الى تكثيف المستوطنات في الضفة الغربية، بخاصة في المنطقة المحيطة بالقدس، من دون أن تجرؤ الولاياتالمتحدة على التفوّه ولو بكلمة احتجاج واحدة. كما جاء هذا الانفتاح في وقت تجري فيه اتصالات حثيثة بين أطراف عربية مختلفة للتوصل إلى مصالحة بين الفلسطينيين تؤدي إلى التهدئة ورفع الحصار، وذلك لتوفير جو أكثر ملاءمة للمفاوضات، ولسحب الذرائع التي كثيرا ما تتعلل بها إسرائيل للتنصل من التزاماتها أو لوقف العملية التفاوضية. ولا جدال في أن إسرائيل تستهدف من مبادرتها تجاه سورية دق إسفين بينها وبين إيران، من ناحية، ومنظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة، من ناحية أخرى، وربما بين سورية و"حزب الله"أيضا. فلن تخسر إسرائيل شيئا إن هي أوحت باستعدادها للتخلي عن الجولان وشرعت بالفعل في بدء مفاوضات مع سورية على هذا الأساس. لكن ذلك لن يكون سوى حقنة مخدرة لسورية تستهدف شغلها عما يحاك للمنطقة في هذه اللحظة الحساسة، بالتعاون الكامل والتنسيق المستمر مع الولاياتالمتحدة الأميركية، والذي قد يتجسد في حرب أميركية - إسرائيلية منسقة ومتزامنة على كل من إيران و"حزب الله". قد لا يكون بوسع أحد، على الصعيدين المعنوي والأخلاقي على الأقل، أن يطالب سورية برفض التفاوض مع دولة تقول علنا إنها مستعدة للجلاء عن أراضيها المحتلة، لكن من حقنا أن نشك في صدق النيات الإسرائيلية. وحتى إذا ثبت صدق هذه النيات فمن المؤكد أن الثمن الذي ستطلبه إسرائيل لن يكون أقل من بيع"حماس"و"حزب الله". والسؤال: هل تقبل سورية ذلك على نفسها وطنياً وقومياً؟ * كاتب مصري