مثلما بدأت الأزمة الأخيرة في أميركا اللاتينية انتهت. الفارق البارز هو ان الحكومة الكولومبية تخلصت من الرجل الثاني في تنظيم"القوات الثورية المسلحة الكولومبية"الفارك راوول رايس و20 من رفاقه في عملية عسكرية سريعة قامت بها ضد مراكزهم في شمال الإكوادور. ثم جاء اغتيال الزعيم الآخر، ايبان ريوس، بعد أيام قليلة على يد أحد رفاقه لقاء مبلغ كبير من المال، ليؤكد لمنتقدي كولومبيا أنها تملك معلومات وثيقة عن الثوار، تضعهم في حال حرجة، كما تحرج أيضاً الإكوادور وغيرها. كذلك تبرز التطورات الوضع الداخلي السيئ الذي يعيشه الثوار، خصوصاً من الناحية المالية ما يدفع قادة منهم الى الخيانة. ولا شك في أن اغتيال ريوس كان أقسى على الثوار من قتل رايس، علماً ان مصادرة الحاسوب الشخصي للأخير ساعدت الاستخبارات الكولومبية في الحصول على معلومات مهمة ساهمت في توضيح وتوثيق ظنونها بالنسبة الى علاقات جارتيها الإكوادور وفنزويلا مع الثوار. كما قادت هذه المعلومات الى كشف مكان وجود تاجر السلاح الروسي فيكتور بوت، الذي اعتقل في بانكوك وتؤكد الولاياتالمتحدة تورطه ببيع الأسلحة للثوار الكولومبيين والمشتبه أيضاً بعلاقته بعمليات أخرى، فمن خلال 36 صفحة من بريده الإلكتروني اكتشف المحققون أموراً مختلفة بينها شراء صواريخ من ليبيا ووضع استراتيجية لتحقير الحكومة الكولومبية وقبض فدية نفطية ومالية لإطلاق رهينة، وكان آخر ما كُشف في الحاسوب، مخبأ 30 كيلوغراماً من اليورانيوم المخفض يملكها الثوار، صادرتها الشرطة الكولومبية. لقد عاد السلام بين كولومبيا والإكوادور، التي تعاطفت معها فنزويلا ونيكاراغوا، بعدما أفرغ قادة هذه الدول ما في جعبتهم من اتهامات ضد بعضهم البعض خلال قمة مجموعة ريو في جمهورية الدومينيكان. من دون التقليل من أهمية جهود رئيس الدومينيكان التي أثمرت، ومن اعتراف الرئيس الكولومبي بتجاوزه سيادة جارته الإكوادور وتقديمه الاعتذار، وتعهده بعدم تكرار هذه"المغامرة"، ومن معرفة رئيس الإكوادور ضمناً بأن بلاده أصبحت ملجأ لثوار"الفارك"الذين يملكون مخيمات تدريب على أرضها خصوصاً أن راوول رايس قتل عندما كان في فراشه بثياب النوم، ومن إدراك رئيس فنزويلا هوغو تشافيز ان المشهد الذي أراد نقله على شاشات التلفزة قد انتهى وقته. وفي الواقع فإن انتهاء الأزمة سببه عدم وجود أي مستفيد منها. لكن الأزمة كشفت حجم الدور الأميركي في أميركا اللاتينية، إذ اتهمت واشنطن الرئيس الفنزويلي استناداً الى الأدلة التي حصلت عليها الحكومة الكولومبية، بأنه في الوقت الذي يتباهى بقدرته على إقناع الثوار بإطلاق سراح بعض الرهائن كما حصل أخيراً، فإنه يدفع ثمن ذلك أموالاً طائلة ويردهم أقوياء ليستمروا ورقة في يده ضد الدول التي لا ترغب بالسير وراءه، خصوصاً ضد الولاياتالمتحدة المتضررة الأولى من المخدرات والمكافحة الرئيسة لمهربيها في العالم. ومعروف ان برلمان بيرو صوّت قبل فترة على ضرورة مراقبة تصرفات فنزويلا، خصوصاً بعد تشكيلها مع بوليفياوكوبا ونيكاراغوا تنظيم"البديل البوليفاري لأميركا"للتدخل في شؤون أميركا اللاتينية. ومع أن الإكوادور لن تعيد علاقاتها الديبلوماسية في الوقت الحاضر مع كولومبيا، ربما لأسباب داخلية، إلا أن رئيسها رافاييل كورريا ونظيره الكولومبي البارو اورييه والرئيس الفنزويلي تشافيز الذي طل على الأزمة"متطفلاً"من دون أن يدعوه أحد، أكدوا أن ملف الخلاف قد أقفل. وذهب كورريا أبعد من ذلك، بقوله أن مرحلة جديدة بدأت في أميركا اللاتينية وأنه صار في إمكان العالم أن يطمئن لأنه لن تكون هناك حرب في تلك المنطقة، في حين انتقل تشافيز الى كوبا للوقوف على رأي فيديل كاسترو"صاحب الفكر السياسي الأفضل"بالنسبة إليه ولتأكيد أن"الرابح هو أميركا اللاتينية والخاسر واشنطن مرة أخرى". ربما كان أحد أكبر المستفيدين من انتهاء الأزمة على هذا الشكل، هو تشافيز"لأن استمرارها كان سيكشف قوته من جهة ويهدد استقرار بلاده من جهة أخرى. فالكولومبيون في الداخل الفنزويلي كثيرون وأقوياء وتهديده بتأميم الشركات الكولومبية في بلاده لم يزرع الخوف في صفوفهم لأنهم يعرفون أنه إذا فعل ذلك سيواجه نقمة داخلية ضده تعجل بانهيار نظامه الذي ربما يكون بدأ بعد خسارته الاستفتاء الأخير. على رغم أن محللين يؤكدون أن الأزمة جاءت لمصلحة الرئيس الفنزويلي الذي خلط الأوراق مرة أخرى ليبقى زعيم المواجهة ضد الولاياتالمتحدة. وبحسب رأيهم، فإن هذا الأمر ظهر واضحاً عندما أمر تشافيز أمام التلفزيون بإرسال عشرة ألوية مجوقلة الى الحدود الكولومبية على بعد مئات الكيلومترات من المكان الرئيس للأزمة. أما جواب كولومبيا، التي يتجاوز عدد سكانها مجموع سكان الإكوادور وفنزويلا معاً وتقارب مساحتها مجموع مساحتيهما، فجاء على لسان وزير دفاعها، الصحافي خوان مانويل سانتوس الذي قال:"لقد أعطيت الأوامر بعدم إرسال أي جندي الى الحدود. لكن الرئيس اورييه هدد في الوقت نفسه بالادعاء على نظيره الفنزويلي أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة"تمويل الإرهابيين". ومن المعروف ان الرئيس الفنزويلي يتوسط لإطلاق سراح الرهائن الموجودين لدى الثوار، حيث نجح في تحرير أربعة برلمانيين في كانون الثاني يناير الماضي، وتتهمه كولومبيا بدفع ملايين الدولارات لهم لقاء إعطائه هذا الدور وتعرف انه على اتصال دائم بهم، وقد كشفت مكان وجود راوول رايس في الإكوادور بفضل اتصال هاتفي مع تشافيز نفسه. ويدرك رئيس فنزويلا، العسكري الأصل والتفكير، عواقب هذه العلاقات ومدى"طول يد"الولاياتالمتحدة، التي تقف له بالمرصاد، في هذا النوع من المحاكم، خصوصاً أن الرئيس الكولومبي تعمّد تذكيره بمصير بعض جنرالات أوروبا الشرقية. والأخطر من ذلك ان تشافيز يجهل ما عثرت عليه الاستخبارات الكولومبية من معلومات في الحاسوب الشخصي لرايس. فالظن ان تشافيز قد تغير امر صعب. وربما كانت الأسباب المذكورة قد دفعته للاتصال بنظيره الكولومبي حيث عرض عليه لقاء للتوصل الى تفاهم كامل على جميع الأمور. أما ثوار الفارك الذين بدأوا نشاطهم السياسي والعسكري في خمسينات القرن الماضي على أساس عقيدة ماركسية لينينية فصاروا اليوم على لائحة الإرهاب في 31 دولة. انهم متواجدون في 24 محافظة من اصل 32 تتشكل منها جغرافية كولومبيا ويملكون قوة عسكرية ربما يصل عددها الى 16 ألف رجل وامرأة يتم تمويلها بواسطة تجارة المخدرات وخطف الرهائن. ولديهم في الإكوادور ثمانية مخيمات تدريب كبيرة. وتؤكد سلطات الإكوادور ان قدرتها غير كافية لمواجهتهم وهي ترغب في مساعدة الأممالمتحدة بإرسالها قوات لمراقبة الحدود لأنها تعتبر ان كولومبيا غير قادرة أيضاً على ضبط حدودها. أما السلطات الكولومبية فتؤكد انها تملك أدلة على مساهمة الثوار في الحملة الانتخابية لرئيس الإكوادور"كورريا"الانتخابية. لم تحصد"الفارك"سوى الصيت السيئ وكره المواطنين ونبذهم لها أو سكوتهم مرغمين حيث تسيطر على مساحات شاسعة من أراضي البلاد. كل ذلك نتيجة خطفهم السياسيين وإرغام بعض الشبان والبنات صغار السن على الالتحاق بصفوفهم. وبين من عاش في سجونهم سنوات عدة وزير الخارجية الحالي ووزير البيئة آنذاك فرناندو آراوخو إضافة الى سياسيين آخرين بعضهم تمكن من الخروج أو الهرب، وبعضهم الآخر ما زال يعاني السجن والمرض مثل المرشحة الرئاسية الكولومبية - الفرنسية انغريد بتانكور، التي يبذل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي جهوداً كبيرة لإطلاق سراحها خصوصاً بعدما تسربت معلومات عن حراجة وضعها الصحي. ولدى"الفارك"حتى الآن نحو 50 سياسياً وشرطياً وجندياً ومواطناً أميركياً يريدون مبادلتهم مع نحو 500 ثائر في سجون الحكومة، إضافة الى تنفيذ مطلبهم برفع الحصار العسكري عن بعض المناطق التي يكثر فيها الثوار وتجارة المخدرات. ويبدو ان أحد البرلمانيين، لويس ايلاديو بيريث، الذي أُطلق سراحه بوساطة تشافيز قبل أسابيع، بعد سبع سنوات من الاعتقال، وضع"خطة بسيطة"لإطلاق الرهائن، أعجبت الرئيس اوروييه. فهو مقتنع بأن أولويات الثوار وقناعاتهم تغيرت حيث باتوا يريدون اتفاقاً إنسانياً يفتح الطريق أمام مسيرة السلام. وربما ستساهم سوء حالتهم المادية في سلوك طريق السلام. * كاتب لبناني.