إذا سألت دارسي الحركة الصهيونية عن سر النجاحات المذهلة التي حققتها عبر التاريخ، يجيبك البعض منهم بأنه كامن في قدرتها على دمج اهدافها الخاصة بأهداف وتطلعات الحركات والقيادات السياسية في الدول الكبرى، وعلى اتباع سياسات مرحلية وتكتيكية تخدم هذه الاستراتيجية بحيث لا تبرز من خلالها الفروقات الحادة بين مصالح الدول الكبرى من جهة، ومصالح الحركة الصهيونية من جهة اخرى. القيادات الصهيونية لم تألُ جهدا في تطبيق هذه الاستراتيجية. حاولوها حتى مع هتلر عندما قدمت اليه المنظمات الصهيونية في المانيا مذكرة بعد وصوله الى الحكم تؤكد له فيها تطابق اهداف الصهيونية الكامل مع اهداف النازية. النهج الذي اختطه المحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة، الذين يشكل غلاة الصهاينة الاميركيين عصبهم الحي والافعل، بدا وكأنه يرسم نمطا جديدا في عمل الحركة الصهيونية ونشاطها. تميز هذا النمط بالتخلي عن الحرص الشديد على طمس الفوارق بين مصالح هذه الحركة ومصالح اسرائيل من جهة، وبين مصالح الدولة التي ينتمون اليها، اي الولاياتالمتحدة. هذا النهج وصل الى ذروته في الحرب على العراق. صحيح ان المحافظين الجدد سعوا الى اقناع اصحاب القرار والى اقناع الرأي العام الاميركي بأن امن الولاياتالمتحدة ومصلحتها يقضيان بشن الحرب على العراق. الا ان مساعيهم في هذا المضمار اتسمت بالفجاجة، والرواية التي قدموها للرأي العام تبريرا للحرب اتصفت بالرداءة وتضمنت مقدارا لا يخفى من الاكاذيب التي سقطت في ابسط الامتحانات. لعله كان مستطاعا التستر على كل هذه الاخفاقات لو كان في البيت الابيض رئيس يملك من الشطارة والجاذبية والكاريزما الشخصية ما يمكنه من القيام بتسويق منتجات المحافظين الجدد، والايحاء بأنها صناعة اميركية خالصة، وبأنها تعكس فكره واجتهاده هو شخصيا. ولكن لسوء طالع المحافظين الجدد وطالع الصهاينة منهم، فإن جورج بوش بعيد كل البعد عن شخصية المسوق الناجح لمشاريع المحافظين الجدد ونظرياتهم. انه بالعكس، ساعد على وضعهم تحت المجهر، فعندما اراد الاهتداء بدليل لتصدير الديموقراطية الى المنطقة العربية وجد ضالته في كتاب ناتان شارانسكي حول هذا الموضوع. وشارانسكي ليس فقط من صقور السياسة الاسرائيلية فحسب، بل انه ما من احد - باستثناء بوش - يعتبره حكما صالحا في قضايا الديموقراطية او في اية قضية سياسية لها علاقة من بعيد او قريب بالمنطقة العربية. فضلا عن كل ذلك - ونحن لا نتكلم هنا عن مجرد تعليب وتسويق الاهداف فحسب - فإن الهدف الذي سعى المحافظون الجدد الى تحقيقه، اي تحطيم العراق، بدا محققا لمصالح اسرائيل ومناصريها في الولاياتالمتحدة اكثر من اي طرف دولي آخر. ونأى هذا الخيار عن مصالح الولاياتالمتحدة. فأي مصلحة للولايات المتحدة الاميركية في اسقاط حكومة وجهت اقصى الضربات واوجعها الى الحزب الشيوعي العراقي وقد كان اكبر حزب شيوعي عربي وأحد اهم الاحزاب الشيوعية في العالم الثالث؟ واي مصلحة للولايات المتحدة الاميركية في إسقاط حكومة احتوت مد الثورة الاسلامية في ايران في ذروة صعوده وعنفوانه؟ واي مصلحة للولايات المتحدة في اسقاط دولة شكلت، تاريخيا، ركيزة لتوازن القوى في منطقة الخليج؟ اخيرا لا آخرا، اي مصلحة للولايات المتحدة في شن حرب كلفت الولاياتالمتحدة قرابة ثلاثة تريليونات دولار، كما جاء في كتاب جوزف ستيغلتز"ثلاثة تريليونات دولار: الكلفة الحقيقية لحرب العراق"واربعة آلاف قتيل بين الجنود الاميركيين وعشرات الالوف من الضحايا العراقيين حتى هذا التاريخ، من دون ان تتمكن من تسجيل نصر حاسم ضد المقاومة العراقية؟ ان الغرور الذي يطبع سلوك المحافظين الجدد والسلوك المغامر الذي يسيرون عليه داخل وخارج الادارة الاميركية الحالية، مضافة اليهما الاخفاقات الكبيرة التي ترافق احتلال العراق، كل ذلك دفع اعداداً متزايدة من الاميركيين والاوروبيين على التجرؤ على توجيه انتقادات قوية اليهم. ومن الطبيعي ان تثير هذه الانتقادات حفيظة المحافظين الجدد وتضايقهم، ولكن ما يلفت النظر ان هذه الانتقادات اثارت ايضا قلق اوساط اخرى لا تتعاطف بالضرورة مع المحافظين الجدد، ولكنها تتعاطف مع اسرائيل ومع الصهيونية وليست بعيدة عن نزعات الآرابوفوبيا. ذلك ان المنتقدين لم يعودوا يحصرون انتقاداتهم بالمحافظين الجدد، ولا حتى بحرب العراق، بل ذهب بعضهم الى المساس ب"البقرة الغربية المقدسة"اي اسرائيل، فشبه زبغنيو بريجنسكي المستشار الاسبق للامن القومي الاميركي ما فعله الاسرائيليون في حرب لبنان خلال صيف 2006 بقتل الرهائن وهو بمثابة اتهام لاسرائيل بارتكاب اعمال ارهابية. علاوة على ذلك فإن الكثيرين من اصحاب الانتقادات لم يكتفوا بتوجيهها ضد حرب العراق، ولكنهم ذهبوا الى المطالبة بالانسحاب الاميركي من العراق. لم يكن يضير بعض السياسيين الاميركيين المعروفين بتعاطفهم مع اسرائيل مثل د. هنري كيسنجر، ان تُوجَّه الانتقادات الى المحافظين الجدد. فهؤلاء لم يرحموا مدرسة الواقعية السياسية التي يعتبر كيسنجر احد ابرز اعمدتها في السياسة الاميركية، وحملوها مسؤولية اخفاقات السياسة الاميركية في الشرق الاوسط في العهود السابقة. بيد ان الارتفاع المتزايد لوتائر النقد، في الولاياتالمتحدة، الموجه الى السياسة الاسرائيلية والى حرب العراق، واشتداد المطالبة بسحب القوات الاميركية من الاراضي العراقية، يضعان سياسة الولاياتالمتحدة الشرق اوسطية على المحك. ولما كان الاميركيون المتعاطفون مع اسرائيل، من شتى التيارات والاتجاهات، قد ساهموا بدور رئيسي في بلورة هذه السياسة وفي اختيار اهدافها، ولما كان النقد الموجه الى سياسة بوش قد توسع الى نقد سياسة اميركا في الشرق الاوسط والعالم العربي بصورة عامة، فقد بات من الضروري تدخل انصار اسرائيل من ذوي الاوزان الثقيلة مثل هنري كيسنجر، للرد على هذه الحملات ووضع حد لها. كتب كيسنجر في هذا الاطار مقالات عدة تناول فيها سياسة بوش الخارجية من بينها مقال نشره أخيرا في"الانترناشيونال هيرالد تريبيون"8/4/2008. يقول كيسنجر في مقاله إن الادارة الاميركية والنظام الدولي يواجهان ثلاثة تحديات كبرى: الاول هو المتغيرات السياسية الاوروبية التي جعلت الدول الاوروبية تتردد في تحمل واجباتها الدولية وبخاصة في جانبها الامني وفي منطقة الشرق الاوسط بصورة خاصة. الثاني هو انتقال محور السياسة الدولية من المحيط الاطلسي الى المحيط الهادئ، وهو ما يفتح الباب امام انماط متنوعة ومختلفة من العلاقة بين الدول الرئيسية على ضفتي هذا المحيط، مثل الولاياتالمتحدة والصين. التحدي الثالث هو التحدي الاسلامي الراديكالي لمفهوم السيادة التقليدية. ولما كان التركيز هنا على الاسلام الشرق اوسطي، فإنه من الصواب القول إن هذا التحدي الاخير موجود عند العرب بصورة خاصة. ويعتقد كيسنجر ان التحديين الاولين لا يشكلان خطرا على النظام الدولي لانه من المستطاع التوصل الى تفاهم يشمل دول الهادئ والاطلسي على الامن الدولي. يبقى التحدي الاخير، فهل يمكن اتباع سياسة الاحتواء والتفاهم معه؟ لا. يجيب كيسنجر، مكررا هنا التوصيف الاستشراقي التقليدي للنظرة الاسلامية التي"لا تقبل بمشروعية الدولة الحديثة". وحيث ان الذين يعتنقون هذه النظرة لا يقبلون التفاوض مع الآخرين ولا يعبأون بموازين القوى واحكامها، وحيث ان دول المنطقة العربية نفسها"لا تملك القدرة والمشروعين الكافيين لاحتواء هذا التحدي ودرء اخطاره"، فإنه لا يمكن مواجهة هذا التحدي الا عن طريق جبهة عالمية تضم الدول المطلة على الاطلسي والهادئ. وحتى تتوفر ظروف لنشوء مثل هذا التفاهم العالمي، فإن على الولاياتالمتحدة ان تتحمل نصيبها من التضحية ومن الصمود في العراق، وعلى الاميركيين الاقتناع انه اذا استجابت الادارة الاميركية لشعارات المنادين بالانسحاب من الاراضي العراقية، فسوف تجد اميركا أنها مضطرة للدفاع عن نفسها في مكان آخر اشد وعورة وخطورة من العراق. تنطوي تحليلات وزير الخارجية الاميركية الاسبق على الكثير من المبالغات، فهو ينطلق بها من المواقع الاثيرة نفسها عند المحافظين الجدد، اي التهويل بخطر"الجهاديين"الاسلاميين، والمبالغة بقدرة تنظيم"القاعدة"على الحاق الاذى بالولاياتالمتحدة، والتلميح الى ان الاميركيين قد يجدون انفسهم مضطرين الى مقاتلة الاسلاميين الراديكاليين على الارض الاميركية اذا خرجت الولاياتالمتحدة من العراق. ويتجاهل كيسنجر الملاحظات الصائبة التي وضعت الحصان قبل العربة. فالاحتلال الاميركي للعراق هو الذي اتى ب"القاعدة"الى الاراضي العراقية، ولم تأت القوات الاميركية لمقاتلة"القاعدة"في العراق. ويتجاهل وزير الخارجية الاميركي السابق الذي بدأ في السبعينات حملة تنظيف الخارجية الاميركية من"العروبيين"، اي من الاداريين الذين لم يكونوا معادين للعرب، العلاقة بين نمو الاتجاهات الاسلامية الراديكالية في المنطقة من جهة، وبين سياسة العدوان والتوسع التي تمارسها اسرائيل في المنطقة. على رغم كل ذلك فإن هنري كيسنجر ومن ينتمون الى مدرسته من المتعاطفين مع اسرائيل، هم اكثر شطارة وقدرة على تسويق اهداف الحركة الصهيونية واهداف اسرائيل في الولاياتالمتحدة، وعلى شحذ مشاعر العداء للعرب من المحافظين الجدد. واذ يستل هؤلاء المبادرة من الاخيرين فيما الولاياتالمتحدة على اهبة انتخاب ادارة جديدة، فإنه من غير الواقعي انتظار متغير ذي معنى بعد ذهاب جورج بوش الابن من البيت الابيض. ان الحراس الحقيقيين لمصالح اسرائيل في المنطقة العربية موجودون في صلب المؤسسة الاميركية الحاكمة وليسوا من الطارئين عليها من امثال التروتسكيين القدامى والمحافظين الجدد. * كاتب لبناني