لعقود طويلة بدت صورة الولاياتالمتحدة في أذهان الكثيرين مشرقة وبراقة، وكان من السهل على المعجبين والمنبهرين أن يعثروا على شواهد وقرائن عديدة دفاعا عن دولة لم تظهر على خريطة العالم ككيان مستقل إلا منذ حوالي قرنين من الزمان, لكنها حققت ما لم تستطع دولة أخرى في التاريخ المعروف للبشرية أن تحققه. فهذه الدولة الحديثة النشأة أصبحت أقوى دول العالم وأغناها وأكثرها تأثيراً ونفوذاً، وتحول نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى نموذج يحتذى، باعتباره الأكثر حيوية وديناميكية وقدرة على الانجاز، وفرض نمط الحياة الأميركي نفسه باعتباره الأكثر جاذبية وإغراء وإلهاماً لشعوب العالم قاطبة. الأهم من ذلك أن القوة المادية المفرطة للدولة الأميركية، والتي بدت مخيفة, تلازمت مع وجه آخر أخلاقي لنظامها الذي اعتبر الأكثر ديموقراطية واحتراما للقانون وحرصا على حريات وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. غير أن هذه الصورة المبهرة بدت متناقضة مع صورة أخرى أقل إشراقا وأكثر قتامة في أذهان آخرين لم يروا في تاريخ الولاياتالمتحدة سوى حلقات متصلة ومترابطة من العنف والعنصرية، من ناحية، ومن التوسع الامبريالي، من ناحية أخرى. فسجل العنف في التاريخ الأميركي بدأ، حتى قبل أن تنشأ الدولة، بإبادة جماعية منهجية لسكان البلاد الأصليين، ولم ينته باستخدام القنبلة النووية مرتين متتاليتين ضد اليابان من دون مبرر أو ضرورة عسكرية. وسجل العنصرية في التاريخ الأميركي بدأ بشراء واستعباد ملايين الزنوج الأفارقة للعمل في مزارع القطن، ولم ينته باغتيال ابراهام لنكولن ومارتن لوثر كنغ. أما سجل التوسع الامبريالي فبدأ بالتوسع غربا وشمالا وجنوبا عقب إعلان استقلال الدولة النواة، ولم ينته باكتمال بناء الدولة بصورتها الراهنة حيث راحت تبحث عن النفوذ الخارجي وتحكم أولا سيطرتها المنفردة على نصف الكرة الشمالي مبدأ مونرو عام 1823 قبل أن تتحول بعد ذلك إلى قوة تتنافس مع آخرين على صدارة النظام العالمي، إلى أن استطاعت في النهاية فرض هيمنتها المنفردة عليه. هاتان الرؤيتان، على ما بينهما من تناقض، لا تحولان دون التسليم العام بحقيقة مهمة وهي أن صورة الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدت أقل قبحا إذا قورنت بصورة أوروبا الاستعمارية أو بصورة الاتحاد السوفياتي في زمن ستالين. ولا شك أن وجود قوى دولية أخرى منافسة على الساحة، بصرف النظر عما إذا كانت قوى حليفة تطمع في وراثة الولاياتالمتحدة أو قوى عدوة تسعى لاحتوائها، ساعد على كبح جماح شهوة السيطرة والتسلط لدى الولاياتالمتحدة، ومهد الطريق أمام قوى الداخل الأكثر اعتدالاً، جمهورية كانت أم ديموقراطية، كي تتقدم الصفوف وتصبح لها اليد العليا في إدارة شؤون الدولة. لكن ما أن نجحت في إزاحة أوروبا من طريقها، في أعقاب أزمة 1956، وفي إجبار الدور السوفياتي، في أعقاب حرب 1973، حتى تمدد اليمين الأميركي المحافظ وراح يقوى تدريجيا إلى أن تمكن من السيطرة على البيت الأبيض عام 1980 ووضع فيه ممثلا مغمورا اسمه رونالد ريغان. ثم بدأت شوكة الجناح الأكثر تطرفا وعنصرية في هذا اليمين الأميركي تقوى وتنمو عقب إزاحة الاتحاد السوفياتي نهائيا، إلى أن تمكن اليمين الاميركي من الاستيلاء على البيت الأبيض عام 2000 ووضع فيه سكيراً سابقاً وتائباً مستحدثاً هو جورج دبليو بوش. وهنا كان من الطبيعي أن تتفجر نزعة التسلط والهيمنة الأميركية بأكثر أشكالها بدائية. ليس بوسع أحد أن ينكر أن صورة الولاياتالمتحدة في العالم الآن، خصوصا في ضوء ما يجري في العراقوفلسطين، تبدو بشعة إلى درجة تتضاءل معها أبشع الممارسات الاستعمارية في كل العصور. فحين تتسبب الولاياتالمتحدة في تدمير دولة عريقة الحضارة كالعراق، وفي قتل مليون شخص من أبنائها، ونزوح ما يقرب من ربع سكانها، وحين تسمح بحصار شعب فلسطين الأعزل وتجويعه وتعطي الضوء الأخضر للتخلص من رئيسه السابق، وحين ترتكب انتهاكات بشعة لحقوق الإنسان في سجون غوانتامو وأبو غريب وفي سجون"سرية"نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية في مختلف أنحاء العالم، يصبح من المستحيل بأي معيار اعتبار اميركا دولة ديموقراطية أو حتى دولة متحضرة. يصعب على أي باحث أن يستوعب كيف يمكن لمجتمع تمتع بكل هذا القدر من الحيوية أن يفرز إدارة بكل هذا القدر من الحمق والغرور. وحتى بافتراض أن الشعوب يمكن أن تخطئ التقدير والحساب وتندفع في لحظة أزمة أو غضب أو انفعال، شأنها في ذلك شأن الأفراد, فكيف نفسر قيام الشعب الأميركي بمنح ثقته مرة ثانية لجورج بوش في انتخابات 2004 وتمكينه من ولاية ثانية، رغم انكشاف كذبه وخداعه ومحدودية قدراته؟ من الصعب تفسير ذلك إلا بالتسليم بوجود خلل كامن في بنية المجتمع الأميركي نفسه وأن ظاهرة جورج بوش ليست حدثا عابرا أو إفرازا لأزمة طارئة وإنما هي انعكاس لتيار عميق الجذور في المجتمع الأميركي وتعبير عن مصالح كبرى. صحيح أن المجتمع الأميركي بدأ يصحو أخيراً، وقرر، وإن متأخراً، عقاب بوش بحرمانه من الأغلبية في الكونغرس بمجلسيه، وذلك في انتخابات التجديد النصفي في تشرين الثاني نوفمبر 2006، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن ثورة تصحيحية كبرى انطلقت، أو أن باراك أوباما على وشك ولوج البيت الأبيض. فالواقع أن المجتمع الأميركي ما زال منقسما على نفسه بعمق، وما تزال كل الاحتمالات مفتوحة، بما في ذلك فوز المرشح الجمهوري جون ماكين والذي يعد امتدادا أكثر عقلانية، وبالتالي أكثر خطورة, لكل ما يمثله بوش. ليس هذا فقط بل إن بوش يبدو واثقا من الداخل الأميركي إلى درجة لا يمكن معها استبعاد إقدامه على حماقة جديدة، كضرب إيران. ففي مقال وقعه بات بوكانان، المرشح الأسبق للرئاسة الأميركية، ونشر على شبكة الانترنت بتاريخ 12 نيسان إبريل الجاري, سرد قائمة من الشواهد والأسباب التي ترجح احتمال إقدام بوش على ضرب إيران قبل مغادرته البيت الأبيض, ربما على أمل أن يستكمل ماكين المهمة بسهولة أكبر. من هذه الشواهد: 1- سحب مشروع قرار كانت زعيمة الاكثرية الديموقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي قدمته في بداية 2007 يحظر على الرئيس الأميركي مهاجمة إيران من دون موافقة مسبقة من الكونغرس. 2 - موافقة الكونغرس بمجلسيه في أيلول سبتمبر الماضي على مشروع قرار قدمه كيل ليبرمان Kyl-Lieberman لإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. 3- المناورات العسكرية الأخيرة الواسعة النطاق والتي تضمنت توزيع كمامات واقية وأعقبت جولة نائب الرئيس ديك تشيني الأخيرة في المنطقة. ويخلص المقال إلى أن شن حرب على إيران سيحظى بتأييد الكونغرس ويعمق الخلافات بين المرشحين الديموقراطيين، هيلاري كلينتون وباراك أوباما، إلى الدرجة التي قد تقضي على طموحات الحزب الديموقراطي في الوصول إلى مقعد الرئاسة وفتح طريق البيت الأبيض أمام جون ماكين. ولن أدهش كثيرا إذا صدق هذا السيناريو والذي يبدو أنه يعبر عن أميركا الحقيقية أو أميركا العميقة. لكن لماذا تتجلى النزعة التسلطية الأميركية بأكثر أشكالها عدوانية وإجراما في منطقة الشرق الأوسط بالذات وضد العرب والمسلمين على وجه الخصوص؟ هنا لا بد أن يبرز العامل الصهيوني أو الإسرائيلي كأحد المفاتيح الرئيسية لفهم ما يجري والذي من السذاجة إغفاله. ورغم أنني لست من أنصار تفسير السياسة الأميركية بقوة اللوبي الصهيوني وحده، ولا أريد أن أسحب القارئ معي إلى جدل قديم جديد، لكنه عقيم، حول من يوظف من، إلا أنني أود أن ألفت نظر القارئ إلى ظاهرة جديدة في المجتمع الأميركي، يبدو أنها تتقدم ببطء ولكن بثبات، تشير إلى بداية وعي قطاع متزايد من النخبة الأميركية بخطورة الدور الذي يلعبه اللوبي الصهيوني وما يمكن أن يلحقه من أذى وضرر بالمصالح الإستراتيجية الأميركية. صحيح أن الأصوات الأميركية المحتجة على أساليب اللوبي الصهيوني في السيطرة على مراكز صنع القرار وإزاحة العناصر المعارضة أو المناوئة له ليست جديدة، فكلنا يذكر كتاب بول فندلي"هم تجرأوا على الكلام"الصادر عام 1982 والذي فضح دور اللوبي الصهيوني في الحملة المعادية التي أطاحت به من منصبه، لكن ليس من المعهود أبدا العثور على رموز سياسية أميركية كبيرة توجه انتقادات صريحة ومباشرة وعنيفة إلى إسرائيل، كما فعل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، والذي نشر منذ عامين كتابا بعنوان:"فلسطين، سلام لا فصل عنصري"، أو أكاديميون كبار من أمثال ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد وعميد كلية جون كيندي للعلوم السياسية وجون ميرشيمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، اللذين قدما دراسة موثقة أثبتا فيها سيطرة اللوبي الصهيوني على صنع سياسة اميركية في الشرق الأوسط أصبحت تعبّر بالكامل عن المصالح الإسرائيلية وليس الأميركية. الرئيس الأسبق جيمي كارتر لم يتردد في كتابه،"سلام لا فصل عنصري"، في وصف السياسات الإسرائيلية الحالية، خصوصا ما يتعلق منها بالاستيطان وبناء الجدار، بأنها سياسات عنصرية سافرة تشبه سياسة الأبارتيد التي كانت تنتهجها حكومة جنوب أفريقيا العنصرية. ورغم الهجوم الفظيع الذي تعرض له جيمي كارتر شخصيا، والذي وصل إلى حد اتهامه بمعاداة السامية، والنقد العنيف الذي تعرض له كتابه الذي وصف من جانب البعض بالهذيان، إلا أن الرجل يبدو صامدا في وجه الأعاصير الصهيونية، وهو يستعد الآن لزيارة دمشق للقاء خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس"، وهي خطوة نظن أنها مهمة لكسر واختراق المحرمات الإسرائيلية. أما دراسة والت وميرشيمر المعنونة"اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية"، والتي سبق أن أشرنا إلى أهميتها مراراً، فبدأت بمقالة مركزة نشرتها مجلة"لندن ريفيو أوف بوكس"London Review of Books، بعد أن رفضتها جامعة هارفارد، ثم تحولت مؤخراً، رغم الهجوم الصهيوني البشع عليها، إلى كتاب يقع في حوالي 500 صفحة ويحمل نفس العنوان. ولهذا الكتاب أهمية تفوق كل ما كتب حتى الآن حول اللوبي الصهيوني لسببين: الأول توثيقه واعتماده على مصادر معظمها أولية، والثاني مكانة مؤلفيه في الأوساط الأكاديمية وعدم انحيازهما لأي مواقف أيديولوجية. ويشرح الكتاب تفصيلا كيف تغلغل اللوبي الصهيوني في الإدارة الأميركية، وفي الكونغرس بمجلسيه، وفي مراكز الأبحاث، وفي وسائل الإعلام، وفي الجامعات وغيرها من منابر التأثير وصناعة الرأي العام الأميركي. وربما كان أهم ما توصل إليه من نتائج، بعد استعراضه لأساليب اللوبي الإسرائيلي، أمران: الأول أن هذا اللوبي لعب دورا رئيسيا، بل حاسما، في جر الولاياتالمتحدة للحرب على العراق، والثاني أنه يلعب الآن دورا رئيسيا لجر الولاياتالمتحدة لشن الحرب على إيران. هذا"النفس"الأكاديمي الجديد لا يبدو معزولا في الولاياتالمتحدة الأميركية. ففي دراسة نشرت مؤخراً في مجلة"واشنطن كوارترلي"The Washington Quarterly بعنوان:"ما بعد العراق، مستقبل التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط"يخلص الباحث برادلي بومان Bradely L.Bowman إلى نتيجة تبدو مذهلة بالنسبة الى الأميركيين، وهي أن التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط تسبب سابقا في تفجير الإرهاب ويساعد حاليا على انتشاره. ومع ذلك من الحكمة عدم الجري وراء أوهام. فالتأييد الأميركي الأعمى لإسرائيل أكبر من أن يزعزه أحد، بدليل قرار مجلس النواب رقم 185، والذي اتخذ بالإجماع ! منذ أيام حول تعويض"اللاجئين اليهود"من منطقة الشرق الأوسط، وهو قرار قد لا يكون ملزما الآن لكنه ينبئ بوضوح عن شكل ما هو مقبل. ويحتاج هذا القرار إلى دراسة منفصلة. أما الولاياتالمتحدة فتحتاج حقا إلى من ينقذها من نفسها ومن إسرائيل في الوقت نفسه، قبل أن يأمل العالم في أي تغيير إيجابي في هذا البلد الكبير، وهو تغيير ضروري لإنقاذ البشرية. * كاتب مصري