أحيا اللبنانيون ذكرى اندلاع حربهم الأهلية في العام 1975. طغت المادة الإعلامية وتراجعت اللغة السياسية. حضرت الحرب، ولم يحضر المتحاربون. ما زالت"الفعلة المدمرة"تقيد ضد مجهول! لعل الانشغال بالحرب المستديمة، صرف انتباه أمراء الطوائف عن الالتفات إلى مناسبة انفراط العقد الأهلي في الربع الأخير من القرن الماضي. ولعل التمادي في ارتكاب فعل"الفرط الوطني"والإيغال فيه، ينفيان صفة الماضي والفوات عن"الحدث الأصلي"، بل يعيدان تأكيد استمراريته، كقيد ثقيل يمسك بعنق الحياة السياسية اللبنانية، ويحصي عليها أنفاسها... بعد أن يسد أفق تنفسها الرحب. غاب المتقاتلون، وغُيبت المسؤوليات، واستحضر جيل لا يعرف الرواية الكاملة للحرب، ويجهل مجرياتها ويومياتها، لكنه يُحمَّل انقساماتها، ويُخلَع عليه لبوس شعاراتها، ويحتل بالتالي خطوط التماس الجديدة المرسومة له بدقة، من جانب الأمراء الطوائفيين، وبقبول، لا يخلو من الحماسة، من جانب جيل الورثة هذا. لا يستطيع المتقاتلون، قديماً وحديثاً، استعادة تجربتهم بالنقد السياسي والفكري، الواجب واللازم. ففي إدانة الماضي القتالي، اتهام صارخ للحاضر الطوائفي السجالي، ولأن النقد يستوجب"نقد السلاح"، يصير من المستحيل على أصحاب"المنظومة المفهومية"الطائفية، رمي مفاهيمهم"الماضية"وشعاراتها بسهام التفنيد والتجاوز، لأن"المنظومة"إياها، ما زالت السلاح الأمضى والأفعل والأنسب، في معركة الاصطفافات الطائفية الحالية، التي تجاوز صفاؤها حال اصطفافات الطوائف في زمن سياسي لبناني غابر، وفاق توحدها حول نواتها الصلبة، ما عرفه الوضع الطوائفي اللبناني، حتى الآن، من توحد. لا تكتسب الوقفة أمام حدث الحرب لئلا نقول ذكراها جديتها إلا إذا أعادت استحضار مواضيع الانقسام الفعلية التي انتشر فوق مساحتها اللبنانيون، وإلا إذا أعيد طرح السؤال حول مسلك القوى السياسية والأطر"الدولتية"المتاحة، التي تضافرت جهودها لجعل الإنسداد السياسي أمام التسوية الممكنة"أفقاً"أوحد، وانفجار القتال"مخرجاً"لا بديل منه لتعديل موازين القوى السياسية السائدة! لقد أسست الطوائفية السياسية اللبنانية، التي كانت تمسك بمقاليد الإدارة"النظامية"، للانفجار الأهلي، بسبب امتناع نظامها من استقبال التعديلات"المجتمعية"والسياسية، وبالتالي، قبولها والشروع في معالجتها، تمهيداً لإدراجها اللاحق في سياق"الانتظام الوطني"العام... عجز النظام السياسي اللبناني، بنيوياً، عن الإقدام على ذلك، وسد مسامعه، فلم تصلها، طلبات"المشاركة... والغبن... ورفع الحرمان وملامسة شيء من التحديث في بنيته المتهرئة...". كان القمع العاري وسيلة التعامل، بعدما بات"القمع المبطن، غير ذي فعالية ناجعة. "الصمود الرسمي"في وجه"المطالبات الشعبية"المتنامية، واكبه صمود من نوع آخر، خلف تعريفات للموقع اللبناني في معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي، تراوحت بين"الحيادية ومحاولات الإنسحاب"، أو الاكتفاء من"وجه لبنان العربي"بعروبة مفصلة على قياس رؤية النظام لنفسه، رؤية تكتفي من كل مشاكل"الانتماء إلى المحيط، بعروبة اقتصادية"، وبما تبثه من شذرات"أيديولوجية". كان كل ذلك الأرضية الملائمة، بل الثابتة للخيارات السياسية الأخرى. هكذا قام شبه"حلف فكري"بين الإقفال على الداخل، ومحاولة الإفلات من"أحكام الخارج"، العربي تحديداً، ما دفع لأن يكون لپ"الداخل اللبناني الآخر"، المعارض والمعترض، خارجه الفكري والأيديولوجي الذي يستقوي به ويقيم بينه وبين"خياره الفكري"الداخلي، أواصر ارتباط وعلاقات تحالف متينة. من الصعب على قيادة الحرب السابقة أن تعرض أسبابها السياسية للنقد، لأن الأسباب نفسها، ما زالت وسيلة التعبئة الأفضل للقيادة نفسها. النقد، في المقام الطوائفي، نقض وجودي، فلا يعقل أن يقدم"طائفي"على إلغاء ذاته، من خلال تعريض كل"الخطاب الطوائفي"لسجال تجاوزي. وما يساعد في الالتفاف على عملية معاينة الأخطاء، هو الوضع السياسي الحالي، الذي بات الانقسام المذهبي والفئوي مظهراً له، بحيث تراجعت الانقسامات الإجمالية التي شكلت مظلة سياسية لجميع الفرقاء، لدى اندلاع شرارة الحرب في العام 1975. لا يغيب عن البال أن الصراع دار"حول السيطرة على لبنان"، بمعنى الفوز بقرار تحديد خياراته ووجهته العامة، في الداخل ومع الخارج، كذلك لا يفوت"المتذكر"أن توزع البلد شطرين كان"موقتاً"، ومجرد قاعدة أولى للانطلاق نحو الشطر الآخر للسيطرة عليه، فكانت الوحدة القسرية مطلباً ألحّ على فرقاء الحرب، الذين اكتشفوا لاحقاً أن ما سعوا إليه كان ضرباً من الأوهام. إذا كان هذا ما دار في ذهن المتصارعين يومها، فإن واقع الحال اليوم، يغيّب، كلاماً وممارسة، هاجس استعادة الوحدة الداخلية، مثلما يحجم عن الخوض في بحث شروطها. عليه صار السائد، والحاضر أبداً، وبإلحاح، مصير هذه الفئة اللبنانية أو تلك، وحجم مصالحها الخاصة، قبل البحث في موضوع المصالح العامة. لذلك صار حساب الربح والخسارة مقروءاً بنظارات الفئوية الضيقة وليس بمنظار الاجتماع اللبناني الرحب. لم تصر الحرب إلى الذكرى، لأن اللبنانيين مستمرون في كتابة فصولها. لذلك ما زالت خاتمة الرواية السعيدة، حلماً يراود الأجيال. * كاتب لبناني.