لم تعكس تجربة تعدد الفضائيات في العراق خلال السنوات الخمس الماضية حالاً أو واقعاً ثقافياً واجتماعياً يمكّن المشاهد العراقي من ان ينسى"فردانية"الرأي، التي كان يعيشها الإعلام في العراق عندما كان مقتصراً عمله بفضائية رسمية واحدة هي"فضائية العراق". هذه الفضائية التي كانت معبرة عن سياسة النظام الحاكم وفكره، لكنها كانت كل شيء. بعد سقوط الإعلام الحكومي العراقي بسقوط نظامه عام 2003، شهدت المنطقة توسعاً كبيراً في الأحداث، وبرز في الوقت نفسه فراغ إعلامي كبير كان لا بد من تغطيته في شكل حي في الكثير من المرات، متابعة للأحداث المتسارعة التي أصبحت سمة من سمات الوضع في الشارع العراق. لم يكن العراق قد نهض إعلامياً في حينه، فتكفلت وسائل الإعلام الغربية والعربية الى حد ما القيام بذلك. يعيش العراق اليوم ثورة في فضائياته المتزايدة يوماً بعد يوم. غير أن هذه الزيادة لم تغن العراقيين بقدر ما خذلتهم وأفسدت ذائقتهم، وللأسف هذه حقيقة ربما لا يحس بها أصحابها كونهم مغمورين في سياستهم الإعلامية التي ليست سوى واجهة لمطابخ أحزابهم السياسية. انقلبت"التعددية"الإعلامية الجديدة على الساحة الإعلامية في العراق الى تعددية"حزبية"إعلامية. وأصبح الشغل الشاغل للكثير من الفضائيات زيادة الاحتقانات وإثارة النعرات الطائفية والقومية والمذهبية، كما أصبحت الشاشة الصغيرة تركز على"إثارة"مشاعر المشاهد واستمالة عاطفته وليس على عقله، إضافة الى افتقار الكثير من هذه الفضائيات الى سياسة"إعلامية"يكون الهدف منها تثقيف المشاهد وإثراء ذائقته. يكفي اليوم ان يطل رجل دين عبر شاشة التلفاز، يأمر وينهي بحسب ما يحلو له، أو يروّج لجهة على حساب جهة أخرى، أو يدعو للثأر والانتقام، وربما يدعو الى التسامح بصرف النظر عن حقيقة ما يعنيه، حتى يثير المشاهد المتعب من وضع بلده، والذي لم يعد قادراً على فرز الأمور والتعامل معها بعقلانية، ويقيناً ان وضعه والتحريض التلفزيوني سيدفعانه الى المشاركة في تظاهرة أو احتجاج لن تكون نهايتهما غير المصادمات المسلحة، أو في الأحوال الأخرى قد يتمكن المحرض من أن يكسب عطف المشاهد ووده ويثير مشاعره ضد جهة أخرى تسعى هي بدورها لتعبئة جماهيرها"فضائياً"، لتنتقل الصراعات المسلحة القومية والمذهبية التي يشهدها البلد الى الشاشة الصغيرة. اوقات طويلة ولا مبالغة إن قلنا نهارات بأكملها لا تتغير فيها صورة شاشة الكثير من الفضائيات. الحدث واحد، وفي معظم الأوقات يكون حدثاً دينياً يصور إما احتفالاً او تأبيناً او إحياءً لطقوس وشعائر دينية أو حزناً على شخصية دينية لقيت حتفها وسط الأتون العراقي الملتهب، أو خطبة لأحد رجال الدين يدعم فيها جهة وينبذ أخرى، ويبدو انه حُتّم على المشاهد العراقي أن يستريح من مشاهد القتل والجثث المدماة بمشاهد البكاء و"اللطم". جمع كبير من الشباب لا يرون فارقاً يذكر بين الفضائيات الأصولية والفضائيات الغنائية، فالنوعان يعتمدان على إثارة عاطفة المشاهد وليس على مخاطبة عقله. في الحقيقة، لم تؤثر الفضائيات العراقية بسياساتها الحالية في ذائقة المشاهد فقط، بل في العلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد. وتمكن ملاحظة هذه الحال بوضوح أكبر بين الشباب الذين باتوا متحسسين من بعضهم بعضاً أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما ضيّق من مساحة"الحريات"و"الاختلاط"بين شباب قوميتين أو مذهبين مختلفين، وجعلها"صعبة"وغير مستحبة، الأمر الذي لم يكن معهوداً سابقاً على رغم من أن تلفزيوناً واحداً كان يغطي العراق موصلاً للمشاهد ما يشاء وفق ما يشاء. وربما هذا ما وحّد المشاهد العراقي يومذاك.