أفرغ حارس المدرسة أحذية بالية جمعها من حاويات القمامة، داخل مدفأة حطب تمهيداً لحرقها عند المساء، على أمل جلب الدفء لصغاره الخمسة، بعدما رفعت الحكومة الأردنية الدعم عن المحروقات قبل ثلاثة اشهر محولة الكاز من وقود للفقراء إلى سلعة رفاه. أبو فرج، يقطن في بلدة الهاشمية، شرق مدينة الزرقاء الأردنية، وهو من بين مئات أرباب الأسر الفقيرة الذين لجأوا إلى ابتداع قائمة محروقات جديدة خلال فصل الشتاء الذي شارف على الانتهاء، تضم الملابس البالية، والمواد البلاستيكية وزيوت مركبات مستعملة لأنها مواد تحترق ببطء وتوفر الدفء. كل ذلك لمواجهة"إرهاب"الغلاء الذي دخل كل بيت أردني وطاول المحروقات والنقل والكهرباء والغذاء والخدمات والكثير غيرها وسط تراجع القيمة الشرائية للدينار بين 20 و35 في المئة بحسب خبراء واقتصاديين. أبو فرج وهو رجل أربعيني يتقاضى راتباَ شهريا لا يتجاوز 130 ديناراً 180 دولاراً أميركياً. يضاف إليه 50 ديناراً شهرياً 75 دولاراً أقرتها الحكومة منذ بداية العام الحالي لموظفي القطاع العام المدني والعسكري العاملين والمتقاعدين ممن تقل رواتبهم عن 300 دينار، وعلاوة مقدارها 45 ديناراً للفئات نفسها من الموظفين ممن تتراوح رواتبهم الشهرية بين 300 و 1200 دينار أردني في بلد يبلغ فيه عدد موظفي القطاع العام 571.000 فرد. تحرير الأسعار سيدفع معدلات التضخم الى اكثر من 9 في المئة هذا العام وفق أرقام رسمية و12,5 في المئة وفق تقديرات متابعين. وپ"المحروقات الجديدة"التي ابتدعها عدد متنام من فقراء الأردن تكفي لتدفئة منزل أبو فرج المكون من غرفتين ودورة مياه خارجية غطي مدخلها بقطعة قماش بالية. هذا الدفء يأتي على حساب الصحة والبيئة بحسب ما يحذر خبراء. يقول أبو فرج أن"رائحة هذه المحروقات مزعجة وكريهة ومضرة بالصحة بسبب السموم التي تنبعث من دخانها، خصوصاً من الأحذية والزيوت المستعملة، لكنها طريقة مجانية لحماية أولادي من لسعة برد قد تعرضهم للمرض من دون أن أتمكن من مداواتهم". بعد تحرير الأسعار، قفز سعر الكاز والسولار المازوت بنسبة 90 في المئة بعد زيادتين في خلال شهرين، مع أنها تظل المادة الوحيدة المستخدمة لأغراض التدفئة لشريحة واسعة من المواطنين. اليوم باتت الأسعار تحدد في نهاية كل شهر، بحسب السوق العالمية. تزامن رفع الدعم عن المحروقات مع ضعف حكومي في ضبط فلتان السوق وصعود سريع في أسعار السلع الغذائية التي باتت ظاهرة عالمية لأسباب عدة منها ارتفاع أسعار البترول وكلفة الشحن والنقص في الإنتاج، فضلاً عن استعمال بعض إنتاج قصب السكر والذرة في استخراج الوقود الحيوي كبديل. في منزل مجاور لمنزل ابو فرج جلست عائلة أبو أسعد، سائق في مديرية العمل، المكونة من سبعة أطفال، على مائدة إفطار مكونة من وعاء بلاستيكي مملوء بكسرات خبز مبللة بالماء وملعقة حليب رشت عليه حبيبات من السكر. قبل شهرين، كانت عائلة أبو اسعد تتقاسم مكعبين من الجبن البلدي المكبوس بماء وملح، بمعدل مرتين بالأسبوع، مصنوع من حليب وفرته أربعة رؤوس ماعز. لكن العائلة اضطرت إلى بيع"حلالها"قبل ستة أشهر بعد أن رفعت الحكومة الدعم الجزئي عن أسعار الأعلاف لوقف الهدر الذي كان يستفيد منه تجار المواشي المتنفذين على حساب صغار مربي الماشية. قال أبو أسعد، 55 سنة:"بين إيجار البيت وفواتير الكهرباء والماء والخبز والسكر والرز تلاشى الراتب وما ظل شيء نعبئ به البطون الجائعة. حتى الخمسين ديناراً التي أعطتنا إياها الحكومة كعلاوة لا تساوي قيمتها ما كنا نشتريه بخمسة دنانير أيام زمان". في خلفية المشهد السياسي استمرار تجاذب بين مدرستين اقتصاديتين حول الإصلاح منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي مطلع عام 1990 مع أن وتيرة التحديث تسارعت مع تسلم الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية عام 1999 بعد وفاة والده. المدرسة الأولى تؤمن بالقطاع العام والمركزية وهيمنة الدولة على السوق، في مقابل مدرسة ثانية تؤمن بالليبرالية الاقتصادية التي تقوم على تحرير الاقتصاد وإطلاق قوى السوق وتقليص دور الدولة. قبل أيام رفعت بعض شركات بيع الدواجن الطازجة أسعارها بنسب وصلت في حدها الأعلى إلى 22 في المئة إلى جانب ارتفاع أسعار بعض أصناف الحليب المجفف بنسب تتراوح بين 25 و30 في المئة. وقبلها رفعت أسعار الكهرباء بنسبة 23 في المئة مهددة القطاع الصناعي أيضاً. المزاج الشعبي حاد. لذا طلب الملك عبدالله الثاني من الحكومة تأجيل رفع أسعار الأعلاف وأسطوانات الغاز والذي كان متوقعاً حصوله بداية الشهر الجاري لأن ذلك"يشكل عامل قلق لي وللمواطنين". ونُقل عن سياسيين قولهم ان الملك أراد بهذه الخطوة تخفيف العبء على حكومة نادر الذهبي التي تشكلت في تشرين الثاني نوفمبر، ودعم قرارتها"الجريئة"في رفع أسعار المحروقات والكهرباء وهي العملية التي لا تلقى قبولاً على رغم تفهم ظروف العجز المزمن في موازنة المملكة ونسب التضخم العالمي. الرفع الجزئي للدعم بدأ قبل ستة اشهر عندما زادت الحكومة سعر طن الأعلاف من 90 ديناراً إلى 150 ديناراً، ما أدى الى تظاهرات في مناطق عشائرية قادها بعض المتضررين تخللها حرق مخزن حبوب وقطع جزء من الطريق الرئيسي بين عمان والعقبة عند التقائه مع مدخل مطار الملكة علياء الدولي. ويقر مسؤولون واقتصاديون بأن قرار التأجيل الأخير لن يعجب صندوق النقد الدولي، لأنه سيحمل الخزينة 160 مليون دينار ستضاف إلى أعباء سابقة تتمثل بعجز يبلغ 724 مليون دينار إضافة إلى 300 مليون دينار، سيتم رصدها في ملحق إضافي للموازنة سيقدم للبرلمان قربياً. وأخيراً أنهت بعثة من الصندوق مشاوراتها في المملكة وتوقعت تحقيق نمو اقتصادي أقل من 6 في المئة أعلنتها الحكومة لهذا العام. البعثة حذرت من تفاقم عجز الموازنة الى مستويات غير آمنة ومن تنامي العجز التجاري وانخفاض في احتياطات العملات الصعبة بسبب استخدام الحكومة عوائد تعادل 1.5 بليون دولار من أموال الخصخصة لسداد جزء من المديونية، آخر الشهر الجاري. لكن أبعاداً سياسية أمنية اجتماعية أكثر أهمية، كانت وراء هذا التأجيل الذي يطاول 18 ألفاً من مربي الماشية. وفي الذاكرة اندلاع أحداث شغب عند عدد من محطات تحرير الأسعار منذ بدأ الأردن تسريع برنامج إصلاح اقتصادي أطلق عام 1989. حال الجارين أبو فرج وأبو اسعد تعكس أوضاع غالبية السكان من المحرومين. لكن الوضع المعيشي سيزداد صعوبة بالنسبة الى عدد كبير من سكان الأردن البالغ 6.2 مليون نسمة، حيث دلت نتائج مسح العمالة والبطالة لعام 2007 أن 81 في المئة من العاملين في الأردن تقل رواتبهم الشهرية عن 300 دينار في دولة ترعى التوظيف وتشكل رب العمل الأكبر لطوابير الخريجين. وأظهرت نتائج مسح الدخل ونفقات الأسرة الأردنية لعام 2007 أن"التركيز على المؤشرات الاقتصادية زاد الهوة بين الطبقات الاجتماعية"التي قسمها المسح إلى عشر شرائح بحسب دخلها السنوي. النصف الأدنى يستحوذ على ربع الدخل والنصف الأعلى على ثلاثة أرباع الدخل. وأعلى عشرة في المئة من النصف الأعلى يحوزون 30.2 في المئة من الدخل، بينما أدنى عشرة في المئة من النصف الأدنى يحوزون على 2.6 في المئة من الدخل. لم تكن إحصاءات 2002 بعيدة من الإحصاءات الأخيرة من حيث توزيع الدخل على الأسر الأردنية المقدر عددها بمليون و70 ألفاً. لكن نسب النمو الاقتصادي في السنوات الأربع الماضية التي وصلت بالأسعار الثابتة إلى 6 في المئة، لم تنعكس على متوسط الدخل للأسر الأردنية. بقايا الطبقة الوسطى والشرائح الأوسع من الموظفين وأصحاب الدخل الثابت هي الأكثر تأثراً بموجة التضخم الأخير الذي يأخذ منحى حلزونياً، بسبب تراجع القيمة الفعلية لدخولهم مقابل ارتفاع محدود في الدخل إلا لفئة مديري الدرجة الأولى ممن لم يتأثروا كثيراً. هؤلاء جميعاً وجدوا أنفسهم مضطرين لتغيير سلوكهم الاستهلاكي. أما الادخار فأصبح حلماً. تقول سمر أحمد، 42 سنة، وهي تعمل مستشارة لمنظمة أجنبية، إنها وزوجها المحامي وبناتها الثلاث كانوا يعتبرون أنفسهم من الشريحة العليا للطبقة الوسطى حيث يبلغ متوسط دخلهم الشهري الصافي حوالي 3900 دينار. وتضيف :"لا اعرف ماذا سأفعل مستقبلاً. المدرسة أخبرتنا أن الأقساط ستزداد الى 15 ألفاً و500 دينار العام المقبل من عشرة آلاف و500 دينار الآن، المازوت زاد بنسبة 90 في المئة، الأكل والخضروات والفاكهة ومستحضرات التنظيف زادت بنسب 30 إلى 35 في المئة. في مقابل ذلك ما زال دخلنا في مكانه وسنضطر الى السحب من مدخراتنا التي أردناها لتعليم البنات مستقبلاً". وقالت صديقتها هنادي سالم، 29 سنة، والتي تكسب حوالي 1000 دينار شهرياً، أنها أصبحت تفكر بالاقتصاد على حساب نوعية المشتريات. وتضيف:"في السابق كنت أشتري أغلى أنواع جبنة الحلوم المستوردة. اليوم أبحث عن طعم أقل لذة مقابل ثمن مماثل لما كنت ادفعه قبل شهرين". وموجة ارتفاع الأسعار ما زالت في منتصف الطريق. فسعر اسطوانة الغاز التي تستعمل لغايات الطهو والتدفئة ستصل الى عشرة دنانير بعد أشهر من 6.5 دينار اليوم و 2.25 دينار قبل شهرين. وسترفع أسعار المياه لاحقاً، وسينعكس ذلك على قطاعات عدة لم تشهد قفزات، تأثراً بأسعار الوقود التي بدورها قد تشهد زيادات إضافية مع برنامج التسعير الشهري لأثمان الوقود وفق تغير أسعارها في الأسواق العالمية. وقال مسؤول رفيع في مقابلة مع"الحياة"ان الحكومة ستعلن قريباً عن سلسلة من الإجراءات لحماية المواطنين من تداعيات ارتفاعات أسعار الخدمات والمواد الغذائية مثل زيادة عدد مواقع أسواق المؤسسة المدنية والعسكرية الاستهلاكية الشعبية بحيث يتم البيع فيها بسعر الكلفة وإلغاء هامش الربح الضئيل، إضافة الى الاستيراد المباشر من المصدر. كما ستراجع جداول التعرفة الجمركية لتخفيضها على المواد والسلع الغذائية الأساسية وزيادتها على الكماليات. وسيتم الاتفاق مع عدد من المؤسسات الائتمانية الدولية لتسهيل شراء السلع والمواد الغذائية كالمحروقات والقمح والسكر على شكل عقود مؤجلة لضمان ثبات الأسعار والحد من انعكاس تقلباتها على عجز الموازنة.