لا يخفي القادة العسكريون الأميركيون في مجالسهم شبه الخاصة كما يقول مطلعون، عدم ارتياحهم لحملة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التي أطلق عليها اسم"صولة الفرسان"ضد الجماعات والعصابات المسلحة في مدينة البصرة. وهي الحملة التي أشعلت النزاع السياسي - العسكري بين الحكومة والتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، وجناحه العسكري"جيش المهدي"، على رغم أنها لم تستهدف من الناحية الرسمية التيار الصدري بالاسم. ليس مبعث الغضب حب الأميركيين لجيش المهدي، فليس بين الطرفين حب أو ود من أي نوع، على رغم ان القادة العسكريين الأميركيين لا يبخلون بالإشادة بقرار الصدر تجميد عملياته العسكرية ضد القوات الأميركية ويعتبرون ذلك من العوامل التي أدت الى انخفاض مستوى العنف الى 60 في المئة عام 2007، إضافة الى دور حركة"الصحوة"في القضاء على تنظيم"القاعدة"في الكثير من مواقع نفوذه. سبب الغضب الأميركي أن الحملة لم تكن مدروسة ومخططاً لها بصورة جيدة من الناحية العسكرية، وان المالكي لم يستشر هؤلاء القادة العسكريين وعلى رأسهم الجنرال ديفيد بترايوس بنياته إزاء البصرة. فكان أن فوجئوا، كما فوجئ غيرهم من القادة العسكريين بالمالكي وهو يعلن"صولته"ليضع الجميع أمام الأمر الواقع. لكن المالكي وجد نفسه بعد أيام قليلة غير قادر على مواصلة الحملة وتحقيق أهدافها، فطلب النجدة من القوات الأميركية والبريطانية التي لم تبخل بها، على رغم ان عديدها لا يسمح لها بالمشاركة في عمليات واسعة من هذا النوع. ويشعر القادة الأميركيون انهم كانوا على وشك الدخول في مواجهة مكشوفة مع إيران، لم يقوموا هم باختيار مكانها وزمانها، عبر القتال مع جيش المهدي الذي كان يتلقى دعماً متواصلاً من إيران. الموقف الإيراني ربما اعتبر البعض الموقف الإيراني محيراً. إذ كانت معركة البصرة قتالاً بين طرفين على علاقة حسنة بإيران، وهما المالكي رئيس الحكومة ذات الغالبية الشيعية، بزعامة السيد عبدالعزيز الحكيم، ومقتدى الصدر الذي يتخذ من إيران ملاذاً آمناً كلما شدد عليه الأميركيون الخناق في العراق، والذي يتلقى دعماً أقله عسكرياً منها. يبدو الصراع محرجاً بين الرجلين، الحكيم والصدر، كما يبدو الجمع بينهما صعباً. بصرف النظر عما يقال من خلاف أو تنافس شخصي أو عائلي بينهما، فإن الرجلين يحملان تصورين مختلفين عن العراق. فالحكيم صديق للولايات المتحدة، ولا يرى في المقاومة المسلحة خياراً مطروحاً، وينادي بالفيديرالية وإقليم الجنوب، والصدر، عدو لأميركا، ويرفع شعار المقاومة، ولا يرى شرعية للفيديرالية بوجود المحتل، ولا يهفو قلبه لإقليم الجنوب. يمكن أن يكون الحكيم حليفاً استراتيجياً لإيران على رغم صداقته لأميركا. فعدا عن العلاقة التاريخية التي تربطهما، منذ هاجر أخوه السيد محمد باقر الحكيم الى إيران في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، فإن زعامة الحكيم لإقليم الجنوب ستؤمن ساحة نفوذ مهمة ومضمونة لإيران في المنطقة تضاف الى ساحة نفوذها في لبنان. وستؤمن للمرة الأولى طريق رعاياها الى المراقد الشيعية في النجف وكربلاء. فضلاً عن فتح أسواق الإقليم الجديد، الذي يطفو على بركة نفط، أمام حركة التجارة الإيرانية. أما الصدر، الذي لا يؤمّن كل هذه المزايا لإيران فمن الممكن ان يكون عامل إزعاج لأميركا وهذا ما تريده إيران بالضبط حينما تقتضي علاقاتها المتوترة مع الولاياتالمتحدة إزعاجها في العراق. وهذا ما يضع الرجل في خانة الحليف التكتيكي وليس الاستراتيجي، خصوصاً ان بعض صناع القرار الإيراني يحملون شكوكاً حول شخصية الصدر، وطبيعتها المتقلبة وصعوبة التنبؤ أو التحكم بها، وإمكان الاعتماد عليه كحليف استراتيجي. لا تواجه إيران مشكلة حين يشتغل الرجلان في دائرتين منفصلتين، وعلى أهداف متوازية. إذا اشتغل"جيش المهدي"ضد القوات الأميركية، وإذا اشتغل الحكيم على إقليم الجنوب، فلا مشكلة إيرانية في هذه الحال. لكن إذا تنافس الرجلان في المكان نفسه، وعلى الموقع السياسي نفسه، وبأجندة سياسية مختلفة، تبرز المشكلة. وهذا ما يتوقع ان يحصل مثلاً في تشرين الأول اكتوبر المقبل، موعد إجراء الانتخابات المحلية إذ ستكون المنافسة على أشدها بين القوى السياسية الشيعية للسيطرة على محافظات الجنوب، وبالتالي حسم الموقف من الدعوة الى إقليم الجنوب. هذا ما يرسم حدود قوة الصدر التي يمكن ان تشعر إيران بالارتياح لها، ضمن المعادلة التالية: قوي بما يكفي لإزعاج القوات الأميركية، ضعيف بما لا يجعله قادراً على مواجهة حليفها الاستراتيجي. وأي خلل في هذه المعادلة، يؤدي الى تدخل إيراني، كلما كان ذلك ممكناً، من أجل إعادة ضبط المعادلة وتوازنها. المالكي ليس من الضروري ان يكون المالكي تحرك لضرب الصدر وتياره بإشارة من الأميركيين، خصوصاً أنهم يعبرون عن انزعاجهم من"صولة الفرسان". لكن ثمة مصالح مشتركة واضحة بين المالكي والحكيم في ضرب الصدر أو تحجيمه. وصل المالكي الى رئاسة الوزارة بفعل دعم الصدر ضد عادل عبدالمهدي، مرشح الحكيم. لكن الانقلاب ما لبث أن تسلل الى علاقة المالكي - الصدر، خصوصاً منذ لقاء المالكي - بوش في عمان، والذي دعا الصدر الى إلغائه، من دون أن تلقى هذه الدعوة استجابة من المالكي. ومنذ ذلك الحين والهوة تزداد عمقاً بين الرجلين. كان من شأن طلبات ومواقف الصدر ان تباعد بين الأميركيين والمالكي الذي أعلن نفسه صديقاً لهم، بما يعني انه ليس مستعداً لخسارتهم وبالتالي خسارة المنصب الذي صار الحفاظ عليه من أولويات حزب"الدعوة"الذي يرأسه المالكي. ومنذ ذلك الحين والرجلان يسيران في طريقين متباعدين، حتى انسحب الصدر من الائتلاف الشيعي، واستقال وزراؤه من الحكومة، إضافة الى تهديده المتكرر بإسقاط حكومة المالكي كلما تصاعد الخصام بينهما. وكلما كبرت الهوة بين المالكي والصدر، كانت المسافة تضيق في المقابل بين المالكي والحكيم. ولم تكن المسافة الثانية فاصلة بين حليفين متكافئين في القوة، فقد كان المالكي وما زال أضعف من الحكيم، ومحتاجاً اليه للبقاء في الحكم. ولا تعادل حاجة المالكي الى الحكيم، إلا حاجته الى الأكراد، الذين يعتمد بقاء الائتلاف كله في الحكم على عدد أصواتهم في مجلس النواب. وقد قدم الأكراد دعماً كبيراً للمالكي في معركته الأخيرة، لا حباً به، ولا كرهاً بالصدر، وإنما تمهيداً لمعركة أخرى ستشهد فصولها مدينة كركوك. فتأييد الأكراد للمالكي في البصرة، قد يكون"سلفة سياسية"يتعين عليه أن يسددها في كركوك لاحقاً. اصطفاف جديد مهّدت هذه التطورات لاصطفاف سياسي جديد في المشهد العراقي الأمر الذي قد يجعل ما حدث في البصرة على رغم كل التحفظات العسكرية، نقطة تحول في المسار السياسي العراقي. وقد عبر هذا التحول عن نفسه بسرعة في الاجتماع الشامل الذي عقده المجلس السياسي للأمن الوطني، وهو هيئة استشارية غير منصوص عليها دستورياً، إذ تمكن القادة العراقيون المختلفون على حزمة قضايا أساسية كبرى من الاتفاق في الخامس من نيسان ابريل بسرعة على 15 نقطة تمثل خلاصة الموقف بعد أحداث البصرة. وساعد على ذلك ليس الانتصارات العسكرية في البصرة، وإنما مشروعية الدعوة التي أطلقها المالكي، والتي يمكن الاتكاء عليها من دون إثارة صخب، وهي نزع سلاح العصابات والمليشيات، وهو أمر نص عليه الدستور، وثبته برنامج حكومة الوحدة الوطنية قبل عامين. وأعاد بيان المجلس السياسي إنتاجه عبر المبادئ الآتية: الوقوف بحزم مع الحكومة وأجهزتها الأمنية المختلفة في تصديها للميليشيات والخارجين عن القانون أياً يكن انتماؤهم. دعوة الأحزاب والكيانات السياسية كافة الى حل ميليشياتها فوراً وتسليم أسلحتها للدولة والتحول الى النشاط المدني السلمي كشرط للاشتراك في العملية السياسية والانتخابات. إلغاء كل التنظيمات القضائية غير الشرعية والاحتكام حصراً الى السلطة القضائية الرسمية، ومنع فرض الإتاوات والضرائب خارج إطار الأجهزة الحكومية المعنية. عدم الاعتراف بالمناطق المغلقة وفتحها أمام سلطة الدولة والكيانات السياسية المختلفة للعمل فيها بحرية وعلى أساس المساواة. تصعب مناقشة هذه البنود من الناحية النظرية، لأنها تمثل جزءاً من مستلزمات بناء الدولة المدنية الحديثة. لكن القراءة العملية والواقعية لها، على الأقل من زاوية التيار الصدري، توحي بأن الخاسر الأكبر من تطبيقها هو هذا التيار نفسه. فمن الناحية الرسمية التيار الصدري هو الجهة السياسية الأكبر، حتى لا نقول الوحيدة، المتهمة بحيازة السلاح غير المرخص، عبر"جيش المهدي"، من بين سائر الأحزاب والقوى السياسية الأخرى المشتركة في العملية السياسة. لأن القوى الأخرى المعروفة على الأقل تاريخياً، بحيازتها السلاح غير المرخص عبر مليشياتها الخاصة، تستطيع أن تقول إنها لم تعد كذلك. فالمجلس الأعلى حول"فيلق بدر"الى منظمة سياسية تحمل الاسم نفسه وتشارك بالانتخابات، وكذلك البيشمركة الكردية الذين تحولوا الى قوات نظامية في اقليم كردستان، فيما انضمّت بقية حملة السلاح غير المرخص الى القوات العراقية الرسمية، في الجيش أو الشرطة. ولا يناقش أحد في طبيعة ولاءات هؤلاء، هل هي للدولة والقانون أم لهوياتهم التاريخية ولمنظوماتهم الفرعية. اتفقت القوى السياسية العراقية على الاصطفاف معاً على قاعدة المبادئ التي نص عليها بيان المجلس السياسي، واعتبر المالكي هذا التطور بمثابة إعلان لقيام جبهة وطنية جديدة. وقال إنّ"ما يحدث الآن في العراق هو أنّ جبهة وطنية تشكّلت ضدّ ما يجرى". أياً كانت دوافع هذه القوى، ففي المحصلة النهائية ان التيار الصدري يقف خارج الاصطفاف الجديد. وبرزت عزلة التيار الصدري حين دعا الى اجتماع لمجلس النواب لبحث أحداث البصرة، الأمر الذي لم يتحقق، لأن نواب الكتل الأخرى لم يتعاطفوا معه. بل ان وكالة آكي الإيطالية للأنباء نسبت الى مصدر قيادي في"الاتحاد الوطني الكردستاني"، لم تسمه، قوله إن"هناك رغبة لدى معظم الأطراف السياسية العراقية بتحجيم دور التيار الصدري في العملية السياسية"، نظراً"الى المخاطر التي يشكلها جيش المهدي على مستقبل هذه العملية". أما الشيعة وخصوصاً"المجلس الإسلامي الأعلى"وحزب"الدعوة"فهما يعتبرانه منافساً لهما في بسط النفوذ داخل الطائفة، لذلك هناك شبه إجماع لدى معظم القوى العراقية على ضرورة تحجيم هذا التيار، ووضع حد لنشاطاته المسلحة". أعطى هذا الاصطفاف المالكي قوة سياسية هائلة، لم يتمتع بها من قبل، وأكبر من قوته العسكرية التي استخدمها في البصرة، الى الدرجة التي جعلته يعلن بعد ساعات من صدور البيان، إخراج التيار الصدري من العملية السياسية ما لم ينزع سلاحه. وقال:"إنّ القرار اتُخذ لن يكون لهم أي حقّ في المشاركة السياسية وكذلك في الانتخابات المقبلة، إلا إذا حُلّ جيش المهدي". موقف التيار الصدري التيار في موقف لا يحسد عليه، فالعزلة السياسية قد تكون أخطر من المواجهة العسكرية، كما انه ليس من السهل على طرف سياسي ان يعمل في بيئة سياسية نافرة منه. أعلن التيار تحفظه على بعض نقاط البيان خصوصاً تلك المتعلقة بحل الميليشيات، وطالب بحل الميليشيات الأخرى، التي قال إن عددها 28، بالتزامن مع حل جيش المهدي، الذي أحال أمر حله الى المرجعيات الدينية التي نأت بنفسها عن هذا الموضوع. وقال أبو حسين، وهو مقاتل شاب، ان"مقاتلي بدر والدعوة يرتدون بدلات عسكرية. نحن لا نقاتل الجيش. نحن نقاتلهم. ان لديهم غطاء قانونياً بالبدلات". ... والمَخرج؟ أمام التيار الصدري وزعيمه مقتدى مخرجان من الوضع الراهن: المَخرج الأول، الاستمرار بالخط الراهن، وتصعيده، ورفض دعوات نزع السلاح، والاصطدام بالتالي بالطبقة السياسية الراهنة وحكومتها، وربما تصعيد هذا الصدام، سياسياً وعسكرياً وجماهيرياً وإعلامياً. المَخرج الثاني، الإذعان لدعوة نزع السلاح والتحول الى حزب سياسي مدني مسجل، بما في ذلك حل"جيش المهدي". كلا الخيارين صعب. فالأول يعني الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال سحب إيران دعمها السياسي والعسكري له، اذا رأت ان هذه المعركة تعرِّض مصالحها للخطر ولا تخدم أحد أهدافها المتمثل في ازعاج الولاياتالمتحدة، فضلاً عن الكلفة البشرية التي ستستلزم وضع عدد كبير من الشباب تحت السلاح وفي حال حرب وقتال. أما الخيار الثاني، فسوف يؤدي الى إضعاف التيار وخدش هيبته، التي قامت من بين أمور أخرى على قدرة جناحه العسكري، أي جيش المهدي، على التحرك السريع. إضافة الى أن العديد من قادة التيار قد يرفضون الخيار السياسي، وينشقون على قيادة مقتدى الصدر، ما يؤدي حكماً الى إضعاف مجمل التيار الصدري. تبدو مؤشرات تحرك التيار حالياً ملتبسة. فقد الغى مقتدى الصدر المسيرة المليونية، مثلاً، لكنه شن هجوماً مريراً على الحكومة، لكن سيتعين على قيادة التيار ان تدرس خياراتها بهدوء وعمق، وتفاضل بين الخيار السياسي والخيار العسكري، وتختار ما هو أفضل لتحقيق أهدافها المعلنة ومصالح العراق والعراقيين إلا إذا رأت أن الجمع بين الخيارين ممكن وأفضل.