لا يتساوى مع إدمان كيل الشتائم لأميركا جورج بوش "الإمبريالية المتحالفة مع الصهيونية"، سوى جَلْد ما بقي مما يُسمى النظام الرسمي العربي. وفي كلتا الحالين، الهدف تبرئة"المتمردين"على تلك الأمبريالية - وبعضهم يتمنى صداقتها بل التحالف معها ليحكم ما يشاء بسيفها - أو المنقلبين على شرعية عربية، من دم المواطن ومصيره البائس. شتم وجَلْد وصراخ ونحيب... فيما العرب يقلّبون روزنامة تواريخ النكبات. أمس الذكرى الستون لمجزرة دير ياسين، والذكرى الخامسة لسقوط بغداد، ومعهما ايضاً مشاريع نكبات صغيرة و"حروب"عربية، كتلك التي تلوّح بها حركة"حماس"و"الجهاد الإسلامي"لكسر الحصار الإسرائيلي الذي يخنق غزة. تلويح بكسر الحصار بدلاً من أن"يزعج"الإسرائيلي يثير قلق مصر من ممارسة"سلطة"غزة السياسة بمراهقة التحدي والهروب الى أمام، فتتحول مأساة الحصار التي أرادها العدو لإرغام"حماس"على تبديل خياراتها، الى مأساة مواجهة مصرية - فلسطينية، كما حصل مطلع السنة عند الحدود في رفح. منذ اقتحام الحدود وتفجير سياجها في شباط فبراير، وهرب مئات الآلاف من فلسطينيي غزة من الحصار، إنما في الاتجاه المصري المعاكس، لا شيء تبدل في سياسة"حماس"وأهدافها، رغم قبولها اللفظي المبادرة اليمنية للمصالحة الفلسطينية - الفلسطينية. وإذا كان أكيداً ان السلطة برئاسة محمود عباس لا يمكنها إلغاء ذاتها، بالاعتراف بسلطة موازية في غزة، ف"حماس"في المقابل لم تقدم أي تنازل يثبت استعدادها لإلغاء تجربتها في القطاع الذي تسميه الآن أكبر سجن في العالم، بحراسة الإسرائيلي. طريق مسدود للحركة مع الإسرائيلي، ولا نافذة مفتوحة واقعياً لحوار بين سلطتي الضفة الغربية والقطاع، يؤدي الى مصالحة فلسطينية، أي عودة العقل لمن يفترض انهم يديرون نضال شعب، بدمائه ورغيفه. فإذا كان الحوار بين"حماس"وأولمرت - باراك مستحيلاً الآن، وحوار عباس - هنية مستحيلاً في ظل"انقلاب"غزة، الى أي مصير تأخذ فلسطينيي القطاع - السجن أي مواجهة جديدة مع القوات المصرية على الحدود؟ ان تجريب الاختراق المعاكس، كما في اقتحام الموقع الإسرائيلي أمس والذي استتبع قتل فلسطينيين، لا يشي إلا بمحاولة الفصائل التذكير بسلطتها في غزة، فيما هي عاجزة بالطبع عن رفع الحصار الإسرائيلي بالقوة، وتعتبره"معيباً في حق العرب". بتبسيط شديد، تمارس"حماس"ممانعتها، بانقلاب على شرعية عربية هي السلطة الفلسطينية، ثم تستنجد بالعرب الذين"يتفرجون"... ترتكب الخطأ الكبير مع ما تسميه"النظام الرسمي العربي"، ثم تتهمه بالعجز. لكن مشكلة المراهقة السياسية التي كشفتها ممانعة"إيديولوجية"، منذ أطاحت"حماس"الهياكل الضعيفة للسلطة بذريعة اقتلاع الفساد والمفسدين في أرض القضية وواحتها، أنها لم تعد تميز في مكيال الأضرار، وحساب الربح والخسارة. بجردة بسيطة، يتبين حجم التراجع الذي ألمّ بالتعاطف الدولي مع قضية شعب حوصرت بين نار الأخوة وصواريخ الإسرائيلي، ويتبين أيضاً أن ما بدأ بمشروع لاقتلاع الفساد"الوطني"، انتهى بدماء فلسطينية واقتلاع عائلات من منازلها، وبسماء مفتوحة لغارات يشنها حارس السجن الكبير، من دون ان يخشى ولو بيان تنديد. ... لكنه لم ينتهِ بعد، إذ ان عجز"حماس"و"الجهاد الإسلامي"عن كسر المأزق، يرغمهما على كسر ما هو"محرّم"لدى مصر، أي اختراق حدودها مجدداً، ولو أدى تجريب إحراج القاهرة الى سقوط قتلى فلسطينيين برصاص مصري. هي إذاً، تجربة التشبث بنهج توسيع المواجهة، وتحويلها الى مشكلة مصرية - إسرائيلية بدلاً من ان تكون معضلة الفراغ التي انتهى إليها سلوك سلطة"حماس"في غزة: فراغ السياسة التي تنفض يديها من كارثة الجوع، ومأساة اصطياد إسرائيل المدنيين في القطاع. في حسابات السياسات الأخرى، ربما لن تتغاضى القاهرة عن دور أصابع حلفاء"حماس"في الخارج، في دفعها الى استفزاز الحكم المصري، لإبلاغه رسالة، فحواها القدرة على إزعاجه، رداً على مواقفه من ملفات أخرى إقليمية، مثل العراق ولبنان وغيرهما. والأكيد أيضاً إذا أصرت الحركة على اقتحام الحدود المصرية مجدداً، بذريعة كسر الحصار الإسرائيلي، أن قراءة القاهرة لن تتجاهل مغزى التوقيت، في ظل أزمات الداخل، وأقلها المواجهات مع"الأخوان"، والساعين الى كسر حصار الغلاء.