تشكّل المغامرة السرّيالية كوزمولوجيا من نوعٍ خاص: كوزمولوجيا عالمٍ تَيهي ذي بنية ومبادئ يصعب تحديدها، يشبه رقعة شطرنج تظهر باستمرار خاناتٍ جديدة داخلها وتقود دروبها دائماً إلى نقطة الانطلاق. ولعل ما يمنح الفن السرّيالي أهميته وميزته الأولى هو سعيه إلى اكتشاف هذا العالم - المتاهة من خلال مضمونٍ دقيقٍ ومقروءٍ وغامضٍ في الوقت ذاته، وعبر عملية تشييد تنطلق من داخل الفنان، بعناصر واقعية، لكنها تتسع وتتحوّل إلى ما لا نهاية، وفقاً لحاجاته وحريته. بهذا الانطباع نخرج من معرض"سرّياليون كبار"الذي افتُتح حديثاً في غاليري"مالانغ"الباريسية ويُشكّل لذةً بصرية صافية، وفي الوقت ذاته، اختباراً"جسدياً"حقيقياً. ست عشرة لوحة ضخمة يعود جزءٌ منها إلى الرعيل السرّيالي الأول الذي شارك في الاجتماعات الأولى في باريس، خلال العشرينات، أي ماكس أرنست وسلفادور دالي ورنيه ماغريت وأندريه ماسون وخوان ميرو وإيف تانغي، وجزءٌ آخر إلى فنانين انخرطوا في الحركة السرّيالية انطلاقاً من منتصف الثلاثينات، أي هانز بلمر وفيكتور براونر وأوسكار دومينغيز وجاك هيرولد وويلفريدو لام وروبرتو ماتا وولف غانغ بالن، وجزءٌ أخير لفنانين سرّياليين نشطوا خارج إطار الحركة ولم ينتموا يوماً إليها، أي بول دِلفو وفرنسيس بيكابيا ودوروتيا تانينغ. باختصار، بانوراما ممثّلة للفن السرّيالي تتحول بسرعة إلى عرضٍ مثير يخطف أنظار المشاهد وجسده معاً نظراً إلى الأحجام الضخمة للوحات المختارة. وتقليدياً، ارتبطت المقاييس الضخمة للوحة بطموح الفنان وخُصِّصت لفن رسم التاريخ. ومع الرسّامين الانطباعيين، وُضِع"الحجم الكبير"في خدمة مشاهد ريفية من الحياة اليومية مانيه في لوحة"فطورٌ على العشب"، ورونوار في لوحة"فطور الملاحين" أو دراسات للطبيعة مونيه في لوحة"النيلوفرات". ولكن مع مجيء السرّياليين، لم يعد في إمكان المُشاهد البقاء خارج فضاء اللوحة كمجرّد متأمِّلٍ في مشهدٍ سردي، بل اضطّر إلى الغوص داخل حقولٍ ملوّنة تبدو وكأنها ليست الا أجزاء من فضاءاتٍ أوسع ماتا، ميرو وتانغي، أو داخل رؤى كونية مذهلة دومينغيز، بالن، أو داخل عوالم خارقة أعيد تكوينها، وتحيا داخلها أشكالٌ ووجوهٌ غريبة أو مرعبة بلمر، براونر، دالي، أرنست، لام، ماغريت، ماسون، أو داخل فضاءاتٍ مغلقة يبدو الزمن فيها متوقّفاً دِلفو وتانينغ. ويفرض حجم اللوحة السرّيالية الضخم حواراً مع جسد المُشاهد الذي يجد نفسه مدعوّاً إلى ولوج العالَم المتخيَّل، أو بالعكس مستبعَداً من مشهدٍ يبقى ملغزاً كلياً بالنسبة إليه. وعلى رغم عدد اللوحات المحدود، يغطي المعرض حقل فن الرسم السرّيالي بكامله ويعكس تنوّع تعبيرات"قدرة التصوير السحرية"، التي تحدّث عنها أندريه بروتون عام 1928 في كتاب"السرّيالية وفن الرسم". ففي هذا الكتاب - المرجع، يأسف الشاعر لعدم استخدام التصوير la figuration في السابق إلا كنسخة عن الواقع مقيّدة به، ويشير إلى ضرورة المرئي لإحداث"ثورة في نظرتنا إلى الأشياء"، هدف السرّيالية النهائي. وفي هذا السياق، دعا بروتون آنذاك إلى إدخال"بقايا بصرية"من إدراكنا الحسّي على الأعمال التشكيلية، مثلما كان الشعر السرّيالي يستخدم كلماتٍ موجودة لابتكار لغةٍ أخرى. توجّهٌ تمكن ملاحظته بسهولة في لوحة تانغي"الضجر والسكون"1938، أو في لوحة ميرو"مشهدٌ وديك"1927، أو في لوحة دومينغيز"الفنتازيا الكونية"1938، حيث يتم استحضار أصداء عن الواقع قبل تحويلها. أما ماغريت فيجمع، في لوحة"الفجر في كايان"1926، عناصر من هذا الواقع يمكن التعرّف اليها بسهولة لتكوين رؤيةٍ جديدةٍ يستعيد المُشاهد داخلها عزلته ويصغي إلى صمت العالم. بينما تقترح لوحة تانينغ"غرفة الأصدقاء"1952 ولوحة دِلفو"الزيارة"1939 إستراتيجيةً أخرى تقوم على وصف الأجساد العارية بدقةٍ تجعل الواقع المصوَّر يتحرّر من واقعيته. وعلى صعيدٍ آخر، تجسّد بعض الأعمال المعروضة ذلك الشعور"بالغرابة المقلِقة"الذي هو مفهومٌ مؤسِّس للسرّيالية حدَّده فرويد"كحالةٍ نشككّ فيها بوجود روحٍ داخل كائنٍ حي، أو بالعكس نتساءل فيها إن كانت الأشياء الجامدة لا تملك روحاً معيّنة". بلمر وهيرولد مثلاً رسما أجساداً متراكبة في مشاهد، أو أجساداً - مشاهد. فالمخلوقات التي نلاحظها في لوحة بلمر"برجٌ من نعناع وبهار لمدح الفتيات الصغيرات الشرهات"1942، تغوص في ديكور من غيم يبدو كأنه يتمتع بالشراهة ذاتها. وكذلك الأمر في لوحة هيرولد"بلّورٌ متيَّم"1934، حيث يرسم بياض الجسد الممدَّد في خطّ أفقٍ بعيد. أما لوحة ماسون"غراديفا"1939 فتجسّد وحدها ذلك الانزلاق من الحي إلى الجامد، أو من الجامد إلى الحي. ويقارب الفنان فيها أسطورة"غراديفا"الجوهرية بالنسبة إلى السرّياليين والمستقاة من رواية ويلهايم جنسِن التي صدرت عام 1903 ويروي فيها قصة عالم آثار يُحيي تمثال امرأةٍ قديم بفعل قوة عشقه له. بعض الأعمال المعروضة تعكس مسألة جوهرية أخرى لفن الرسم السرّيالي: مسألة الآلية وعلاقتها بفن التجريد، لا بل تأثيرها التاريخي في انبثاقه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بروتون دعا إلى استخدام الآلية، وانتقد الفن التجريدي معتبراً أن تهديده لنظام المرئي مجرّد تهديد سطحي. ومع ذلك، أدّت الآلية السرّيالية إلى نظامَين تصويريين: الأول استمد معالمه من العالم الواقعي، والثاني تحرّر من أي تشابه مع هذا العالم، وتنتمي إليه لوحة بالن"السماء الأخطبوطية"1938 ولوحة ماتا"المحكوم بالضوء"1944 التي حققها في الولاياتالمتحدة وترك أسلوبها أثراً بالغاً في ما سيُعرف لاحقاً بالتعبيرية المجرّدة.